“اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم… ولكن المهم هو تغييره” - كارل
ماركس
ربما لا يستحق “المثقف” تسميته ما لم يبحث في الماهية التي يتشكل منها وفي
الهوية التي ينتمي إليها. لذا كان على “المثقف” دائما أن يترحل باحثا عن أبعاد
هويته الذاتية، ولا غرو في ذلك، فمبحث “المثقف” يفيض بالتشويق ويتدفق بالإثارة،
وقلما نجد مفكرا بارعا لم يخض في هذه القضية ويبلي فيها بحثا في دلالاتها وغوصا في
معانيها. وقد تقاطرت الأبحاث وتواترت النظريات في هذا الميدان لتشكل مجالا حيويا
بالغ الاستقطاب في العلوم الإنسانية ولاسيما في علم الاجتماع السياسي وعلم
الاجتماع التربوي على حدّ سواء.
وقد دأب المثقفون أنفسهم على البحث المستمر في ماهية “المثقف” ودوره، فوظفوا
أدواتهم النقدية استقصاءً للعلاقة الحيوية بين “المثقف” والثقافة، كما بين
“المثقف” والحياة والإنسان، واستطاع هذا الموضوع أن يستقطب جلّ الباحثين والدارسين
فتكاثفت أعمالهم وتكاثرت أبحاثهم في هذا الميدان المثير.
ومن أجل استجلاء مفهوم “المثقف” ومعاينة حدوده وأبعاده، تتجه هذه الدراسة إلى
استجواب الأعمال الفكرية للباحثين في هذا الميدان، والترحال في تضاريس النظريات
الفكرية التي تناولت هذا الموضوع لاستكشاف طبيعة العلاقة التي تربط المثقف النقدي
بالحياة وقضايا الثقافة. وفي هذا الترحال تقتضي منهجيتنا – تجنبا للضياع في
المتاهات- أن نبدأ في رحلة البحث عن “المثقف” بأسئلة بسيطة واضحة حول ماهية المثقف
وصورته: من المثقف؟ وكيف نعرفه؟ وما أوج علاقته بالثقافة؟ وما هي أبعاده بالحياة؟
ومن هو “المثقف” العضوي أو الملتزم أو النقدي؟ وما هي أهم النظريات التي تناولت
قضية العلاقة بين “المثقف” والثقافة والحياة؟ تلك هي الأسئلة التي تشكل الإطار
العام لهذه الدراسة حول “المثقف” في تقاطيع صلته بالوجود الاجتماعي والحياة
الثقافية بما تنطوي عليه من قضايا وإشكاليات.
ما بين
الثقافة والمثقف
تأخذ العلاقة بين الثقافة والمثقف صورة صميمة جوهرية لا انفصام فيها، إذ لا
يمكن فهم “المثقف” إلا في ضوء مفهوم محدد للثقافة، فالمثقف وليد الثقافة، صقل بها
وتشكل في بوتقتها. وتتمثل الثقافة انتروبولوجياً في العلاقة الحيوية بين الإنسان
والوجود مسلكاً وروحاً وفعلاً وحياة، وهذا يعني أن الثقافة بصورتها الأنتروبولوجية
هي الحياة الإنسانية بأشمل معانيها وأعمق تجلياتها. وضمن هذا التصور الشامل للحياة
الثقافية يصعب علينا تعريف “المثقف” إذ لا بد من تجاوز المفهوم الأنتروبولوجي
للثقافة والخوض في مفهوم الثقافة الإبداعية، أي: في الجانب الواعي للثقافة الذي
يتمثل في الجوانب العليا من الانتاج الثقافي في مجال الوعي العام وفي فضاءات
العلوم الإنسانية من فلسفة وفكر ودين وفن وأدب وشعر وموسيقى ومسرح، وفي عمق هذا
التموج الثقافي للوعي الإنساني يمكننا أن نستجلي فهمنا للمثقف بوصفه صورة راقية
للوعي الإنساني في أكثر جوانبه نضجا وتطورا وانطلاقا. وهذا يعني أن “المثقف” هو
المرآة التي تنعكس فيها الثقافة الواعية الإبداعية للمجتمع الإنساني حيث يتماهى
“المثقف” مع إرادة التغيير في الحياة ويتفاعل مع الثقافة بوجهها الإنساني على حدّ
سواء.
فالمثقف وفق هذه الرؤية وعي ثقافي، تتجلى قدرته على امتلاك الحقيقة، والتأثير
فيها، وإعادة تشكيلها وانتاجها روحيا وأخلاقيا وإنسانيا، والثقافة التي تميّزه هي
في هذه الحالة ثقافة الأخلاق والحياة التي تتمثل في قيم الحق والعدل والخير
والجمال. والثقافة هنا في هذا السياق تعني نمطا من أنماط التجليات الثقافية للمثقف
ودوره في الحياة، وهي ترمز في الوقت ذاته إلى تدفق فعله الثقافي الذي يتصف بالقيمة
الأخلاقية، ترسيخا للسمو الأخلاقي الذي يتميز به “المثقف” تأثيرا في الكون والحياة
الثقافية.
ومن أجل تقديم تصور واضح عن مفهوم “المثقف” لا بد من المقارنة بين الثقافة
والمثقف؛ فالثقافة هي المحمول، والمثقف هو حاملها بل هي المنتوج والمثقف منتجها
ونتاجها في آن واحد. وهنا يجري التمييز في الأصل الأجنبي اللاتيني بين الثقافة culture وبين المثقف؛ ففي اللغة الفرنسية تعني كلمة (intellectuel) في أحد وجوهها (المفكِّر) أي المشتغل في مجال الانتاج الفكري والمعرفي على وجه
الخصوص، والمثقف وفقا لهذا التصور يكون الإنسان العارف المصقول بالمعرفة، والمحمّل
بعطائها، وهذا هو الحد الأدنى لمفهوم “المثقف” في صلة التواصل مع الثقافة والتشبع
بمعطياتها.
ومن المؤكد أن مفهوم “المثقف” الفعّال يتجاوز حدود العلاقة الطبيعية بين الفرد
والثقافة إلى حد الانتاج الثقافي، وهذا يعني أن “المثقف” لا يقف عند حدود تمثل
الثقافة والتماهي بها، بل لا بد له أن يتجاوز هذا المستوى إلى درجة المشاركة في
انتاجها وإبداعها وتجديدها. ومن هنا يجب التمييز بين “المثقف” العادي والمثقف
البنيوي المنتج للثقافة والفاعل في عملية إبداعها. ومن الضرورة بمكان التمييز بين
درجة الفعل الثقافي ومستوياته. فهناك “المثقف” العادي المنتج للثقافة في حدودها
الدنيا، وهناك المنتجون لها في أعلى درجة من درجات الانتاج الإبداعي، مثل: كبار العلماء
والمفكرين والمثقفين الذين يؤثرون في الحركة الثقافية انتاجا وصيرورة وإبداعا.
والنخبة الثقافية، وفقا لهذا التصور، ترمز إلى هؤلاء المثقفين الذي استطاعوا أن
يحققوا أعلى درجة إبداعية في عملية الانتاج الثقافي وفي عملية التأثير الثقافي في
مجال الكتابة والإبداع في مختلف أوجه النشاطات الفكرية في مجال الشعر والأدب
والفلسفة والموسيقا والعلوم الإنسانية بصورة عامة. وفي مجال التمييز بين “المثقف”
وغيره من الناس، لا يمكننا أن نتحدث عن الإنسان الجاهل تماما، فالناس مثقفون على
وجه العموم، والثقافة خاصية إنسانية، فالإنسان يرتبط جوهريا بالمعرفة ويمتلك
القدرة العقلية في عملية تَمثُّل الفكر وفي عملية انتاجه بمستويات مختلفة.
فالثقافة معرفة وقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، ومن هذا المنطلق الأخلاقي
تتمنهج رؤيتنا للمثقف حيث تكون الثقافة كما يراها كانط: “مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية،
انطلاقا من طبيعته العقلانية”، وبهذا تكون الثقافة في نظر كانط “أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه”(1). ويكون “المثقف” في هذه الحالة سعيا
إنسانيا لتحقيق هذه الغايات الثقافية العليا. وفي دائرة هذه العلاقة بين الثقافة
والمثقف يمكن القول: إن “السلوك عبارة عن ترجمة عملية للتصورات الذهنية المنبثقة
عن ثقافة ما، فالفرد، في أي مجتمع، مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه، وهو التراث الثقافي
للحضارة التي ينتمي إليها. وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه، غير أن
هذا التراث عندما يتجمد ولا يتجدد يسير نحو الضمور فالزوال، ويحول بالتالي بين
الفرد وبين كامل إدراكه لذاته وغيره، ومن هنا كانت هناك صلة دائرية بين تجدد
المجتمع وتجدد الفرد فكل منهما يجدد الآخر(2). وضمن هذا التصور يمكن إدراك هوية
“المثقف” في صلته الحقيقية مع الثقافة والحياة والمجتمع.
المثقف
لغةً
مفهوم “المثقف” مفهوم حديث الولادة والاستخدام، لذا قلما نقع في القواميس
اللغوية إلا على شذرات خاطفة تتعلق بهذا المفهوم. وقد جاء في قاموس المعاني:
“رَجُلٌ مُثَقَّفٌ: مُتَعَلِّمٌ، مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْمَعَارِفِ، أَيْ
ذُو ثَقَافَةٍ “. وجاء في القاموس المحيط لـمجد الدين الفيروزآبادي: “ثقـُف
وثقِفَ ثقافةً: صار حاذقاً خفيفاً فطِناً…وثقـَّفه تثقيفاً سوّاهُ وثاقفه فثقفـَه
كـنصَرَه فغلبه في الحِذق. وامرأةٌ ثـَقافٌ، كسَحاب، فطِنةٌ، وثِقاف ما تسوّى به
الرماح”. ونجد في القواميس العربية تقاطعا في العلاقة بين “المثقف” والمعرفة
والثقافة، فالمثقف رجل متعلم يمتلك معرفة وثقافة. وهذه التعريفات تلميحية بسيطة لا
تجاوز حدود الإشارات اللغوية البسيطة. ويعرف معجم العلوم الاجتماعية المثقفين
“بأنهم الأفراد الذين يتميزون عن باقي أفراد المجتمع بالخبرة والمعرفة (…)
ويستخدمونها في مواجهة المواقف الجديدة بنجاح أو حل المشكلات الجديدة بابتكار
الوسائل الملائمة”(3).
ومفهوم “المثقف” مفهوم مستحدث في اللغةالعربية، شاع استخدامه في الأدبيات
الاجتماعية والسياسية خلال العقود القليلة الماضية. ولفظا(مثقف) و ثقف) بمعنى (حذق
وفهم وأدرك. (لفظ (Intellectuel) ذو الأصل اللاتيني المستخدم في اللغات الأوروبية.. أقرب في معناه إلى كلمة
(المفكر) لأن الكلمة مشتقة في اللغات الأوروبية من كلمة (intellect) أي الفكر) (4).
وقلما ترد كلمة “مثقف” في معاجم اللغة العربية، ولكن يمكن أن تطالعنا هذه
المعاجم بالفعل: “ثقّفَ” وتأتي بمعنى [حذق]، كما في الصحاح. وقد ظهرت كلمة “مثقف”
لأول مرة في اللغة العربية في قاموس (محيط المحيط) لبطرس البستاني في نهاية القرن
التاسع عشر كترجمة لكلمة Intellectuel الفرنسية، أو “أنتلجنسيا” الروسية، وقد عرفت هذه الكلمة في القاموس بمعنى قريب
جداً إلى المعنى المألوف والمتداول في المجال الثقافي وتأتي بمعنى [متعلم وله معنى
بالمعارف] أي ذو ثقافة. وفي هذا السياق يعرّف بشارة المثقفين: “بأنهم فئة تتجلى قوة عملها في فكرها الذي تستثمره من أجل ضمان مورد
رزق لها، (….) وهي تقوم بالعمل الفكري وفي الوقت نفسه تتخذ مواقف من القضايا التي
تهم المجتمع وبالتالي فهي تجمع ما بين العقلانية في التحليل والمواقف القيمية
والأخلاقية”(5).
وقد وردت كلمة “المثقف” بصيغ مختلفة في التراث العربي، و وظفت كلمات متعددة
للإشارة إلى المثقف، مثل: الحكيم، والشاعر، والعلامة، والأديب، والفقيه، والشيخ،
والمحدث، والشاعر، والراوي، والفيلسوف، والعالم، والرشيد، وصاحب القلم، والوراق،
والمتعلم، والمتأدب. وهذه الكلمات وغيرها قد يتضمن معنى “المثقف” الكلمة التي
نستخدمها في العصر الحديث.
نادرا ما نقع على مفهوم في العلوم الإنسانية خارج دائرة الوضعية الإشكالية
التي تغمر المفاهيم الأنسانية، ولاسيما في مجال العلوم الاجتماعية. وهذه الوضعية
الإشكالية للمفاهيم تعبير موضوعي عن قيمة الحقيقة الاجتماعية نفسها التي تأخذ
مسارها في مدارات التحول والتغير المستمر. فالمفاهيم في العلوم الإنسانية تعبير عن
حقائق اجتماعية نسبية، سريعة التغير، ومضية التبدل، ولا يمكن أن تتبلور على صورة
حقيقة نهائية. وهذا الوضع الإشكالي يزيد هذه المفاهيم غنى وتنوعا، وهذه المفاهيم
قلما تستنفد معانيها ودلالاتها في نظرية أو رأي واحد، فالمفهوم الاجتماعي – لأنه
وثيق الصلة بظاهرته المتغيرة – غالبا ما ينطوي على تضاريس عميقة وطبقات من
التراكمات الموغلة في الأعماق. ومن هنا كان على الباحثين التوغل والاستكشاف في
أعماق المفهوم الاجتماعي، واختبار الغنى والثراء الكبير الذي يتميز به. وضمن هذا التصور
نقول: إن تراكم القول والبحث في المفاهيم دليل على عمق هذه المفاهيم، كما هو دليل
على شمولها وأهميتها. وضمن هذا التصور يمكن القول: إن مفهوم “المثقف” يأخذ مكانه
بين المفاهيم الإشكالية الغنية بالمعاني المتدفّقة بالدلالات، وسيبقى هذا المفهوم
قادرا على جذب اهتمام الباحثين لما ينطوي عليه من ثراء وغنى وتنوع وأهمية.
ومن الضرورة بمكان في هذا المقام أن نستعرض بعض التصورات الذكية التي قدمها
بعض المفكرين حول مفهوم “المثقف” بدلالاته ومعانيه. ويمكن الإشارة في هذا السياق
إلى الوصف الجميل الذي يقدمه صلاح
بوسريف لمفهوم “المثقف” إذ يقول: “«المثقف» ليس مفهوماً مُحْكماً، قطعياً،
مُمْتَلِئاً بتعبيراته، وما يحمله في طياته من مداليل، بل إنَّه مفهوم متموِّجٌ،
منشَرِحٌ، ما فيه من فراغ، ومن مساحات شاغرة، أكثر مما فيه من امتلاء، وهذا ما
يسمح بضرورة الإضافة والمَلْءِ، وبالمُراجعة الدائمة، أو البدء من جديد على
الدَّوام، ليس بنفي المفهوم وإلغائه، بل لتجديده، وتحيينه، ووضعه في سياق
المُتَغيِّرات الحادِثَة والطَّارئة، بما تُحْدِثُ في هذا المفهوم ذاتِه من خُدوش
وجروح وتصدُّعات”(6). وهذا الغنى والثراء في المفهوم يؤصّل لمشروعنا في البحث عن تصور
متكامل لهذا المفهوم في أبعاده المختلفة والكشف عن طبيعة المشكلات التي ينطوي
عليها.
ولا بد من الإقرار هنا بأن مفهوم “المثقف” ولد حديثا للتعبير عن الموقف الشجاع
للروائي الفرنسي إميل
زولاونخبة من المثقفين الفرنسيين الذين دافعوا
في باريس عن الضابط الفرنسي اليهودي الأصل دريفوس Alfred
dreyfuse، الذي اتهم بجريمة الخيانة
العظمى، وحكم عليه في 22 ديسمبر عام 1894 بالنفي إلى غوايانا، بتهمة التجسس لصالح
ألمانيا. وفي هذه الأثناء كتب إميل زولا مقالته الشهيرة “إني أتهم” التي دافع فيها
عن دريفوس، ثم انبرى مع عدد من المثقفين الفرنسيين أمثال: أناتول
فرانس، ومرسيل بروست، وسينيوبوس، وليون بلوم، ولوسيان هير، للتوقيع على بيانهم المشهور بتسمية “بيان
المثقفين” الذي عبروا فيه عن رفضهم حكم المحكمة. ونشر هذا البيان في جريدة “لورور”
الفرنسية في 14 يناير 1898 بعنوان Le
Manifeste des Intellectuels. وانقسم الرأي العام بعد هذا البيان بين مؤيد لإعادة المحاكمة ومطالب بتثبيت
العقوبة، في صراع بين المعسكرين، المعسكر التقليدي المعادي للسامية والمعكسر
الاشتراكي النقدي. وتحت تأثير الضغط الثقافي للمفكرين الفرنسيين أعيدت المحاكمة
وخفض الحكم إلى مدة 10 سنوات من السجن، ورفعت إلى محكمة النقض التي ألغت الحكم
وأطلقت سراح دريفوس وتمت تبرئته(7).
وعلى أثر هذه المواجهة الفكرية بأبعادها السياسية، انتشر مفهوم “المثقف”
وارتبط جوهريا بقيمته النضالية وأرومته النقدية، وأصبح عنوانا لكل الممارسات
الثقافية التي تنافح عن المظلومين، وإشارة إلى كل المواقف الشجاعة ضد الظلم
والظالمين وإلى كل أشكال الاستبداد السياسي. وقد رسخ في الممارسة الفكرية أن
“المثقف” رجل نقدي يسعى للكشف عن الحقيقة ويدافع عن المظلومين. وضمن هذه الممارسة
النقدية انكشف الاستخدام على مواقف المفكرين في مناصرتهم المضطهدين والسير بمقتضى
الدفاع عن قيم الحق والعدل في المجتمع السياسي. وعلى هذا الأساس بدأ يتمحور مفهوم
“المثقف” على ركائز الكشف عن الحقيقة نقديا ورد المظالم توخيا لقيم الحق والخير
والعدل والجمال. فالمفكرون الحقيقيون، كما وصفهم جوليان
بندا Julien
Benda، “أقرب ما يكونون إلى الصدق مع أنفسهم حين تدفعهم المشاعر الميتافيزيقية الجياشة
والمبادئ السامية، أي مبادئ العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي
السلطة المعيبة الغاشمة”
.
وعلى هذا النحو بدأ مفهوم “المثقف” يأخذ دور الوريث الشرعي لمفهوم الفيلسوف
الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وارتبط كما أوضحنا
في قضية “دريفوس” بالصراع الفكري والسياسي ما بين رجال الفكر من جهة والأنظمة السياسية من جهة
أخرى، واصبح مفهوم “المثقف” لصيقا بمفهوم المعارضة السياسية والنقد للسلطة
ومقاومتها عندما يقتضي الأمر.
وفي هذا المقام، يقول عالم الاجتماع الأميركي كوزر ( (Coserفي كتابه “سوسيولوجيا المثقفين”: “المثقفون هم المتحدرون من الكهنة والأنبياء
والرهبان والمتعلمين أو هم ورثتهم. إنهم المعنيون بالدرجة الأولى بالبحث عن
الحقيقة والاحتفاظ بها، كما هم معنيون بالقيم الجمعية والمقدسة، تلك التي تتحكم في
جماعة وفي مجتمع وفي حضارة”(8). ويتابع كوزر قائلا: “ولكن “المثقف” تحول إلى حالة
من الالتزام بالقضايا الحيوية في المجتمع والسياسة والثقافة”(9).
وفي هذا المقام يقع تعريف عابد
الجابري للمثقفين في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية”، إذ يعرّفهم بأنهم “هؤلاء
الذين يعرفون ويتكلمون، يتكلمون ليقولوا ما يعرفون، وبالخصوص ليقوموا بالقيادة
والتوجيه في عصر صار فيه الحكم فناً في القول، قبل أن يكون شيئاً آخر”(10).
والمثقف حسب الجابري: “هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات “المقهورة”
و”الكادحة”، إنه “المثقف العضوي” الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع ويواجه تحدياته
المختلفة دفاعا عن الحق والحقيقة ورفضا لكل أشكال الظلم والقهر والتسلط في
المجتمع”(11). ومن الجميل في هذا المكان أن نورد تعريف وليد
خالد أحمد الذي يعرّف المثقفين تعريفا جامعا لأركان وأبعاد التعريفات السابقة بقوله:
“المثقفون هم أولئك الأشخاص من المتعلمين الذين يمتلكون المعرفة ولهم طموحات
سياسية، وعلى أساس هذه المعرفة الموضوعية والطموحات السياسية وتأملاتهم الذاتية ..
يسعون إلى التأثير في السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى، والى صياغة ضمير
مجتمعهم، وكذلك صياغة أحكامهم على الواقع دون أن يستخدموا هذه الأحكام مباشرة أو
بالضرورة من خبراتهم الحسية”(12).
تسود في عالمنا العربي صورة نمطية عن “المثقف” قوامها أن “المثقف” هو الشخص
الذي حظي بتعليم مدرسي واسع، ويحمل شهادات علمية عالية. وقد “ارتسمت هذه الصورة في
أذهان كثيرين ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين لما وصلوا إليه من مكانة وظيفية بحكم
حصولهم على شهادات علمية. وفي حقيقة الأمر لا يمكن للشهادات العلمية المجردة أن تجعل
حاملها مثقفا بالضرورة، بقدر ما تجعله مصابا بمرض “التَعالُم” كما أسماه مالك بن
نبي“(13). وفي هذا إشارة كبيرة لضرورة الفصل بين التعليم والثقافة.
وعلى خلاف هذه الصورة يمكن لبعض الأفراد أن يحققوا جوهرهم الثقافي دون الحصول
على شهادات مدرسية أو جامعية عالية. فكما أن “المثقف” لا يكون وجوده رهنا بالتعليم
والشهادة، كذلك الأمر لا يمكن للتعليم أن يمنع شخصا من أن يكون مثقفا بجدارة،
فالتعليم يساعد في التثقف وهو شرط ضرورة دون أن شرط كفاية له.
وثمّة من يربط بين مفهوم المتعلم وبين مفهوم “المثقف” على نحو وثيق: وبالمقابل
هناك من يرى في المتعلم الحاصل على الشهادات العلمية أو المدرسية “مثقفا”: ويدخل،
ضمن هذا المعنى العام والواسع، الموظّفون في مختلف القطاعات، والمعلّمون
والأساتذة، والعاملون في قطاع الإعلام، والأطباء والمهندسون، والتقنيون، والطلبة
ممن يتابعون دراساتهم في الأنساق العليا من التعليم، في مختلف الشّعب
والتّخصّصات”(14). ولكن الباحثين استطاعوا اليوم فك الارتباط بين المتعلم والمثقف:
فالمتعلم هو حاصل على الشهادات العلمية، أما “المثقف” فهو ذلك الذي تمرّس بالفكر
والثقافة، وأصبح فاعلا ومنتجا للثقافة، ومؤثرا في المجتمع وفق معايير الدفاع عن
القضايا الكبرى في المجتمع.
وهنا وفي هذا المقام يميز جان بول
سارتر Jean-Paul
Sartre بين “العالم” و “المثقف” إذ يرى أن “كلمة
“مثقف” لا تطلق على العلماء الذين يعملون في حقل انشطار الذرة لتطوير أسلحة الحرب
وتحسينها لأنهم في هذه الوضعية مجرد علماء، ولكن إذا شعر هؤلاء العلماء بالخوف
والذعر لما تنطوي عليه هذه الأسلحة من طاقة تدميرية فاجتمعوا وووقعوا بيانا
يعارضون فيه استخدام الاسلحة النووية ضد البشر غدوا من فورهم مثقفين”(15). وهذا
يعني أن الثقافة موقف نقدي ومسؤولية ورسالة وليست مجرد معرفة وعلم في المخابر أو
معرفة في رؤوس العارفين.
وهناك من يعمم مفهوم “المثقف” ليشمل “جميع منتجي الأفكار وناشريها وحملتها
ومستهلكيها، بمن فيهم علماء الدين والأدباء والكتاب والإعلاميون والفنانون، بل
وجميع خريجي الجامعات والمتعلمين تعلماً مرموقاً”(16).
وهناك من يضيّق مفهوم “المثقف” ليحصره في فئة محددة من الناس، أو نخبة منهم،
وغالبا ما تكون نخبة من المفكرين والكتّاب والمبدعين، التي تعمل في حقل الفكر
والفن والإبداع، ممن ينتجون الرّموز والدّلالات. وضمن هذا التصور الضيق يفقد كثير
من المثقفين حضورهم الثقافي ضمن دائرة المفهوم “مثقف” تفاديا للتّعميم، أو لتعتيم
المفهوم وتمييعه(17). وإلى هذا الاتجاه من التعميم يشير محمد
عابد الجابري الذي يقول: “إن مفهوم “المثقف” اتسع ليشمل جميع الذين يشتغلون بالثقافة،
إبداعاً وتوزيعاً وتنشيطاً، ويرمز إلى الثقافة هنا بوصفها عالماً من الرموز يشمل
الفن والعلم والدين”(18). والمثقف، وفق هذا التصور، هو من يتمثل ثقافة وطنه على
نحو خاص، ويتماهى بالثقافة الإنسانية على نحو أشمل وأعم، وهو الذي يشارك في تنمية
الثقافة بمختلف تجلياتها العامة والخاصة”(19).
وللفصل ما بين التعميم والتخصيص المركّز يمكن القول بأن “المثقف” – بوصفه
منتجا للرموز والدلالات- يشارك في نقد الأحداث العامة، ويتدخّل في الشأن العام من
منطلق قدرته على قراءة وتحليل المعطيات والأحداث والوقائع ووضعها في مسارها
الأخلاقي والإنساني الصحيح(20).
عندما نأخذ بمفهوم ويلفريدو
باريتو للنخبة، بوصفهم الأفراد الأكثر تميزا وحضورا وتأثيرا في مجال اختصاصتهم، عندها
نستطيع أن نبني على هذه الرؤية لتحديد مفهوم النخبة الثقافية. وضمن هذا التصور
بمكن القول: إن مفهوم النُّخب الثقافية يدل في أبسط تعريفاته على هؤلاء الذين
يمارسون تأثيرا أكبر في مجال الانتاج الثقافي والرمزي في مجتمعاتهم وحقول تخصصاتهم
الفكرية، ولاسيما الكتاب والمنظرون والأدباء والشعراء والمفكرون والمنظرون
والإعلاميون. ويتميز هؤلاء بطاقتهم الانتاجية في مجال الفكر والثقافة، كما يتميزون
بتأثيرهم الكبير في الروح المعنوية والثقافية لشعوبهم. وغالبا ما يميز الباحثون
بين النخبة الثقافية والمثقفين، فالمثقفون يشكلون طبقة واسعة من العاملين في حقل
الثقافة، ولكن النخبة منهم ترمز إلى أكثرهم تميّزا وتأثيرا وحضورا في الحياة
الاجتماعية والثقافية للمجتمع. وهذا يعني أن النخبة الثقافية تتشكل من كبار الأدباء
والكتاب والمؤرخين والشعراء والفنانين الذي يلعبون دورا مميزا وحيويا في مجال
اختصاصاتهم الفكرية والمعرفية.
وللتعبير عن النخبة الثقافية استخدم المفكرون عادة عددا من المصطلحات أبرزها:
مصطلح “الأنتلجنسيا” بصبغته الماركسية، ومصطلح “المفكر العضوي” وفقا لنظرية غرامشي، ومصطلح “المفكر الرسولي” صاحب
الرسالة وفقا لمصطلح إدوارد سعيد، ومصطلح “المفكر النقدي” وفقا لمنظور نيتشه و سارتر. ومن هذه
الزاوية ينظر جوليان بندا إلى النخبة من المثقفين “باعتبارهم نخبة ضئيلة من الملوك
الفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة الذين يشكلون ضمير البشرية (…)
إن المثقفين الحقيقيين يشكلون طبقة العلماء والمتعلمين بالغي الندرة لأن ما ينادون
به هو المعايير الخالدة للحق والعدل”(21). والمثقفون الحقيقيون، كما يقول بندا، هم الذين يجدون متعتهم في
ممارسة الفن أو العلم أو التأمل الميتافيزيقي وليس في السعي وراء الغايات المادية
العملية. وهذا الأمر لا يعني بالضرورة أن هؤلاء المثقفين منعزلون عن العالم في
أبراج عاجية؛ فالمثقف لا يكون مثقفًا حقيقياً إلا حين يعارض الفساد ويدافع عن
المستضعفين ويقف في وجه السلطة القامعة والفاسدة، وفي هذا الجانب الأخلاقي من
الثقافة يقول جوليان بندا عن المثقفين الحقيقيين بأنهم: “أقرب ما
يكونون إلى الصدق مع أنفسهم حين تدفعهم المشاعر الميتافيزيقية الجياشة والمبادئ
السامية، أي مبادئ العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة
المعيبة الغاشمة“(22) . وهذا الأمر عينه الذي يعلنه تشومسكي عندما يقول: “إن من
مسؤولية المثقفين أن يقولوا الحقيقة ويفضحوا أكاذيب، وأن “المثقف” هو من يحمل
الحقيقة في وجه القوة“.
وكما أوضحنا في مختلف تعريفات النُّخب، غالبا ما يكون الأفراد الذين يشكلون
نخبة ثقافية الأفضل بين أقرانهم، والأكثر تأثيرا في مجال اختصاصهم. ومن هذا
المنطلق فإن نخبة المثقفين تتمثل في أكثرهم انتاجا وفعلا وتأثيرا وحضورا وممارسة
وإبداعا في مجال الفكر والثقافة والإبداع الثقافي. وهذا يشمل مختلف القطاعات
الثقافية في الأدب والشعر والفن والموسيقى والرسم والنحت والتصوير وفي شتى العلوم
الإنسانية.
يعرّف طارق
مخنان النخبة المثقفة بقوله: “هي مجموعة من الأشخاص المتجانسين، يمتلكون رصيدا
معرفيا ولهم تكوين عال، ويتمتعون بسلطة رمزية تخولهم التفكير في قضايا المجتمع …
ومفردة الثقافة تشمل قطاعات واسعة الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية وحتى التقنية
والبحثية، فالمثقف هو من يتعدى حدود اختصاصه للتكلم في قضايا تشمله كعضو في مجتمع
يرتبط مصيريا بالانتماء إليه”(23).
ويعرّف الجابري نخبة
المثقفين “بأنهم
يشكلون الفئة الواعية التي اكتسبت بحكم ثقافتها موضوعية التفكير ووضوح الرؤية
والقدرة على التحليل والمحاكمة المنطقية مما يجعلهم في حصن من أن تنطلي عليهم
أساليب البرجوازية ومن أن يخيفهم تحكم المتسلطين“. ويرى “أن
هؤلاء المثقفين، هم وحدهم القادرون على تصحيح تلك الصورة في الوعي الجماهيري، ورسم
الطريق الصحيح لتحقيقها في حيز الواقع الملموس“(24).
ويشمل تعريف النُّخب الثقافية بصورة عامة هؤلاء الأكثر تأثيراً في مجال
الانتاج الثقافي والرمزي في المجتمع، ولاسيما الكتّاب وأساتذة الجامعات والأدباء
والشعراء والمفكرون والمنظرون والإعلاميون. ويتميز هؤلاء عمليا بطاقتهم الانتاجية
في مجال الفكر والثقافة، كما يتميزون بتأثيرهم الكبير في الروح المعنوية والثقافية
لشعوبهم.
وغالبا ما يميز الباحثون بين النخبة الثقافية والمثقفين، فالمثقفون يشكلون
طبقة واسعة من العاملين في حقل الثقافة ولكن النخبة منهم ترمز إلى أكثرهم تميّزا
وتأثيرا وحضورا في الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع. وهذا يعني أن النخبة
الثقافية تتشكل من كبار الأدباء والكتاب والمؤرخين والشعراء والفنانين الذي يلعبون
دورا مميزا وحيويا في مجال اختصاصاتهم الفكرية والمعرفية.
وجلّ ما نعنيه بالنخبة يتمثل في طبقة “المثقفين المحترفين” حسب تعبير كارل
مانهايم، أي: هؤلاء الذين يكرسون كل وقتهم لمهنة
الكتابة والتأليف والانتاج المعرفي.
يتشاكل مفهوم “الأنتلجنسيا” Intelligentsia مع مفهومي “المثقف” من جهة، والنخبة الثقافية من جهة أخرى. ويأخذ هذا التشاكل صورته في الاستخدام المتناوب لهذه المفاهيم
بدلالة واحدة في كثير من الأحيان، كما يأخذ هذا التشاكل صورة الترادف والتعاقب
والاستبدال. ومع الاعتراف بصعوبة الفصل بين مفهوم “الأنتلجنسيا” وبين مفهوم “المثقف” والنخبة الثقافية فإن علينا أن نفصل بينهما ونحدد وشائج العلاقة القائمة بين
هذه المفاهيم الثلاثة، لأن مفهوم “الأنتلجنسيا” يمتلك خصوصيته التاريخية ويحمل سماته الخاصة في الدلالة والتعبير عن وضعية
طبقة من المثقفين نشأت في سياق تاريخي مختلف.
يشار إلى أن الروائي الروسي المغمور بوبوريكين Boborykin كان من أوائل مستخدمي كلمة “الأنتلجنسيا” عام 1860. وتعود هذه الكلمة في أصولها الاشتقاقية إلى اللاتينية التي كانت
تستخدم في ذلك العهد كثيرا من قبل اللاهوتين ورجال الكهنوت في روسيا. وقد استخدمت
هذه الكلمة لاحقا لوصف النُّخب الثقافية الروسية الجديدة الصاعدة التي تلقت
تعليماً جامعياً على الطراز الأوروبي(25). كما شاع لاحقا استخدام “الأنتلجنسيا” تعبيرا عن النُّخب الطليعية النقدية في روسيا والبلدان الاشتراكية، ثمّ اتسع
استخدام كلمة “أنتلجنسيا” كموضة ثقافية بما تنطوي عليه من إيقاع موسيقي في أغلب
بلدان أوروبا الشرقية ولاحقا في أوروبا الغربية، وعلى الأثر في مختلف أصقاع
العالم. ومن الواضح أن الأوروبيين الشرقيين استخدمو مصطلح “الأنتلجنسيا” للدلالة على المفكرين الذين يقومون بنقد السلطة والأوضاع الاجتماعية القائمة
ويمارسون دورا طليعيا في الحركات الثورية(26).
وقد جاء تعريف “الأنتلجنسيا” في الموسوعة بأنها جماعة من المثقفين الذين يأخذون مكانهم النقدي الطليعي في
المجتمع. ويغطي هذا التعريف المثقفين من النقاد والكتاب والروائيين الطليعيين
الذين يتميزون بقوتهم السياسية وحضورهم الأيديولوجي، وقد أطلقت هذه الكلمة على
مثقفي روسيا بعامة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(27). وقد تخطى هذا المفهوم
حدود روسيا وانتشر بشكل واسع في هضاب الثقافة الغربية متقاطعا مع مفهوم “المثقف
العضوي“، ومتجاوزا إياه ليشتمل على دلالات جديدة تتجاوز مفهوم “المثقف”
الذي يرتقي في صورته الأنتلجنسوية إلى مفهوم النخبة الثقاقية الطليعية في المجتمع.
وقد استخدم مفهوم “الأنتلجنسيا” بشكل واسع في أوروبا الشرقية على أثر المعركة الثقافية التي خاضها المفكرون
الفرنسيون حول مظلمة دريفوس عام 1894، وبدأت هذه الكلمة تخط مسارها للتعبير عن
النخبة من المثقفين ذوي النزعة النقدية التقدمية.
وقد اعتاد كثير من الكتّاب على الاستخدام الترادفي لمصطلحي “المثقفون”
و”الانتلجنسيا” للدلالة على المفكرين الذين يمارسون فعلهم الثقافي من منظور نقدي
للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة. ويتضمن مفهوم “الأنتلجنسيا” في أصول
استخداماته الأولى أولئك المثقفين الذين حصلوا على تعليم عال وتخصصوا في الممارسة
السياسية والاجتماعية النقدية بوصفهم طليعة سياسية أو قوة تقدمية ماركسية الطابع
اشتراكية الهوية. وربما لا يختلف مفهوم “المثقفون” عن مفهوم “الأنتلجنسيا” كثيرا
عندما نأخذ بعين الاعتبار مفهوم “المثقف العضوي” عند “غرامشي“، حيث يتقارب مفهوم “المثقف” ويتجاذب مع مفهوم الأنتلجنسيا، لأن المثقفين العضويين أيضا يسهمون في ابتكار
الأفكار ونقد الأوضاع السياسية القائمة ومواجهة التحديات الاجتماعية الكبرى في
الحياة السياسية والاجتماعية للأمة.
وضمن هذه الرؤية يمكن القول إن “الأنتلجنسيا” هي أعلى مستويات النخبة المثقفة، فالأنتلجنسيا ليست عددا من المثقفين في بلد
ما أو مجال ما، بل هي بالتعريف: “حاملة الوعي الثوري” و “أداة العمل الثوري”، لأن
“المثقف” لا ينضوي تحت لواء الأنتلجنسيا إلا عندما يحمل في ذاته طاقة الوعي الثوري
رفضا للواقع ونزعا إلى تعديله وتغييره جذريا. ويتضح أن هذه الصورة الأنتلجنسوية
تنقض نظرية الطبقة الماركسية لأن “الأنتلجنسيا“، في هذا المقام، هي التي يجب
عليها أن تثور وتغير وليست الطبقة العاملة “البروليتاريا “، حيث يتجذر “الحديث لا
عن عمال المعامل والمصانع بل عن “عمال العقل” و”العمال الفكريين” أوعن
البروليتاريا الثقافية”(28).
المثقف
النقدي
للتعبير عن العلاقة الإيجابية بين “المثقف” وقضايا المجتمع ظهرت مصطلحات كثيرة
جدا لكنها تدور جميعها في فلك واحد وحول جوهر واحد يتمثل في اهتمام “المثقف”
بقضايا المجتمع ونضاله من أجل إحقاق الحق وتجسيد العدل الإنساني ومناشدة الخير
والجمال. ومن هذه الكلمات نجد: “المثقف” العضوي، “المثقف” الملتزم، “المثقف” النقدي، “المثقف” الرسولي، “المثقف”
الريادي، “المثقف” الطليعي، “المثقف” الناقد، “المثقف” المشاكس، “المثقف” الوطني،
“المثقف” الإنساني. وجمع هذه الكلمات تدل في جوهر الأمر على معنى واحد يتمثل في
دور “المثقف” ووظيفته في مواجهة مختلف التحديات والقضايا والمشكلات والأوضاع التي
يواجهها المجتمع الذي يعيش فيه. ومن الواضح أن هذه الكلمات الدالة على المثقف
النقدي تقف على نقيض الكلمات الدالة على المفكر التأملي أو المفكر العاجي أو
المفكر الذي يعيش في عالمه الخاص بعيدا عن الحياة وهمومها ومشاكلها. فالفكر كما
يرى كثير من المفكرين يجب أن يمارس وظيفة اجتماعية في نقد مختلف التحديات
والمشكلات التي يواجهها المجتمع. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن “المثقف” الذي يدير
ظهره للمجتمع لن يكون جديرا بتسمية المثقف الحقيقي، وبالتالي فإن “المثقف” هو ذاك
الذي لا يرضى أن يكون شاهدًا على الحدث بل فاعلاً إيجابيا متمرسا في قضاياه
وأحداثه، ولا يكون فاعلا إلا عندما يكون أنموذجا للمثقف العضوي حسب توصيف غرامشي، أو أنموذجا للمثقف الشجاع حسب جوليان
بندا ، أو حتى نموذجا للمثقف الفطين التفكير الواضح الرؤية عند الجابري، والملتزم عند بورديو Pierre Bourdieu،
أو مثالا للوعي
الشقي حسبهيغل. وفي مقابل هذه الكلمات التي تعبر عن “المثقف الرسولي النقدي” ظهرت كلمات أخرى
للإشارة إلى المثقفين السلبيين ومنهم: مثقف السلطة، وفقهاء السلطان، والمثقف
الطائفي، والمثقف التقليدي، والمثقف الأيديولوجي، والمثقف السطحي.
عدد كبير جدا من المفكرين تناولوا قضايا “المثقف” وارتباطه العضوي الملتزم
بقضايا المجتمع. ومن أجل الكشف عن طبيعة العلاقة بين “المثقف” والمجتمع أو ما يسمى
بالعلاقة الصميمية، سنستعرض بعض التيارات الأساسية التي تتمثل في منظور كل من سارتر، وغرامشي، وإدوارد سعيد، والجابري، آملين أن تتضح صورة “المثقف” العضوي الملتزم
النقدي المشاكس في مرآة أعمالهم وتصوراتهم النقدية حول دور “المثقف” ووضعية
الالتزام الثقافي بقضايا المجتمع وهمومه .وهنا أيضا يجب علينا ألا نغفل أهمية
التيارات والاتجاهات الفكرية في هذا الميدان التي لا نستطيع المرور عليها جميعا
فهناك محاولات فكرية كثيرة بذلها علماء ومفكرون لا يقلون أهمية، وقد استطاع بعضها
أن ينفلت من مركزية الدوران في فلك غرامشي وسارتر وإدوارد سعيد.
أنطونيو
غرامشي (1891-1937)
يعود الفضل إلى المفكر الإيطالي الكبير انطونيو
غرامشي Antonio
Gramsci في اجتراح مفهوم “المثقف
العضوي“. وتشكل الأعمال الرائدة الكثيرة التي حققها غرامشي حول الثقافة ودور “المثقف”
مرجعية فكرية مهمة ينطلق منها أغلب المفكرين عند تناولهم لمفهوم “المثقف” الفاعل
الملتزم بقضايا الأمة والشعب.
يقول غرامشي في تعريفه للمثقف العضوي: “جميع الناس مثقفون (…) لكن وظيفة “المثقف” في
المجتمع لا يقوم بها كل الناس”(29). فالمثقف. وفقا لهذه الصورة الغرامشية ناقدٌ
اجتماعيٌّ، يعمل في مجال الانتاج الثقافي ويكرس نفسه لخدمة القضايا الاجتماعية
الحيوية في المجتمع، ويعمل على بناء نظامٍ فكري مؤنسن ومعقلن في اتجاه تطوير
المجتمع والنهوض به. وبالعودة إلى غرامشي نستطيع القول: إن جميع الناس مثقفون
بطريقة أو أخرى، وهذا ينسحب على جميع الفئات الاجتماعية من معلمين وفلاحين وعمال
وحرفيين وموظفين.
ويميز غرامشي بين نوعين من المثقفين: المثقفون التقليديون، والمثقفون العضويون. فالمثقفون
التقليديون يملكون ثقافة مهنية بحسب طبيعة عملهم، ويقومون بنفس العمل وينقلون
ثقافة متواترة من جيل إلى جيل مثل: المعلمين ورجال الدين. أما المثقفون العضويون،
فهم أولئك المثقفون المخضرمون المتمرسون بالمعرفة انتاجا وإبداعا، الذين يحملون في
عقولهم وقلوبهم هموم الطبقات الكادحة في المجتمع من العمال والفلاحين، ويضحون من
أجل الدفاع عن قضايا الأمة وقضايا المضطهدين والمسحوقين، وهم في النهاية يمثلون ضمير
الأمة والصوت المعبر عن طموحاتها وقيمها الاجتماعية. فالمثقف العضوي لدى غرامشي
صاحب مشروع ثقافي يتمثل في “الإصلاح الثقافي والأخلاقي” سعيا وراء تحقيق الهيمنة
الثقافية للطبقة العاملة بصفة خاصة وللكتلة التاريخية بصفة عامة(30).
يقول غرامشي Antonio Gramsci: “لم يعد أسلوب “المثقف” الجديد يعتمد على البلاغة، التي هي محرك خارجي مؤقت
للمشاعر والعواطف، بل يجب عليه أن يعتمد على المشاركة الإيجابية في الحياة العملية
كبان ومنظم لها”(31). ومن هذا التصور للمثقف العضوي يخاطب غرامشي المثقفين الإيطاليين في عام 1919 داعيا إياهم إلى الالتزام السياسي، فيقول “لم
يعد بالإمكان ان يتمحور نسق حياة “المثقف” الجديد حول الفصاحة والإثارة السطحية
والآنية للمشاعر والأهواء. بل صار لزاما عليه ان يشارك مباشرة في الحياة العملية
كبان ومنظم مقنع دائما، لانه ليس مجرد فارس منابر. بات لزاما عليه ان يتغلب على
التفكير الحسابي المجرد، فينتقل من (التقنية – العمل) الى (التقنية – العلم)، والى
النظرة التاريخية الانسانية، وألا يبقى اختصاصيا دون ان يصبح – قائدا– أي رجل
سياسة بالإضافة الى كونه اختصاصيا”(32).
جان بول
سارتر (1905-1980)
استطاع المفكر الفرنسي جان بول
سارتر Jean-Paul
Sartre أن يسجل نفسه بين أفضل النماذج التاريخية
للمفكر الملتزم في مجال الفكر والممارسة الثقافية دفاعا عن الحق والكرامة والحرية،
وقد تجلى هذا الالتزام على أكمل وجه عندما انخرط في صفوف المقاومة الفرنسية السرية
لمواجهة الاحتلال الألماني، وعرض نفسه لعظيم الخطر في دفاعه عن الحرية والتضحية في
سبيل الوطن.
يرى سارتر في كتابه “دفاع عن المثقفين” أن “المثقف” الحقيقي ليس هو ذلك الذي يقف عند
حدود الكشف عن مختلف التناقضات القائمة في المجتمع، بل هو الذي يعمل على تغييرها
وتوجيهها ويعلن مسؤوليته الثقافية في مواجهة مختلف التحديات الناجمة عن ذلك(33).
وفي مقابلة شهيرة أجرتها معه مجلة “الاكسبرسو” الايطالية يعرّف جان بول سارتر
“المثقف” الحقيقي بأنه “الوجدان
الشقي” أي “المثقف” الذي يكشف عن دهاء الأيديولوجيا المهيمنة لفرض السلطة ويحرض على
إسقاط أوهامها، لأن الطبقة المهيمنة السائدة تعمل غالبا على تزييف الوعي واعادة
انتاج أيديولوجيتها المهيمنة، وهنا يكمن دور “المثقف” في مواجهة التحديات
الأيديولوجية للطبقات السائدة والسلطات التي تفرضها. فالوعي كما يرى سارتر يشكل دائرة نفوذ “المثقف”، وهو الوعي الذي قلما يُعترف بأهميته. وقد أطلق سارتر على هذا الوعي “وعي البحث عن الحقيقة”(34).
فالطبقة التي تهيمن تمتلك وسائل الانتاج، وتنتج الأيديولوجيات التي تعزز
هيمنتها وسلطتها، ولايمكن للطبقة المستلبة المهيضة أن تستعيد حريتها المسلوبة إلا
بمعركة شاملة كلية تسودها قيم الحق والعدالة الحرية والحقيقة والمساواة. وهنا يبرز
دور “المثقف” وتتضح رسالته حيث يجب عليه أن يوظف معرفته وعقله وقوته السياسية في
مساعدة الطبقات المستلبة على استعادة دورها التاريخي وامتلاك حريتها.
وفي كتابه “دفاع عن المثقفين” يركز سارتر على أهمية المواجهة الثقافية للمثقف
وضرورة العمل ضد الأيديولوجيا السائدة والانحياز إلى الطبقات الفقيرة. والمثقف في
معركته هذه عليه توظيف قوته المعرفية والثقافية في ترسيخ وإبداع ثقافة جديدة للشعب
تمكنه من الخلاص وامتلاك وعيه الخاص، وعليه أيضا تحرير أصحاب المعرفة العملية من
التقنيين وتخليصهم من الوعي المزيف، وضمهم إلى صفوف العمال. ويؤكد سارتر في هذا
السياق على ضرورة العمل والكفاح من أجل مشروع ثقافي ينطلق إلى تأكيد مستقبل
الإنسان في حياة حرة كريمة.
وعندما أرخت ثورة مايو الطلابية عام 1968 في فرنسا أثقالها على كاهل المثقفين
الفرنسيين واستجوبت مواقفهم في مستوى النظرية وفي مستوى الممارسة، وجد سارتر نفسه
في قفص المساءلة التاريخية عن “المثقف” ودوره، وكان لزاما عليه أن يطرح أسئلة
عديدة حول الثورة والثقافة والمثقف والعلاقة بين هذه المكونات الثلاثة للحركة
الطلابية في فرنسا. ومن بين الأسئلة التي طرحها سارتر سؤال جوهري ذو شعبيتن: من هو
“المثقف” الحقيقي؟ ومن هو “مثقف السلطة”؟ والسلطة في منظوره ترمز إلى كل أشكال
السلطات الاجتماعية الرمزية والاجتماعية والسياسية. وفي النهاية وبعد هذه المساءلة
النقدية وجد سارتر أن “المثقف” الحقيقي هو ذلك الذي يستطيع أن يحقق التواصل بين
الفكر والممارسة النقدية، وانطلاقا من إيمانه بوحدة الفكر والممارسة. ومن أجل
التأكيد على منظوره على أهمية التزام “المثقف” بالحياة والقضايا الاجتماعية، نزل
سارتر إلى الشارع وأخذ يبيع الصحف لمصلحة الطلاب، معبرا عن انحيازه للطلاب
ومطالبهم العادلة. وقد أطلق سارتر على المثقفين الذين داهنوا السلطة آنذاك وخضعوا
لمتطلباتها وإيحاءاتها بأنهم أصحاب “الوعي التعس” أو “الوعي الشقي” ويقصد بهم
هؤلاء الذين يعرفون الحقيقة ويدركون أبعادها ولكنهم تحت تأثير الضغوط الحياتية
والاجتماعية يستسلمون ويبايعون سلطان الهوى والقوة على حساب المبدأ الأخلاقي
والالتزام السياسي للمثقف.
إدوارد
سعيد (1935-2003)
يرى إدوارد
سعيد في كتابه المعروف “صور
المثقف” أن المثقفين يشكلون شريحة اجتماعية بأبعاد طبقية، وتكمن وظيفتهم في إنتاج
الإيديولوجيات والأفكار والتصورات الثقافية والمعرفية. يوافق إدوارد سعيد غرامشي
وسارتر في تعريف “المثقف العضوي” من منطلق دوره الحيوي النقدي في معارضة السلطة
والتيارات الأيديولوجية السائدة ومواجهة تحدياتها مهما تكن عواقبها. ويرى إدوارد
سعيد أن معظم المثقفين يؤدون الدور الاجتماعي الذي وصفه غرامشي، لكن قلة منهم
يستطيعون المجاهرة بالحقيقة في وجه السلطة بشجاعة وصلابة وقوة.
فالمثقف الحقيقي – كما يرى إدوارد
سعيد – يمتلك دوره الفاعل في المجتمع وهو دور لا يمكن اختزاله أو تصغيره، لأن “المثقف”
يجب أن يكون صاحب رسالة مطالباً بتجسيد مواقف فكرية وفلسفية من مختلف القضايا
الوجودية والحيوية في المجتمع. وعليه ضمن هذا التصور أن يتخذ موقف المواجهة
والمجابهة لكل سلطة تقليدية ولكل المسائل والقضايا الحرجة في المجتمع (35).
والسؤال الذي يطرحه إدوارد
سعيد في هذا المقام، هو: هل يجب على “المثقف” أن يكون دائما معارضا حتى يرتقي إلى
صورته النموذجية؟ وفي معرض الإجابة يرى أنه ليس بالضرورة أن يكون “المثقف” دائما
ناقدا ومعارضا، بل يجب أن يكون في حالة من اليقظة تمنعه من التشبع بالحقائق
المزيفة والأفكار التقليدية، ومن الواضح هنا أن سعيد يعني بذلك “المثقف” المداهن
الذي تكمن وظيفته في حماية الوضع الراهن والدفاع عن الأنظمة الفكرية والسياسية
القائمة، ويرى بأن لغة هؤلاء المثقفين مصممة على تشويه الحقائق وتصميم
الأيديولوجيات المزيفة الكاذبة(36).
وفي كتابه “صورة المثقف” يرى أن الثقافة الحقيقية هي التزام أخلاقي من قبل
المثقف، وهذا الالتزام يوجب على “المثقف” أن يمتنع عن الارتباط السياسي بأي من
الأحزاب أو الجمعيات أو الهيئات الثقافية، فالمثقف الحقيقي يجب أن يحظى باستقلاله
الذاتي وأن يوظف قدراته الثقافية في مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية التي
تواجه الحياة والمجتمع. ومن أجل تعزيز هذه الرؤية لنضال “المثقف” وحركته خارج
الأطر التقليدية السياسية أو الحزبية يستعرض إدوارد
سعيد التجارب النضالية لكبار المثقفين على غرار: جان بول
سارتر، جوليان بندا، غرامشي، فرانتز فانون، بيرتراند راسل، جان جينيه، ويبين أن كل واحد من هؤلاء المثقفين ناضل سياسيا واتخذ مواقفه المناهضة
للأوضاع القائمة بمنهجيات ثقافية تعتمد نمطا متميزا من الوعي وطاقة كارزمية فريدة
في الحضور والتأثير(37).
ينتهي إدوارد
سعيد فى تعريفه للمثقف الحقيقي إلى القول بأنه ذلك الشخص الذي يراهن بكل وجوده على
حس نقدي، يرفض فيه قبول الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والمكيفة
باستمرار لما يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون، وما يفعلونه، و ينطلق في رأيه
هذا من فكرة جوهرية في نظرته للمثقف قوامها: أن “المثقف” الحقيقي يوظف ثقافته وموهبته
في اتخاذ المواقف النقدية وفي مواجهة تحديات السلطة، إنه شخص يحمل رسالة ويتخذ
موقفا، وينطلق من فلسفة، وهذا كله يفرض عليه أن يطرح أكثر الأسئلة المربكة الحرجة
علنا دون خوف أو وجل، وهكذا يكون مثل هذا “المثقف” عصيا على الاحتواء من قبل
الحكومات، ومحصنا ضد كل أشكال الجمود والتحجر والتطرف والتأدلج، حيث تكمن وظيفته
الأساسية في التعبير عن قضايا المجتمع وهموم الناس وتطلعاتهم.
يقول إدوارد
سعيد في هذا الخصوص مؤكدا مقولة “المثقف العضوي” المناضل: “أعتقد أن الخيار الذي
يواجهه “المثقف” هو إمَّا أن يتحالف مع استقرار المنتصرين والحكام، وإمَّا أن
يعتبر أن الاستقرار حالة طارئة تهدد الأقل حظًّا بخطر الانقراض الكامل، ويأخذ
بالحسبان تجربة التبعية ذاتها، وذكرى الأصوات والأشخاص المنسيين، وهذا هو الدرب
الأصعب، فالمثقف الحقيقي، يقف بالضرورة على الضفة المقابلة للسلطة، يقف بسلمية
وحيدًا بصدره العاري، يصرخ في وجهها بالحقائق التي لا تعجبها ولا تعجب جمهورها
الذي ينساق خلف دعاياتها المضللة حول الأمن والوحدة والدين ومقاومة الإرهاب”(38).
وفي هذا القول تتبلور رؤية إدوارد
سعيد حول “المثقف” النقدي فالمثقف الحقيقي كما يراه لا يستسلم للحظة الظالمة ولو
كان مُقدرًا لها أن تبقى قرنًا، بل يهاجمها كما لو أنَّه سيكون السبب في رحيلها.
محمد
عابد الجابري
أسهم محمد
عابد الجابري في كثير من كتاباته في إغناء مفهوم “المثقف” الملتزم في التراث العربي
الإسلامي؛ ففي كتابه المميز «المثقفون في الحضارة العربية»(39) يستجلي الجابري
مفهوم “المثقف” ودلالته، ويبين في قراءته هذه وجود غياب كبير في المرجعية العربية
لمفهوم الثقافة والمثقف. وهذا الأمر يجعل البحث في دلالة مفهوم الثقافة في التراث
العربي صعبا إلى حدّ كبير. ويرى الجابري وجود صعوبة كبيرة في تأصيل هذا المفهوم
الذي يفتقر إلى الجذور الثقافية في البيئة الثقافية العربية.
ولا يخرج تعريف الجابري للمثقف عن الدلالة التي وجدناها عند غرامشي وسارتر وإدوار سعيد؛ فالمثقف، حسب الجابري، هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات “المقهورة” و”الكادحة”، وهو
بذلك يقصد “المثقف العضوي”، الذي نحتفظ له بتمثل عن مثقف السبعينات والثمانينات
والذي كانت اطروحاته وآراؤه حاضرة في مناقشات ومرافعات الطلبة في الجامعات
والملتقيات، مثلما كانت اراؤه تناقش داخل المقرات الحزبية عند الحديث عن الصراع
الطبقي ومداخل ثورة البروليتاريا.
ويعود الفضل للجابري في أنه قدم لنا تصورا واضحا للمفكر الملتزم في الحضارة العربية الإسلامية، وهو
الأسبق إذ استنبط صورة “المثقف” من التراث العربي محاولا تأصيل مفهوم “المثقف”
باللغة العربية، بإحالته إلى بيئته الأصلية التراثية العربية التي يمكن من خلالها
الوقوف على أهم ملامح هذا المفهوم وتعيناته في التراث العربي الإسلامي.
ويعود الجابري إلى مرحلة تاريخية مهمة في التاريخ الإسلامي في القرن الرابع عشر-وهي مرحلة
غياب الدولة المركزية ونشوء الدول المستقلة- ويصف هذه المرحلة بأنها «عصر إمرة
الأمراء» و«الدول المستقلة» على حد تعبيره. وفي ظل غياب المشروع الثقافي الكلّاني
للدولة ككل في ذلك العهد يحدثنا الجابري عن نوع من المثقفين أطلق عليهم «مثقفو المقابسات»، وهم المستهلكون للثقافة
الآخذون من هنا وهناك، حيث يحضرون في كل المجالس الثقافية الخاصة بالوزراء
والأمراء، إضافة للمجالس التي يعقدها هؤلاء المثقفون أنفسهم، وهم ما نطلق عليهم
اليوم تسمية “فقهاء السلطان”.
وفي كتابه “المثقفون في الحضارة العربية” يتناول الجابري مأساة شخصيتين إسلاميتين مهمتين، هما ابن
حنبل، وابن رشد، ليضعنا في
صورة المعاناة التاريخية التي واجهها المثقفون المسلمون الأوائل. وقد تعمدالجابري اختيار هاتين الشخصيتين في صراعهما مع السلطة: فابن حنبل هو عالم دين وفقيه كبير وزعيم لمدرسة فقه عظيمة، وابن رشد فيلسوف عظيم مخضرم،
وفي الحالتين كانت يد السلطة الغاشمة هي الأعلى والأكثر بطشا وإرهابا.
وفي هذا السياق يتناول الجابري بتفصيل واضح مواجهة ابن
حنبل للمأمون حول قضية “خلق القرآن” حيث أصرّ ابن
حنبل رغم السجن والتعذيب -فيما سمي بمحنة ابن
حنبل- على القول بأزلية القرآن، ورفض فكرةالمأمون التي تقول بخلقه، وهذا يشكل كما يريد الجابري أن يقول لنا، نموذجاً إسلامياً للمثقف الحر الملتزم الذي يواجه السلطة القائمة
ويتحدى أوجه الخوف والترهيب والتعذيب ليبقى صامداً متحدياٍ، في الوقت الذي تراجع
فيه الآخرون خوفا وتدليسا ومهادنة للسلطان.
وكما اتهم المأمون ابن
حنبل بالانحراف عن الدين الصحيح، فقد اتهم يعقوب
المنصور الموحدي، ابن رشدوجماعته من العلماء بالانحراف عن الدين، من خلال وصفه لكتبهم «بأنها مسطورة في
الضلال، ظاهرها موشح بكتاب الله وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، أسياف أهل الصليب
دونها مفلولة وأيديهم عمّا يناله هؤلاء مغلولة». وفي الحالتين كانت سلطة
الحاكم الخليفة هي القادرة على القهر والسجن وإحراق الكتب. وفي الحالتين كانت
الأسباب الدينية هي المعلنة، وفي الخلف منها الأسباب السياسية التي تخص الحاكم
وفهمه وما هُيئ له، أو ما دفعه البعض لكي يفهم الأمر عليه. ويرى الجابري أنه على الرغم من تعاقب القرون فإن البيئة العربية الإسلامية ما زالت تواجه
المثقفين بمثل هذا العنف الذي شهدناه في القرن الرابع عشر.
وهنا يحضرنا مئات النماذج عن تضحيات العلماء العرب والمسلمين في التاريخ
العربي الإسلامي الذين سطروا أروع المثل في مدى تفانيهم إزاء القضايا والأفكار
والمعتقدات والقيم التي آمنوا بها وضحوا من أجلها، من أمثال: الحلاج،
والجاحظ، وابن سينا، والرازي، وغيلان
الدمشقي، وابن المقفع، وابن
رشد، وأبو العلاء المعري، والجهم
بن درهم. وأكثرهم ذبح وقتل وحرق وقطعت أوصاله مثل الحلاج، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، وعبد الله بن المقفع الذي قتله الخليفة
المنصور، وسعد بن جبير الذي قتله الحجاج بن يوسف الثقفي.
وقد قُتل الإمامُ “المثقف” احمد بن
نصر الخزاعي، أشهر وأبرز رواة
الحديث النبوي في العصر العباسي، لمعارضته السلطان في قضية خلق القرآن. وتعرّض
الإمام “المثقف” الكبير الفقيه ابو
حنيفة النعمان للاضطهاد و للإهانة والجلد والتعذيب والسجن في العراق، وتعرض الإمام “المثقف”
احمد بن حنبل للسجن والتعذيب بسبب قضية خلق القران الكريم. وقتل الشاعر والمثقف أعشى
همدان على يد الحجاج بن يوسف في مدينة الكوفة العراقية بسبب جدال سياسي لم يحتمله
الحجاج .
وقتل الشاعر سديف بن
ميمون بأمر من الخليفة ابو جعفر المنصور. كما قتل الشاعر بشار بن
برد على يد الخليفة المهدي، وقتل الشاعر الشهير ابن
الرومي على يد الوزير القاسم بن عبيد الله، وقتل الشاعر دعبل
الخزاعي لقصيدة هجا بها الخلفاء العباسيين. وقتل الشاعر علي بن جبلة على يد الخليفة المأمون، وقتلالحسين بن منصور الحلاج على يد الخليفة الواثق. وهناك المئات من الشعراء والمفكرين والفلاسفة الذين
قضوا على مذابح الحكام والطغاة لأنهم كانوا أهل صدق في الدفاع عن الحقيقة التي
آمنوا بها والحق الذي عرفوه. فالتجربة النضالية للمثقف العربي تتصف بالغنى والثراء
في مختلف العصور الإسلامية في مراحل الازدهار والانحطاط وهم يتجاوزن بتجاربهم الاستشهادية
العظيمة كل ما قيل وسيقال في التاريخ عن “المثقف” العضوي أو الملتزم أو النضالي أو
الرسولي.
علي
اسعد وطفة – أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت
المراجع والهوامش
[1]- المختار بن عبدلاوي،
الثقافة العربية ومعطيات الواقع الراهن والآفاق المنظورة، مجلة الوحدة، عدد غير
مذكور التاريخ، ص 44-50، ص 45.
2- عبد الله عبد الدايم ، التربية والقيم
الإنسانية في عصر العلم والتقانة والمال، المستقبل العربي، السنة العشرون، العدد
230، نيسان /إبريل، 1998، (ص 64-86)، ص80.
3- أحمد زكي بدوب، معجم مصطلحات العلوم
الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، 1982، ص 222.
4- طارق مخنان، أزمة غياب دور النخبة المثقفة
الجزائرية في التغيير، أطروحة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع، جامعة قاصدي
مرباح –ورقلة – كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم العلوم الاجتماعية، مدرسة
الدكتوراه، العام الجامعي 2011-2012، ص 12.
5- عزمي بشارة، “المثقف” ليس بالضرورة ثوريا
لكنه بالضرورة نقدي، محاضرة ألقيت بالحي الثقافي بالدوحة في قطر.
6- صلاح بوسريف، وُجُـــوه “المُثقَّــف” أو
ضرورة التفكير في المفهوم، السبت، 21 يونيو 2014 12:40،موقع أنفاس:
7- محمد الشيخ، “المثقف” والسلطة، دراسة في
الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر، دار الطليعة، بيروت،ط1، 1991،ص18.
8- جيرار ليكليرك، سوسيولوجيا المثقفين،
ترجمة: جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2008، ص 18.
9- جيرار ليكليرك، سوسيولوجيا المثقفين،
المرجع السابق، ص 9.
10- محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة
العربية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص 25.
1[1]- محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة
العربية، المرجع السابق ، ص 25 .
2[1]- وليد خالد احمد، محددات الدلالة اللغوية
والمفاهيمية لمفردة الانتلجنسيا، الزمان، 17-ديسمبر – 2012:http://www.azzaman.com/?p=20632
3[1]- نبيل البكيري، أزمة “المثقف” العربي،
الصحوة نت: 13 مايو – 2014:
4[1]- صلاح بوسريف، وُجُـــوه “المُثقَّــف” أو
ضرورة تفكير المفهوم.، السبت, 21 يونيو 2014 12:40، موقع أنفاس:
5[1]- جان بول سارتر، دفاع عن المثقفين، ترجمة
جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت 1973، ص 13.
16- عباس النوري، تعريف “المثقف” والثقافة،
مركز النور للدراسات، 26/12/2007.
17- صلاح بوسريف، وُجُـــوه “المُثقَّــف” أو
ضرورة تفكير المفهوم.، السبت، 21 يونيو 2014 12:40، موقع أنفاس:
18- محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة
العربية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، كانون الثاني/يناير 2000، ص 25.
19- محمد عابد الجابري، مفهوم الثقافة… وقاموس
الخطاب العربي المعاصر، 2007-12-11: مركز دمشق للدراسات النظرية وحقوق الإنسان: http://www.mokarabat.com/s3011.htm.
20- صلاح بوسريف، وُجُـــوه “المُثقَّــف” أو
ضرورة التفكير في المفهوم، السبت، 21 يونيو ،2014 12:40، موقع أنفاس:
21- إدوارد سعيد، “المثقف” والسلطة، ترجمة
محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، ص 34، 35.
22- انظر:
Julien Benda , La trahison des clercs, Editions Grasset, Paris, 2003.
23- طارق مخنان، أزمة غياب دور النخبة المثقفة
الجزائرية في التغيير، أطروحة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع، جامعة قاصدي
مرباح –ورقلة – كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم العلوم الاجتماعية، مدرسة
الدكتوراه، العام الجامعي 2011-2012، ص 20.
24- محمد عابد الجابري، مفهوم الثقافة… وقاموس
الخطاب العربي المعاصر! – 2007-12-11: مركز دمشق للدراسات النظرية وحقوق الإنسان: http://www.mokarabat.com/s3011.htm
25- راجع، الانتلجنسيا العربية: المثقفون
والسلطة، دراسة د. محمد الدقس، الانتلجنسيا العربية: الواقع والطموح ملاحظات
أولية، عمان: منتدى الفكر العربي بالتعاون مع اتحاد المحامين العرب والجمعية
العربية لعلم الاجتماع، ط1، عام 1988، ص 141.
26- وليد خالد احمد، محددات الدلالة اللغوية
والمفاهيمية لمفردة الانتلجنسيا، الزمان، 17 ديسمبر – 2012:http://www.azzaman.com/?p=20632
27- اسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي، الموسوعة
الاقتصادية والاحتماعية، قويسنا، القاهرة، 2005، ص 60.
28- طارق مخنان، أزمة غياب دور النخبة المثقفة
الجزائرية في التغيير، مرجع سابق ، ص 17.
29- أنطونيوغرامشي، كراسات السجن، ترجمة عادل
غنيم، دارالمستقبل العربي، 1994، ص 24، 25.
30- أنطونيو غرامشي
The prison notebook: Selection.trans.Quintin Haor and Geoffrey Nowell-Smith
(New York: International Publisheds , 1971)
31- أنطونيوغرامشي، كراسات السجن، مرجع سابق،
ص، 27-28.
32-حميد الهاشمي، نحو محاولة لفك الالتباس
بين مفهومي الثقافة والمثقف، دار ناشري،20 ديسمبر/2003:http://www.nashiri.net/articles/intellect-and-philosophy/668——-v15-668.html
33- جان بول سارتر، دفاع عن المثقفين، الترجمة
العربية بيروت، دارالآداب، 1973 .
34- طارق مخنان، أزمة غياب دور النخبة المثقفة
الجزائرية في التغيير، مرجع سابق، ص 24.
35- ادوارد سعيد، صور المثقف، ترجمة، غسان
غصن، النهار للنشر، ش..م.ل. بيروت، 1996، ص 37، 38.
36- ادوارد سعيد، صور المثقف ، مرجع سابق، ص41.
37- طارق مخنان، أزمة غياب دور النخبة المثقفة
الجزائرية في التغيير، مرجع سابق، ص 62.
38- يحيى العريضي، نعوم تشومسكي مفكر يهودي
يحمل الحقيقة في وجه القوة، السالب والموحب، الأربعاء، 26/أغسطس/ 2014:
http://salebmujeb.com/home/2014/8/438.html
39- محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة
العربية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، كانون الثاني/يناير 2000، ص 25.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق