اليسار التونسي .. قصّة سقوط مدوّي - شكري بن عيسى - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 20 أكتوبر 2019

اليسار التونسي .. قصّة سقوط مدوّي - شكري بن عيسى



لعلها أكبر الهزّات في الانتخابات التشريعية، فلم تحصل "الجبهة الشعبية" الممثل الاساسي لليسار سوى على نائب "يتيم"، والافظع انها تدخل في انشقاق رهيب، تفقد بعده او تكاد ما راكمته طيلة عقود من مشروعية ومصداقية، ما يطرح كل الانشغالات حول استمرار اليسار في تونس فكريا وسياسيا وميدانيا، ويطرح السؤال الاعمق اليوم عن كيفية تصوّر المعارضة البرلمانية دون يسار.
اليسار اليوم في تونس في احلك لحظاته بعدما كان لما يزيد عن قرن تعبيرة سياسية ونقابية وفلسفية واجتماعية، اليوم يدخل في ازمة عميقة وخسر حتى مربعات مقولاته الثورية والسيادية لفائدة تعبيرات سياسية اخرى، مثل قيس سعيد الذي تصدر الدور الأول للرئاسة بمقولات الثورة والارادة الشعبية والمجالس المحلية والعدالة الاجتماعية، وائتلاف الكرامة لسيف الدين مخلوف الذي يرفع مقولات الثورة والسيادة على الثروات برغم تصنيفه اليميني، وكذلك بعض التعبيرات "الاجتماعية" مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب، وحتى المترشح نبيل القروي الذي يطرح نفسه كمدافع عن الفقراء والمعدومين برغم تصنيفه الشعبوي.

تحولات كبرى تعرفها الساحة السياسية التونسية، مع انكساف شبه كامل لليسار في البرلمان القادم، بتراجع الكتلة الاولى في المعارضة (الجبهة الشعبية) من 15 نائبا وترؤس لجنة المالية وامكانية ترؤس لجنة تحقيق برلمانية، الى وجود بنائب فقط من حزب الجبهة وتلاشي للكتلة البرلمانية، فضلا عن التراجع الشعبي في الرئاسية اذ لم يحقق كل من المترشحين الرحوي والهمامي حتى 1% من الاصوات، بعد ان كان الهمامي الثالث في رئاسيات 2014 بما يزيد عن 255 الف صوتا ونسبة تقارب 8%.
ولعلّ ابرز الاسباب تعود الى فتور الرأس مال الرمزي الذي تحقق بعد اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد، ولكن ايضا بعد الاجترار الكبير لنفس المقولات والمفاهيم والمقاربات، التي لم تحقق نتائج فعلية في تغيير الواقع بالرغم من الفشل الحكومي العميق، ولم تتجدد بما يستوجب في ظل افتقار للديمقراطية والحوار داخل هياكل الجبهة، ما قاد الى مزيد الاختلافات الى حد التنازع الحاد داخليا، خاصة بين الوطد الذي يتزعمه (فعليا) الرحوي وحزب العمال الذي يتزعمه الهمامي، في ظل طغيان جارف للزعامتية وتورّم مرضي للأنوات، تحوّل عبره الصراع من صراع ضد السلطة والهيمنة والاستغلال الى صراع داخلي مقيت.
اليسار كان تعبيرة البطالين والمفقرين والطلبة والعمال والمهمشين عموما، وعبر عن البعد الاجتماعي والاقتصادي بقوة، وناهض الاستعمار والاستغلال والاستلاب وكل أشكال الهيمنة، وحارب الرأسمالية ومقولات السلعنة والاستهلاك والاستعراض والاشهار والتضليل الاعلامي، وكرّس الابعاد الانسانية والحقوقية والعدالة الاجتماعية المضمنة بالعهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية (الجيل الثاني للحقوق)، واذ قاد الحكم في عديد البلدان الاوروبية لعقود عديدة فقد ترسّخ وجوده اكثر في المجال النقابي والاحتجاجي والمعارضة، وكان تعبيرة نضالية ملتزمة ومقاومة فكرية وسياسية وميدانية.
والتعبيرات الفلسفية والفكرية تجددت عموما من لويس التوسير الى طوني نيغري وسلافوي جيجك ونعوم تشومسكي مرورا بغرامشي ومدرسة فرانكفورت النقدية ورائدها هبرماس، الذين مثلوا تجديدا واسهامات جذرية، ومثّل في 2013 كتاب توماس بيكتي Thomas Piketty "راس المال في القرن الواحد والعشرين" Le Capital au XXIème siecle، المنادي للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ابرز المساهمات الفكرية الذي حقق اعلى المبيعات في فرنسا فضلا عن امريكا، وبرغم كل الزخم الفلسفي والسياسي والاقتصادي اليساري في العالم فان تونس لم تستفد في الوقت الذي تجمدت الاسهامات.

في تونس بالمقابل ما يجدر الاشارة اليه هو التراجع الكبير للانتاج الفكري والفلسفي والثقافي لليسار، بعدما كان ينتج اهم الدراسات والبحوث (مجلة اطروحات نموذجا)، والفرق الموسيقية والمسرحية (البحث الموسيقي، الحمائم البيض، اولاد المناجم..)، في تماهي مع الفن الملتزم العربي مع الشيخ امام ومارسال خليفة، والشعر الذي تزعمه شاعر اليسار الرمز الصغير اولاد احمد الذي ضاهى في شهرته شاعر المسحوقين احمد فؤاد نجم عربيا، وهذا بالرغم من الاهمية العددية والنوعية (في اختصاصات الفلسفة والادب والسوسيولوجيا والحضارة.. ) للنخب اليسارية في تونس.
اليسار تاريخيا وعبر العالم مثل تعبيرة ايديولوجية عميقة، غيرت وجه الانسانية فكريا وسياسيا في بداية واواسط القرن العشرين، والى الان تنحسر مساحاته ولكنها تتوسع وتستعيد مكانتها، وفي جنوب امريكا يطرح مقولات جديدة في تزاوج مع الثقافة والهوية المحلية، كما تتجدد اهتماماته مثل البيئة والهجرة، ويستعيد بذلك النفوذ والألق والجاذبية، وفي فرنسا في انتخابات الرئاسة في 2017 مثل ميلونشون Melenchon بحركته "فرنسا الابية" تعبيرة سياسية قوية جذبت اليها الملايين، ونفس الشيء بالنسبة للخضر Les Verts الذين يسجلون ارقاما محترمة، وهو ما لم نشهد له مثيلا في تونس حيث ساد التشقق في ظل الجمود في انتاج المقولات والمفاهيم والشعارات الجديدة، برغم المساهمة الكبرى لليسار في تونس في اسقاط الاستبداد، وفي الارتقاء بمقولات الثورة سياسيا في 2010 و2011 ، حيث كان شعار "خبز، حرية، كرامة وطنية" اليساري المرجعية العنوان الابرز للثورة.
والحقيقة انه لا يمكن تصوّر وجود برلمان في تونس في ظل غياب اليسار وصوته ومقولاته ومفاهيمه ومرجعياته وشراسته السياسية والميدانية، حتى ان كانت بعض التعبيرات اليسارية حاضرة بطريقة هامشية او منحسرة، والادهى هو في وجود تعبيرات او تعالي اصوات تتحوّز المقولات اليسارية، وتتاجر فيها وترفع عناوينها بشكّل محرّف مشوّه، في قطيعة عن كل مشروعية ومصداقية مفاهيمية وتاريخية وميدانية !
(*) باحث في القانون وفي الفلسفة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق