داخل الجذور التربيعية لمصطلح «الإنسان»، تغص المعاجم
بإدراجِ وصفٍ دقيقٍ لهذا المصطلح، فقد يكونُ هذا الوصفُ عقليًّا، أي ناتج من
تصوراتٍ تقومُ على جملةٍ من التجزئةِ والتفصيل والتشريحِ الدقيقِ لجذر الكلمة،
بغية الوصولِ إلى معناها وفقَ التّصور العقلي الإنساني. وقد يكونُ نقليًّا
مُستندًا إلى تنزيلٍ حقٍّ قيلَ ما فيهِ، وليسَ كُلُّ ما قيلَ فيهِ. حيثُ نلقف في
القرآن خلقًا قويمًا ﴿لقد خلقنا الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ﴾[1]. كذلك فقد قال
«السير جون أليكس»: «كل نفسٍ هي من خلقِ الله».
وقد تبقى عملية البحث عن هذا المصطلح، أو بالأحرى عملية
تأصيلِهِ وتمحيصِهِ لاستنباطِ أصلِهِ، فقيرةً من اليقينِ النهائي والخلاصاتِ، حتى
يوشك البعض على التسليم بشكلٍ كاملٍ والخضوعِ الكاملِ إلى النص الديني لعجزهم عن
العثورِ على الحقيقةِ المطلقة، وذلك بسببِ «أعمارِ الإنسانِ القصيرة، وأعمالهِ
الكثيرة» [2]، وجهلهِ بالكثيرِ من البُنى المعرفيّةِ التي تخبّئُ نفسها لزمنٍ
آخرٍ، أو لرحلةٍ زمنيّةٍ كونيةٍ أخرى، أو لرقودٍ في عقلٍ أحقُّ من سواهُ بامتلاكها.
ونحن هنا لا نقولُ بأن الخضوعَ والتسليم للنص الدّينيّ
كابحٌ لسلطةِ العقلِ وإرادةٌ ساكنةٌ للمادّةِ، بل على العكس لأنّ الخضوعَ قد يأتي
كنتيجةِ حسمٍ بعدِ سنينَ شاقّةٍ من البحثِ والإعمالِ، بما زُوِّدّت النّفس
البشريّة من معارف طيلةَ فترة استكشافاتها للعوالم المتوافرةِ والمتوالدة تباعًا
لخيالها وارتشافاتها للعلومِ.
هذا وبتزاحمِ الفرضيّاتِ المُكتشفة والتي تتوافرُ في
قبضةِ عقلِ الإنسانِ، يصعبُ تحديد الحقيقةِ المطلقة في إطارٍ إنساني ديالكتيكي
زئبقي. لكنّ العمليّة التي تتصارع عليها القوى الإنسانية في السّاحاتِ الفلسفيّة
والأدبيّة والعلميّة، تُفضي إلى جدليّاتٍ هابطةٍ وصاعدةٍ، ثمّ إلى يقينٍ عذبٍ هو
الله.
والإنسان لا يعدو كونه كائنًا روتينيًّا تنطبقُ عليه
العمليّات الحيويّة والتي هي واحدة بالمقارنةِ مع جميعِ النّاسِ على هذا الكوكبِ،
بل هو الكائنُ الممتاز بما ندر، وصفةُ الامتيازِ ليست بالضّرورةِ لصيقةً
بالإيجابيّة. بل قد تكونُ قطبًا سلبيًّا من القوى المغناطيسيّة الفكريّة، وقد
تكونُ قبل هذا كلّهِ حالةُ تفرّدٍ -وهي كذلك- تفرّدُ الإنسانِ بما يحويهِ في رحمهِ
الفكريّ الخصب، تفرّده بمبادئهِ، بفيضِ علومهِ. والتّفرّد سمةٌ إنسانيّةٌ بحتة،
وامتيازٌ من النّاحية الفكريّة والفلسفيّة. أسئلةٌ تشكّلُ مواد ذرّيّة من أجلِ
انفجارِ شكوكهِ العنيف، لولادةِ كونٍ متناسقٍ متراتبٍ، متشعّبٍ لا نهائيّ، لولادةِ
حقيقةٍ إلهيّة.
التّشريح أوّلًا ثمّ التّجميع
استهلَّ «بول دافيز» الفصل السّادس من كتابهِ «الله
والفيزياء الحديثة» بقولٍ لـ «كارل جوستاف هونغ» مفادهُ:
« أعتقد أنّ بعض أجزاء
الإنسان أو روحه، ليست خاضعةً لقوانينِ الزّمانِ والمكانِ »
فالكائنُ الإنسانيّ مفطورٌ على التّأنسنِ -وليسَ كلُّ
حيٍّ إنسانٍ- فهو عقلٌ أرخبيليّ، كلّما كبرَ العالم الّذي في رأسهِ، زادت المسافات
بين الأرخبيلات، وزاد معها زخم التّفاصيلِ والجزيئيّات الصّغيرة التي تشرعُ في
الوجودِ. حالةٌ من عدم الاستقرار لِعدم اعتمادها على الأماكنِ والتّصنيفاتِ الفصل.
حالةُ سيولةٍ حركيّةٍ في مباهج الأزمنةِ المتعدّدةِ والفرضيّاتِ المتخابطةِ،
وتكرار عمليّاتِ التّنشيطِ والغزوِ المعلوماتيّ. عيشُ الفكرةِ إلى أقصاها في أيّما
أخدودٍ من أخاديد الدّماغِ، في أزمنةٍ محمومةٍ، المجهولُ منها وحده المتخم بمعانٍ
خفيّةٍ.
ومع الاتّساعاتِ العظمى وذوبانِ الحدودِ بينَ
أرخبيلاتهِ، يشرع في وضعِ ما اكتسبهُ ونثرهُ في أقاصي معمورات عقلهِ داخلَ علبةٍ
مجهريّة، بحيث يبدأ في اختلاس النّظر عمّا بداخلها عبر ثقبٍ صغيرٍ كما في
الفوتوبلاستيكون[3]، مندهشًا من كلّ تفصيلٍ خزّنهُ، من عوالم الميثولوجيا داخل
رأسهِ، من الانتماءاتِ الكاملةِ للكلّ المتكامل. كائنٌ انشقاقيّ، يميلُ إلى
التّجزئةِ والتّفتيت، تجزئة تحصيلاتهِ المعرفيّة، تشريحها إلى أصغرِ تناهياتِها
وتماهياتها. متدرّجٌ في حالات التعريفات والمسلّماتِ والاستنتاجات … كائنٌ قلقٌ من
أمرينِ، المادّة والمجهول، انحلالُ المادّةِ ومعميّات المجهولِ وأسرارهِ. حالةُ
قلقِهِ هذهِ تستمرُّ معهُ في عمليّاتِ تأنسنِهِ وفكِّ شيفراتِ هذا العالم، وكما
أشرنا سابقًا، فهو تفتيتيٌّ من حيثُ التّصنيفِ وعمليّاتِ القولبةِ الذّهنيّة،
ينطلقُ بصفةِ الجزئيّة؛ يُمحّصُ، يشذّب، يسألُ … فإن انتقدَ كتابًا كان قد ولجَ
إلى تفاصيلِ الأفكار قبلًا، وإن بنى هرمًا زجاجيًّا حصلَ أن درسهُ من قبل؛ شظّاهُ
إلى كريستاليّاتٍ رمليّةٍ في رحلةٍ معرفيّةٍ لأعضائهِ، قواعدهِ الفيزيائيّة، مواده
العضويّة، تركيبات عناصره الكيميائيّة، تراصّات المعادلاتِ والمبادئ الرّياضيّة.
وبما أنّ معرفة الأشياء تكون عبر أوصافها، كذا بحكمِ
جزئيّة الإنسان طفقَ يجزّئُ محلّلًا، من الخصوص إلى العموم، تراتبيّة عموديّةٌ
تفضي في نهاية المطاف إلى الكلّ المتكامل. أمّا الآن وفي خضمّ ذاك الضّجيج العقليّ
نسأل: متى يستقرّ الإنسان؟ وهل محكومٌ عليهِ بالكلّيّةِ؟
ذكرنا أنّ الإنسانَ كائنٌ انشقاقيٌّ بالمصطلحِ العمليّ
والواقعة الفرديّة لكلّ شخصٍ غزا. الكوكبَ بمجيئهِ صاحب الأثرِ على السّاحةِ
المعرفيّة، والّذي قد يظنّهُ البعضُ تحاملًا، يحصل هذا عند افتقادِ التّفاصيل،
المبادئ، الأفكار الرّئيسيّة من تركيبتهِ الإنسانيّة، وقاعدةِ وجوديّتهِ، أو عندَ
الغرقِ في أمرين، تربّصهِ بالمادّة، أو انغماسهِ في حالتهِ القلقة من غير أن يمحَق
أسبابها ويزعزعَ مخاوفهُ بالإقدامِ على الخطوةِ الرّئيسيّة من عمليّة صناعتهِ
لذاتِهِ وقولبتها، كيْ يحصل التّغيير الّذي يخشاهُ. المهمّ الآن الانتقال إلى
القطب الآخر.
تناقضات الفكرةِ والتّكوين
وقد يكون الإنسانُ وليدَ التّناقضاتِ كما يقولُ سارتر،
وقد يكونُ حالة ثباتٍ لا تُحدث شرخًا في عقولِ الأجيالِ. لكن ألا يسعنا القول:
إنّه يجب تمحيص تلك التّناقضات، لأنّ الإنسان هو الّذي يصنع ذاته بذاته، يمرّ
بالتّجاربِ المتناقضة؛ المشاعر المتناقضة، الاستنتاجات المتناقضة، الفرضيّات
المتناقضة، ليركن نفسه في تلكّ الكلّيّة: الجزء الممحّص في الأجزاءِ هو جزءٌ من
كماليّةِ الله.
قد يمضي جلّ حياتهِ بالبحثِ عن حقيقةٍ أضمرتها بحوثهُ
وعقله، ولا يستطيع التّعبير عنها بمصطلحٍ كافٍ يعطي المفهوم حقّهُ وصورتهُ
الكاملة، ثمّ قد يمضي حقبةً أخرى من البحث عن المفهوم، ويكتفي بالتّلميحاتِ
اللّغويّة لأّنّها تكون سبيله الوحيد لرسمِ صورةِ الشّيء المضمورِ في أصقاعِ رأسه.
قد تكونُ الفكرة جليّةً في رأسهُ، لكنّها في الوقتِ نفسهِ متهرّبةً من الكلماتِ
والتّرابطاتِ اللّغويّة، فتحافظُ على رسمتها بصورتها الرّياضيّة ربّما أو
الفيزيائيّة، ألّا تظلم الكلماتُ أفكارًا بقيت قيد البحثِ بسببِ قصورها عن الفكرة؟
كم من فكرةٍ ظلّت حبيسة حلقِ صاحبها بسببِ قصورٍ لغويٍّ أو نقصانٍ في بئرِ
الكلمات؟
ولسنا الآن بصددِ البحثِ في موضوعِ الفكر واللّغة، وقد
شارفَ مقالنا على الانتهاء، رغم أنّه لا ينتهِي بتشعّباتِهِ الممتدّة. ما يهمّنا
هو سبر غور ذاك الإنسان، وتحديدِ مُستقرّهِ، وإن كان مصطلحِ التّحديد يعني
التّقييدَ أحيانًا، غير أنّ الإنسان لا يجبُ عليهِ بتاتًا تقييدُ نفسِهِ بدائرةٍ
ما، أو حصر نفسهِ بزمانٍ ومكانٍ ورؤوسٍ دائريّةٍ تغزوها الطّحالب.
عليهِ دائمًا حملُ الأمورِ بأبعادها الشّموليّة،
بأجزائها الشّموليّة، كي يكونَ حريصًا على عدمِ فقدانِ جزءٍ هو أساسٌ في عمليّةِ
ارتقائِهِ بمراتبِ العقولِ، وتحصيلِهِ الدّرجات المؤنّقة في سدرةِ التّناهيات
العُلى.
من جهةٍ أخرى، صُنِّف العديدُ من العلماءِ و الفلاسفة في
دائرةِ الإلحاد، ما يهمّ قوله إنّ الملحد هو ملحدٌ بذاتِه، متشكّكٌ بأعطافِهِ
الذّاتيّة، حين يدافعُ الّذي تسمّونهُ بالملحِدِ -وأسمّيهِ بالقَلِقِ- عن فكرةٍ
ما، نظام ما، مقدّمات ما، نظريّات ما، أليست هذه الأفكار والمبادئ والأنظمة
والمقدّمات أجزاء من الكلّ المتكامل؟ أليسَت الفكرة إلهامًا آمن بها، عملَ بها،
دافعَ عنها، حتّى وإن كانَ رافضًا لوجودِ الله، لكنّه رافضٌ لوجودِ نفسهِ، مناقضٌ
نفسه، مليءٌ بالمربّعاتِ السّوداء في مكعّبِهِ الرّوبيكيّ الّذي افتقد مبدأ
اتّساقهِ وترتيبِهِ، يعيش مثل بطلِ باربوس[4]، غرفتهُ هي حدود إدراكهِ، يرى العالم
الخارجيّ من ثقب الحائط ويطلقُ الأحكامَ بفراغاتٍ عديدةٍ. نحن هنا لا ندافع عمن
تنعتونهم –بالملحدين- ولا نبرّر نظريّاتهم. لكنّنا نقولُ إنّ المؤمن بالأجزاء كيف
له ألّا يكونَ مؤمنًا بالكلّيّة وربّ الأشياءِ الصّغيرةِ؟
خاتمة
هذا هو الإنسان، يجتهد ليعرف، يتسربلُ بالشّكوكِ، لا
يطمئنُّ لحكمٍ، يتآكلُ بالخوفِ والقلقِ واليأسِ، أنانيٌّ أحيانًا، مُتَغطرسٌ في
أحيانٍ أخرى، يهربُ متجرّدًا من هُويّاتهِ، يتملّص، يشتّتُ نفسهُ، يرى ما يريدهُ
هوَ لا ما هو عليهِ حقًّا، لا يكتفي، يريدُ أكثر، آخر، جديد. لا يعجبهُ إلههُ، لا
يعجبهُ شخصه، لا تعجبهُ مساحاتُ الإحاطةِ، فيتجدّد. من لا يتجدّد يبقى ساكنًا؛
يكبرُ أكثر، يشعر أقلّ، يموتُ أسرع، يوثّرُ أقلّ. متآلفٌ مُتنافرٌ، لفيفُ
الأجزاءِ. حتّى تلك الكلمات المتناهية –التي سبقَ وأجزنا الحديث عنها- هي إسقاطٌ
جزئيٌّ من فكرةٍ نحنُ نبتَدعها، نحاول قدر المستطاعِ أن نصل لأقصاها والتّعبيرِ
عنها بكمالاتها، لكنّ التّعبير يبقى قاصرًا عن التّحديدِ الدّقيقِ والإحاطة
بالشّموليّةِ الكاملة.
كذا الإنسانُ، الجزء المصنوعُ من كاملٍ صانعٍ، يمضي
حياتهُ في محاولةِ الوصولِ إليهِ قدر الإمكان عن طريق الفحص في الموجودات
والمصنوعات والتّأمّلات وشتّى الوسائل المعرفيّة، «فإنّ من لا يعرف الصُّنعة لا
يعرف المصنوع، ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصّانع»[5]. إذن هو جزءٌ في مملكةٍ
متراتبةٍ، عقلٌ يجتهدُ لبلوغِ الحقِّ، حتّى وإن احتوى والكون على ما لا نهايات
الأجزاء المادّيّة وغير المادّيّة فهو محكومٌ عليه بالكلّيّة، وتوقهِ لقوّةٍ أعظم
منه، تحويهِ ويحويها: إلى الكمال المطلق، حيث الاستقرار من خلال إزالة اللّبس
الفكريّ المسبّب للقلق الوجوديّ.
حقًّا: عقيمٌ هو ساكنُ الجانبينِ، فارغٌ هو مميتُ
الحبكاتِ.
فاطمة ع.
سليمان - طالبة في الأدب العربيّ، باحثة عن الأصولِ في شؤون اللّغة، مهتمّة في الفلسفة
بشكلٍ
المراجع
1- القرآن
الكريم: سورة
التّين، الآية 4.
2 - البعلي، فؤاد، “فلسفة إخوان الصّفاء الاجتماعيّة والأخلاقيّة”، مطبعة المعارف، بغداد، ص70.
3 - الفوتوبلاستيكون: مسرح الصّور المجسّمة في وارسو، بحيث تستطيع اختلاس النّظر إلى
ما بداخله عبر ثقب صغيرٍ.
4 - كولن ولسن:
بطل رواية الجحيم للكاتب هنري باربوس.
5 - ابن رشد، “فصل المقال في ما بين الحكمة و الشّريعة من الاتّصال”، دار الكتب العلميّة، ص27.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق