حول كتابة يون فوسيه - كارل أوفيه كونسغورد - ترجمة محمد حبيب - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 6 أكتوبر 2019

حول كتابة يون فوسيه - كارل أوفيه كونسغورد - ترجمة محمد حبيب


منذ أيام كنت أقرأ مقالات يون فوسيه. كل مقالاته تلك كُتبت ما بين 1983 و2000، أي في النصف الأول من نقلته النوعية وانغماسه المستمر وغير العادي في كم هائل من العمل الذي ينطوي على أجناس مختلفة من الأدب: رواية، شعر، رواية قصيرة ودراما-وكلها وُلدت بذات الختم المميز. فما أثارته روايته الأولى (أحمر، أسود) في 1983 لا يختلف كثيراً عما أثارته مسرحيته الأولى (ولن ننفصل أبداً)، التي كتبها بعد عشر سنوات، أو روايته الحديثة (تعب) التي نُشرت في 2014، وغيرهما من الأعمال الكثيرة.
ما هو مصدر كل هذا الوضوح الذي يشعُّ من كلِّ ما قد كتبه يون فوسيه؟ ليس فقط الأسلوب (أسلوبه)، التكرارات، التلافيف، الطبقات الدماغية، الأفكار، الفيوردات، قوارب التجديف، المطر، الأخوة، الموسيقا، بل ما يتجلى في كل هذه الأشياء أيضاً.
ما هو؟  
 البطل في رواية (الخضوع) لميشيل ويلبيك ينعكس على طبيعة الأدب، التي يقول ويلبيك إنه ليس من الصعب تحديدها. تستطيع الموسيقا، مثل الأدب، أن تجتاحنا بمشاعر مفاجئة، كذلك اللوحة الفنية يمكن أن ترينا العالم من خلال عيون جديدة، لكن الأدب وحده يمكن أن يضعنا في تماس مباشر مع روح إنسانية أخرى بكل مكامن ضعفها وعَظَمَتِها، وهذا الحضور للآخر هو جوهر الأدب، على رأي ويلبيك، الذي يعبر عن دهشته من أن الفلاسفة لم يكرّسوا لهذه الملاحظة البسيطة سوى اهتمام ضئيل.
قد يكون ميشيل ويلبيك أقرب الكُتّاب المعاصرين إلى الموقع الذي يشغله فوسيه. روايات ويلبيك فكرية، استفزازية، تنخرط في المعاصر، تحرر من الوهم، ذكية، متشائمة، ويبدو أنها تلتفت إلى القارئ بطريقة ما. بينما نادراً ما تحتوي كتابات فوسيه على فكرة، وليس فيها أدنى استفزاز، لا تُكثر من الالتفات إلى المعاصر أو تتجاهله تماماً. وعلى الرغم من أن أعمال فوسيه غالباً ما تتناول الموت وتستكشف نوعاً من الوجود الصفري، فهي ليست على الإطلاق محرِّرة من الوهم وليست متشائمة بالتأكيد، بل إنها مليئة بالأمل. فعتمة فوسيه مضيئة دوماً. علاوة على ذلك لا تلتفت كتاباته إلى القارئ أبداً، لكنها مفتوحة تماماً. كتابات ويلبيك تعكس كل شيء، وترمي كل شيء إلى الوراء، يرى فيها القارئ نفسه وزمانه، بينما تمتص كتابات فوسيه القارئ، إنها شيء يتلاشى فيه القارئ، كما الريح في الظلام. هذه هي الخصائص الأساسية في أعمال فوسيه، كما أن النقيض هو الخصائص الأساسية في أعمال ويلبيك. وفي هذا يقف كلا الكاتبان على طرفي نقيض.
 
لكن ما يقرّبهما هو ما يصنع أدبهما، وهذا ما يلفت ويلبيك انتباهنا إليه في روايته (الخضوع) بمفردات بسيطة مستفزة: حضور روح إنسانية في الكتابة. هذه ليست مسألة أسلوب أو شكل، ثيمة أو مضمون، بل هي صدى كتابة شخصيةٍ بعيّنها داخلنا، بصرف النظر عما إذا كنا نقرأ روايات روسية من أواخر القرن العشرين كُتبت بتقنية الشخص الثالث أو الشعر السويدي بلغة المتكلم في بدايات القرن العشرين. بقدر خصوصية الكتابة لكاتبها، بقدر خصوصية وتعبيرية روح الكاتب، يعلو شأن الأدب، خصوصا أن حضور روح الشخص الآخر يكون عندئذ هو السمة الأساسية. لغة الإعلان، لغة الكتاب المدرسي، لغة الصحافة والإعلام، هي لغة مُتَقَوْلِبَةٌ، هي لسان الحقيقة المقبولة والمصطلح الثابت. والكتب المكتوبة بلغة هذا العالم الاجتماعي مشبعة بروح زمانها. عندما يمضي زمانها، تبقى هي لغة الزمان البائت الباهتة.
فمعظم كتب ستينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، تعبِّر فقط عن الزمان الذي كُتبت فيه. وتشبه كثيراً الصور التي تخبرنا عن موضة اليوم. لهذا السبب، الأدب النمطي لا يدوم، ما يدوم هو الأدب الذي لا يتَقَولَبُ كما يناسب لغة كل الفضاء الاجتماعي، بل الذي يتحداها. فنحن لا نقرأ رواية (الفناء) لتوماس برنارد لنعرف عن المجتمع والأدب النمساويين ما بعد الحرب، ولا لنكتشف ماذا يعني أن يفقد المرء والديه، بل لننغمس بأنفسنا في نثر توماس برنارد، الذي ينتزعنا من أنفسنا ويلقينا بسرعة في شيء آخر كلياً، شيء فريد واستثنائي. وفي هذه الفرادة والاستثنائية المعروفة لنا جميعاً، والتي هي حقيقة العالم وحقيقتنا، هناك، في هذا التناقض، تكمن شرعية الأدب.
قد يجادل البعض في أن الزعم بأن طبيعة وجوهر الأدب تتكون في وجود الشخص الآخر في الكتابة هو اختزال غير مقبول. بعبارة أخرى، أنْ تنتزع الجانب الاجتماعي والجانب السياسي من الأدب وتعود إلى النزعة الأصيلة للعصر الرومانسي حيث كان الشخص الفرد هو المهم، وتزعم في الوقت نفسه أن الأدب هو حضور الآخر في الكتابة، فهذا لغوٌ لا يُفضي إلى شيء، ولا يعطينا أي تبصُّرٍ مميزٍ، ولا أي فهم للعمل الأدبي، إلا ربما أنَّ كُتُبَ ميشيل برنارد قد كتبها برنارد نفسه. وأن هذا إفراط في اختزال كل الأساس الأكاديمي للدراسات الأدبية، أو على الأقل يجعل اجتياز الامتحان أسهل كثيراً، ذلك أن السؤال الأكثر علائقية سيكون عندئذٍ: " من الذي كتب (الفناء) لبرنارد؟" أو في الشأن نفسه: " من كتب (المرفأ) ليون فوسيه؟"
كتب يون فوسيه رواية (المرفأ)، التي تبدأ بعبارة: " لم أعد أخرج، لقد انتصر عليَ القلق، وأنا لا أخرج". لا تشبه (المرفأ) أية رواية من جيلها، لنقل جيل أواخر ثمانينيات القرن العشرين، لكنها تشبه كثيراً ما كتبه يون فوسيه من قبل، وما كتبه منذئذٍ. الحضور الذي يشعر به القارئ، منذ العبارة الأولى في الرواية، هو حضور يون فوسيه. لكن هذا الحضور ليس حضور سيرته الشخصية، ولا استفزاز الشخص الذي كانه في ذلك الوقت (وإلا كان سهلاً نسبياً بالنسبة لي؛ فقد كان يون فوسيه أحد أساتذتي في الكتابة الأكاديمية عندما صدرت روايته: المرفأ) وهذا ما كان ليضفي أهمية كبيرة بالنسبة لقراءتنا للرواية، أو ربما كان سيضفي اعتبارات ضئيلة جداً فيما يخص الزمان والبيئة الاجتماعية اللذين كُتبت فيهما الرواية. في الواقع، إن الحضور الذي نشعر به يتعلّق بقبولٍ معيَّن، يقظة معيّنة، مزاجية معيّنة، وما يفتحه لنا، هذا الحضور، في النص. الأمر المحيِّر في الكتابة هو أنه يبدو من المسموح للذات أن تختفي، وأن جوهر تصورنا-الذاتي الذي يحافظ عادة على وَحدَة الأنا، يصبح ممتزجاً، ويُعاد تشكيل الكينونة الداخلية بطرق جديدة وغير مألوفة.
يحدث الشيء نفسه عندما نقرأ، تُتركُ الذات لتختفي ونحن ننجرف مع الكلمات عبر الصفحة، ولبعض الوقت نسلم أنفسنا لـ أنا مختلفة ومفتوحة، لكنها واضحة ومرئية بالنسبة لنا، في ايقاع معيّن، في شكل معين، بإرادة معيّنة. في هذا اللقاء مع الكاتب الغيري والقارئ الغيري، يُشَكَّل الأدب. وإن كان الأدب جيّداً، فذلك يستدعي الأمزجة والنغمات الموجودة دوماً، لكنها لا تُسمع عادة في ضجيج العالم اليومي أو في قبضة الأنا الحديدية ومعرفتنا-الذاتية. هذه الأمزجة والنغمات تثير فينا آخراً، ليس أقلَّ منّا تجربة حقيقية صادقة، لأن كل شيء مرتبط بالمشاعر الموجودة في الرواية، في القصيدة أو المسرحية، التي هي الوسط الذي من خلاله يتم التواصل مع العالم. في الأدب، تمتزج تشكيلاتنا للعالم ولأنفسنا، كما نمتزج نحن أنفسنا عندما نقرأ، وبهذه الطريقة نقترب من بعضنا، أو من العالم.

مقالات يون فوسيه في معظمها عن الأدب والفن. وهي غير مرتبطة بالسيرة الذاتية، ولا بالجوانب السوسيولوجية أو التاريخية للأدب والفن، لكنها تدور بثبات حول الجوهري بالنسبة لهما، ما يجعل الأدب أدباً والفن فناً. وبما أن هذا يتكون دوماً في الخصوصية، ودائماً فيما هو مناسب لهما، بمعنى أن ما يجعل الأدب أدباً والفن فناً يوجد فقط في الأدب والفن نفسهما، بتلك الطريقة الفريدة تدور مقالات يون فوسيه حول غير القابل للاختزال، غير القابل للترجمة، وحول الغامض.
في مجموعة مقالاته الأولى (من الَقصِّ عبر الإظهار إلى الكتابة)، نرى أن الخصائص الغامضة وغير القابلة للتفسير ترتبط بالكتابة ذاتها. بينما يرتبط القص بالعالم الاجتماعي، بحالة السرد ذاتها، وعلاوة على ذلك يحتوي على عنصر من عناصر التسلية: الكتابة، التي يبدو أن فوسيه يعتقد أنها تتصل بشيء آخر، ذلك الجزء من لغتنا التي ربما تعبِّرُ عن ذاتها فقط، مثل صخرة أو صدع في جدار. الغامضُ ذاتيٌ، وهنا  يشعر المرء أن لغة فوسيه وتفكيره قد تشكّلا في نظرية الأدب في ثمانينيات القرن العشرين. في مجموعته الثانية ( مقالات في الغنوصية)، التي نٌشرت بعد عشر سنوات، يبقى هذا الجانب الغامض محورياً، رغم أنه يرتبط الآن مع شيء مختلف تماماً، مع المقدّس. القفز من الكتابة والكاتب كما هما مُأفهَمَيْنِ في نظريات الأدب إلى مفهوم المفهوم الديني للمقدّس قد يبدو هائلاً، لكن ليس هذا هو الحال بالضرورة أبداً، وبطريقة ما يكتب فوسيه هنا في كلتا الحالتين عن خاصية الأدب ذاتها بالضبط، حتى لو جرت مقاربتها الآن من زاوية مختلفة. وهو يلمّح إلى الرابط في عنوان المقالة ذاتها:
القاص هو البَليغُ، الكاتبُ ضد-البليغ. يتم التَعَرُّف على الشخصية الأدبية
 في هذا الشكل أو ذاك من البلاغة. الشخصية التي تفتقر إلى اللغة هي فقط
الشخصية الحُرّة. واللّالغة ينبغي ألا تصنع فارقاً. ذلك يعني الله. بمعنى ما،
على الكتابة الحيّة أن تستعيد باستمرار التوق إلى ذلك الذي ينقصه الفارق،
إلى المقدّس، وفي الروايات الجيّدة ربما تستطيع أن تلاحظ شيئاً كهذا.
بالمثل، الفارق بين مقالات يون فوسيه وأدبه هائل جداً. فبينما تقف مقالاته خارج الفن وتُمعنُ النظر فيه، تسبره وتستقصيه، متسائلة عن طبيعته بطرق مفهومة لي، لك، لنا، وترتبط بالتالي بالعالم الاجتماعي، متنقلةً بطريقة تبدو فيها، تلك المقالات، تشبه زمانها (في الـ 1980s والـ 1990s ). فالعكس صحيح بالنسبة لأدب فوسيه، الذي بدلاً من أن ينظر من الخارج إلى الداخل، ينظر من الداخل إلى الخارج، إلى العالم والقارئ معاً. صوت يون فوسيه واضح تماماً في كل ما يكتبه، ولا وجود لأي شيء إن غاب الصوت، لكن في حين أن صوت المقالات هو حضور معاصر لزمانها، فإن صوت فوسيه هو حضور منفصل عن زمان فوسيه المعاصر، لكنه أكثر ارتباطاً بشيء آخر، ذلك الشيء الذي تسعى المقالات إلى عزله بشتى الطرق وفقاً لزمان كتابتها. ويبقى الغموض نفسه، على أية حال. لم يكتب أحدٌ بتبصرٍ عن أدب يون فوسيه كما فعل ليف تولستوي في (الحرب والسلم) في تلك الصفحة التي يتأثر فيها بطله، الأمير أندريه، بمقطوعة موسيقية إلى حد البكاء ويحاول أن يفهم السبب. ويجد أندريه السبب في الفارق المخيف بين اللّامتناه اللامحدود داخله وبين قيود عالمه الدنيوي. هذا التناقض بين اللانهاية داخلنا والقيود الخارجية، يُحرّك كل ما قد كتبه يون فوسيه.
كارل أوفيه كنوسغورد، روائي نرويجي (مواليد 1968) وحاصد جوائز، منذ روايته الأولى ( خارج العالم) التي فازت بجائزة النقاد النرويجيين. واستُقبلت روايته ( زمان لكل هدف تحت السماء) بحفاوة كبيرة. كما نال جائزة براغ المرموقة عن روايته ( موت في العائلة) وهي الجزء الأول من  سداسيّته الرائعة (كفاحي) التي يُرحب بها كتحفة أدبىة أينما حلًت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق