مِنْ اِرْتِسَامَاتِ التَّجْرِبَةِ الصُّوفِيَّةِ وَرُسُومِهَا - د. بَلِيغ حَمْدِي إسْمَاعِيل - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

مِنْ اِرْتِسَامَاتِ التَّجْرِبَةِ الصُّوفِيَّةِ وَرُسُومِهَا - د. بَلِيغ حَمْدِي إسْمَاعِيل



يظل القرن الخامس الهجري يمثل عصر المصنفات الكبرى في تاريخ التصوف الإسلامي ، وهي بالضرورة التاريخية حسب تأثيرها في عموم المسلمين تبدو تصنيفات فريدة من نوعها ، لأن مفادها آنذاك تلخيص التجربة الصوفية وتوضيح حقيقتها من حيث كونها قطعًا من الحكمة وتجارة مربحة مع الله مستعملة في طريقها العبادة الخالصة وإلزام النفس بأوامر الله ونواهيه والحرص الشديد على الطاعات وتأديتها ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، شكلت هذه المصنفات ملمحا مغايرا لما كان عليه التصوف لاسيما في تجربة الحسين بن منصور الحلاج التي بدت مغايرة ومغالبة أيضا لما كان هو سائد في التجارب الروحية . وربما فورة الصراع بين تجربة الحلاج التي تعد المرحلة الأخصب والأقوى والأشرس أيضا في تاريخ التصوف مع حكم عقيدة أهل السنة والجماعة التي رأت في التجربة الصوفية ضربا من الشك في العقيدة ، هي التي دفعت رجالا آخرين من أقطاب التصوف الإسلامي إلى تأليف تلك المصنفات التي تعزز الأسس والركائز الإسلامية الرصينة والعميقة للتجربة الصوفية .
وكما يشير المستشرق جوزيبي سكاتولين في كتابه القيم " التجليات الروحية في الإسلام " أن الغرض الرئيس من تلك المصنفات الصوفية هو الغرض التعليمي ، ويؤكد أن هؤلاء الأقطاب أرادو أن يصفوا أمام مريديهم السلوك الصوفي ومراحله المختلفة ، ومنازله المتصاعدة ومخاطره المتعددة أيضا ، فضلا عن أن هذه المصنفات تجد فيها وصفًا وافيا وشاملا للطريق الصوفي على مختلف أنواعه ومراحله. ولعل أبرز مؤلفي المصنفات الصوفية في هذا القرن الحكيم الترمذي الذي اعتمد على الموقف وطرح السؤال الذي بالضرورة يثير الدهشة ومن ثم اقتناص الوعي والانتباه والإدراك لدى المتلقي المريد ، وهذا ما فعله أيضا النفري في المواقف والمخاطبات ، وإذا كان كتاب الحكيم الترمذي " ختم الأولياء " يعد مؤلفا صوفيا للخاصة ، فإن كتابه " الرياضة وأدب النفس " يستحيل من الكتابات الصوفية التي اعتمد فيها على أسس الدين الإسلامي الرئيسة من القرآن والسنة لذا فهو مصنف صوفي لعموم الناس.
فلقد وجد التصوف نفسه في موقف المبرر والمدافع عن التهم التي وجهت للحسين بن منصور الحلاج واتهامه بالفسق ثم بالخروج على التقاليد والأعراف الدينية وأخيرا بالكفر ، فكانت ثمة ضرورة في توضيح موقف التصوف الذي لجأ إلى الاستناد على مصدري الشريعة القرآن والسنة الشريفة ، فكانت كل النصوص والطروحات الصوفية لا تخرج عن المصدرين ورد كل فكرة وحال ومقام إليهما وهذا دفع الكثيرون إلى الاعتراف بأن التصوف لا يخرج عن الدين ولا عن القيم والأخلاق الإسلامية الرشيدة . وسرعان ما تحول المهاجمون إلى منسجمين مع الطرح الصوفي انسجاما تاما ، وتستحضر تلك السطور ما قاله الإمام أبو الحسن الشاذلي : " من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو بدعي " ، وقوله : " إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس في جماعة فلا تعبأ به " .والإمام الجنيد يؤكد دوما على الصلة الوثيقة والعلاقة المتينة بين التصوف والشريعة فقال : " الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفى أثر السول صلى الله عليه وسلم ، واتبع سنته ، ولزم طريقه ".
ومن أبرز المتصوفة المنتسبين لهذا العصر الذهبي في التصنيف والتأليف السراج الطوسي ، الملقب بطاووس الفقراء ، وتأتي ترجمته بموسوعة " ويكيبيديا " العالمية بأنه زاهد، كان شيخ الصوفية، على طريقة السنة. ملقب بطاووس الفقراء وتنقل بين بلاد كثيرة، منها: القاهرة، وبغداد، ودمشق، والرملة، ودمياط، والبصرة، وتبريز، ونيسابور. ويعد كتابه « اللمع في التصوف » بمثابة موسوعة في تاريخ التصوف الإسلامي وطبقات الصوفية وعلومهم ومصطلحاتهم وأقوالهم وأحوالهم.
ومشكلة السراج الطوسي هي قلة الأنباء والأخبار عنه ، وأن المهمومين بتأريخ حركة التصوف الإسلامي لم يعيروه اهتمام يليق بمكانته وتصانيفه ، بالرغم من أن المستشرقة الألمانية الكبيرة " آنا ماري شميل " ذكرت أن ول مرجع في التصوف الإسلامي يعرض بشكل متكامل الطريق الصوفي مع ذكر مصادر عديدة له هو كتاب اللمع ، وهو كتاب جامع شامل للتصوف الذي قسمه إلى مائة وخمسين بابا ، اجتهد فيه أن يرصد ويصف رؤية الصوفية لمقام الوجد. وفيه يعرض الطوسي سبب تأليفه للمصنف فيقول : " واعلم إن في زمننا هذا قد كثر الخائضون في علوم هذه الطائفة ـ يعني الصوفية ـ  وقد كثر أيضا المتشبهون بأهل التصوف والمشيرون إليها ، والمجيبون عنها وعن مسائلها ، وكل واحد منهم يضيف إلى نفسه كتابا قد زخرفه ، وكلاما ألفه ، وليس بمستحسن منهم ذلك ، لأن الأوائل والمشايخ الذين تكلموا في هذه المسائل وأشاروا إلى هذه الإشارات ونطقوا بهذه الحكم إنما تكلموا بعد قطع العلائق وإماتة النفوس بالمجاهدات والرياضات والمنازلات والوجد والاحتراق والمبادرة والاشتياق إلى قطع كل علاقة قطعتهم عن الله عز وجل طرفة عين وقاموا بشرط العلم ثم عملوا به ، ثم تحققوا في العمل فجمعوا بين العلم والحقيقة والعمل" .
ولمكانة الكاتب والكتاب يقول عنه المستشرق نيكلسون : " ومن العجيب أن يغفل مؤلفو التصوف القديم شأنه ، فلم يؤلفوا عنه أسفارا تحوي لنا تاريخه وتراجمه وأحواله ،مع أنه كان فريد عصره ، راسخ القدم في علوم القوم ، وشيخًا لمذهبهم في الزهد والتصوف ، وكم كنت أتمنى لو سبق وجودي إلى عصره الذهبي أو الذي يليه لأترسم خطاه ، وأتتبع آثاره وأخباره وأحواله ، فأميط اللثام عن مستور لو كشف لعبق عبيره ، وطيب شذا عرفه الأنام ".
وإذا كان الصوفيون هرعوا بعيدا باجتهاداتهم عن أبواب الجدل التي أثارت الخصومة ، إلا أن فصل المحبة نفسه يعد أروع مثال لتجارب الصوفيين التي لا تعرف للتشابه سبيلاً ، ولا تؤدي للنمذجة طريقاً ، لذا فإننا نجد ثمة أقوال متباينة عند حديثهم عن المحبة والوجد ، لدرجة أن أبا نصر السراج الطوسي يقول : " اختلف أهل التصوف في الوجد : ما هو ؟ فقال عمرو بن عثمان المكي : لا يقع على كيفية الوجد عبارة ؛ لأنها سر الله تعالى عند المؤمنين الموقنين " .
وكتاب " اللمع " للسراج الطوسي نجد حديثا ماتعا وشاملا عن الوجد ، من حيث ذكر اختلاف الصوفية في ماهية الوجد ، وتواجد المشايخ الصادقين ، وقوة سلطان الوجد وهيجانه وغلباته ، وأيضا حديثه عن صفات الواجدين ، وفيه يقول أبو نصر عبد الله السراج الطوسي : " يقول الله تعالى : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ( سورة الزمر ، الآية 23 ) ، هذه صفة من صفات الواجدين ، وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ( سورة الحج ، الآية 35 ) ، فالوجل صفة من صفات الواجدين ، وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا ) ( سورة النساء ، الآية 41 ) فصعق ، فالصعقة صفة من صفات الواجدين" .
ويسهب السراج الطوسي في حديثه عن صفات الواجدين فيقسمهم إلى طبقتين ؛ واجد، ومتواجد ، أما الطبقة الأولى الواجدون فهم على ثلاثة أصناف كما يذكرهم بكتابه " اللمع " ، يقول : " فصنف منهم : وجدهم مصحوبهم ، إلا أنه يعارضهم في الأحايين دواعي النفوس والأخلاق البشرية ومزاج الطبع ، فيكدر عليهم الوقت ويتغير عليهم الحال . والصنف الثاني : وجدهم مصحوبهم ، إلا أنه إذا طرأ عليهم ما يشاكل وجدهم من طوارق السمع تنعموا بذلك وعاشوا وانتعشوا ، ثم يتغير عليهم الوجد. والصنف الثالث : وجدهم مصحوبهم على الدوام ، وقد أفناهم ذلك الوجد ، لأن كل واجد قد فنى بما وجد ، فليست فيهم فضلة عن موجودهم ، لأن كل شيء عندهم كالمفقود عند وجدهم بموجودهم بذهاب رؤية وجدهم " .
ثم ينتقل السراج الطوسي إلى الحديث عن الطبقة الثانية من أهل الوجد وهم المتواجدون ، والذين يقسمهم إلى ثلاثة أقسام أيضا في تواجدهم ، فيقول : " أما المتواجدون فهم أيضاً على ثلاثة أصناف في تواجدهم ، فصنف منهم : المتكلفون والمتشبهون وأهل الدعابة ومن لا وزن له . وصنف منهم : الذين يستدعون الأحوال الشريفة بالتعرض بعد قطع العلائق المشغلة والأسباب القاطعة ، فذلك التواجد يجمل منهم ، وإن كان غير ذلك أولى بهم ، لأنهم نبذوا الدنيا وراء ظهورهم ، فتواجدهم مطايبة وتسلياً وفرحاً وسروراً بما قد عانقوا من خلع الراحات وترك المعلومات ... فالتواجد من الوجد بمنـزلة التباكي من البكاء . وصنف ثالث : أهل الضعف من أبناء الأحوال وأرباب القلوب والمتحققين بالإرادات ، فإذا عجزوا عن ضبط جوارحهم وكتمان ما بهم تواجدوا ونقضوا ما لا طاقة لهم بحمله ، ولا سبيل لهم إلى دفعه عنهم ورده ، فيكون تواجدهم طلباً للتفرج والتسلي ، فهم أهل الضعف من أهل الحقائق"  .
وفي كتابه " اللمع " بذل السراج الطوسي جهدًا محمودًا في إبراز الجوانب الأساسية للإسلام وهي القرآن الكريم والسنة النبوية في التصوف الإسلامي ، وهو في ذلك بذل مشقة كما تشير ترجمته من حيث إنه تقمص دور عالم النفس من جهةٍ ، ومن جهة أخرى كان حكيما ربانيا مبصرا ببصيرة إلهية يتسلل بوساطتها إلى خفايا الصدور وخفقات القلوب كما كان يتسلل إلى دقائق المعرفة ورقائق الذوق فيكشف عن أخطاء العابدين وعقد الذاكرين وتلبيسات المحبين ووسوسة الزاهدين وهي أخطر عقبات الطريق ومزالقه، فجلى لنا بذلك وجه التصوف الإسلامي كما جاء به القرآن وكما صوره النبي المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) وكما عاشه رجاله وأعلامه وهم الصفوة من خلق الله والخيرة من عباده وخزائن العلم والمعرفة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق