ديوان "تباريح على أرصفة الليل" للشاعرة فطنة بن ضالي : علاقة الذات بالزمان والمكان - محمد الأشياخ - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 8 فبراير 2020

ديوان "تباريح على أرصفة الليل" للشاعرة فطنة بن ضالي : علاقة الذات بالزمان والمكان - محمد الأشياخ




    لقد تعددت التجارب النسائية المغربية في الشعر منذ زمن الاستقلال، وكانت كلها بمثابة ثورة نضالية على السائد المحتكر للكتابة والنشر، فكان حضورها استثناء  و مواجهة لتيار يرى في المرأة الكثير،  إلا أن تبدع و تكتب لذاتها وللآخرين. ولا يسعنا و نحن في حضرة المؤنث المبدع إلا أن نقف على تجربة نسائية متعالية تملك من الأدبية ما يبوئها تلك الحظوة الثقافية المستحقة،  و المتمثلة في شرف بناء لبنات الثقافة المغربية المعاصرة بلون الحساسية الجديدة،  الذاهبة نحو تأنيث تصوراتنا المحلية والعالمية لشكل الآداب و الفنون. و من بينها تجربة الشاعرة المبدعة فطنة بن ضالي، الآتية من تيه الذات إلى ضياء اللحظة الزمنية في وعينا، عبر إصدارها الشعري "تباريح على أرصفة الليل"،  وهو العمل الذي يبارح بما يقدمه من عمق شعري سياقات تصوراتنا المسبقة للكتابة النسائية، ليرتقي بنا إلى الأدبية التي تضمن للتلقي متعة الحضور في قلب تجربة الشاعرة المخضرمة في امتهان سلطة اللغة الشعرية.
    تلك السلطة المتسلحة بهوية المرأة و قوة حضورها، والتي تضعنا في خضم تجربة تناضل جماليا باللغة والفكر، مستندة على موهبة الكتابة التي لا يمكن حصر مفهومها  في مجرد هبة  علوية  جادت بها أطياف القدر. لذا و نحن نلامس بقراءتنا الواعية ما قدمه الديوان، فقد طغى على تذوقنا ذلك الحضور لمفهوم الهوية الشعرية المبني على الذاتية واللغة في بناء صرح القصيدة الواعية بقيم الإبداع و الجمال.
  إن الكتابة النسائية  نهوض من رماد الإقصاء و الغبن الاجتماعي و المعرفي الذي عاشته المرأة، و هي التي شاركت في كل فروض الوطن، مساندة في بناء مشروعنا الثقافي الذي ما زال يتخبط في نفس المطبات القديمة، التي تتجدد عبر الأفكار الرجعية المستقاة من تصور خاطئ لدور المرأة في المجتمع، أو لتأويل أرعن للنص الديني أو التراثي عبر  إخراجه عن سياقاته العليا. و هي تصورات تترجم ذكورية المجتمع و سيادة غطرسته الأحادية، وعدم قدرته على الارتقاء عبر الاستفادة من الدور الكامل للمرأة، الذي سيثري حياتنا من حيث غنى الرؤى المحملة ببصمة شخصيتها.
  والمرأة شاعرة ملكت سلطة الكلمة منذ زمن بعيد، فأعمالها تتمايز عن كل ما يقدم في الساحة الثقافية عبر هوية المؤنث التي تؤطر ذاتها المتقدة بالعطاء. فالشعر منح المرأة فرصة محو الحدود الوهمية بين الجنسين إبداعيا، من منطلق أن الإبداع الجيد هو الأكثر تمتعا بالأدبية بغض النظر عن كاتبه. حيث الكتابة تجرد إنساني عن العوالم الدونية، ونافذة مفتوحة نحو العطاء الذي هو الأصل في تحديد قيمة الإنسان الفاعل و المنتج. فقد قال يوما أفلاطون"من مس قلبه الحب يصبح شاعرا فكيف إن كانت المرأة التي هي منبع الحب و منتهاه، شاعرة  مبدعة تسافر في الخلجان النفسية لتجعلنا نطل على العالم من زوايا المؤنث، الذي يثور على الآسن في أفكارنا و معتقداتنا المتجاوزة.
الذات و هوية المؤنث
   أن تكتب، معناه أن تكون حاضرا،  أن تجابه الإقصاء الداخلي و تركب الذات صعودا إلى الضوء ، هناك تتقطر الهوية كالشمع على الحروف المترجمة للغة الأنا العلوي، هناك يتمظهر الوجود الحق للشاعرة. ولقد استطاع ديوان "تباريح على أرصفة الليل" أن يصرح بحقيقة الحضور  في شعرية النص. هذا النص الذي بصم بحساسية الذات تجاه العوالم المحيطة به، في إطار قراءة جمالية للتفاصيل المكانية والزمانية في علاقتها بالأشياء. فحينما تكتب الشاعرة وهي مكبلة بالغمر النوراني للحظة الشعرية،  فإنها تحاول أن تختلف عن المعهود في الكتابة، ليبقى السؤال الشرعي في هذا الموقف كيف يمكنها ذلك؟
 في تصورنا، نقر بأن الغنى الذي ينجلي في مكنونات المؤنث هو العابق بالحضور في زمن النص و زمن التلقي، فإحساسها كشاعرة يطغى على النص، يمدها برقة الكلمة و حساسية المناولة، يأخذ العوالم الداخلية ليعبر بها إلى المتلقي من نافذة المضايق الأكثر تركيبا و الأوسع تأويلا. فلعبتها الاحتكام إلى الداخل إلى المقدرات الخفية في شخصية المثقفة فيها، و عنفوان الممتهنة للغة و  للكتابة في تجربتها الإبداعية.
   إن الذاتية في تجربة بن ضالي ليست عفوية بل هي تجربة واعية، مثاقفة شربت من مسارات المرأة، و قد تجلى ذلك في تذوقها للصور الشعرية وللغنى الحاضر فيها. كما تمظهر  في سلطة الذات في تقديم تصور للكلمة الشعرية. إنها تشتغل على اللحظة الشعرية حابسة  إياها من الفرار إلى اللامعقول. وقد تم كل ذلك في مستوى عال من الوعي مما جعل نصها الشعري أدبا خدوما للإستيطيقا في زمن التلقي. و هو الاستحقاق الذي يطالب به المبدع المؤمن بالأدب و بقيم الكتابة الجادة.
  إن الشاعرة فطنة بن ضالي و هي تخوض غمار التجربة في هذا العمل، مكنتنا من الاقتراب من منظورها للنص الشعري و لتصورها للقصيد في زمن المؤنث، فهي عندها " تأسيس للكينونة بالقول و الكلمة /إنه باختصار أساس تاريخ الإنسان نفسه "1. وهو في الحقيقة تأسيس لتاريخ الذات الواعية المتطلعة إلى إثبات وجهة نظر معينة، إنها تسعى إلى تحقيق الاختلاف في شاعريتها من حيت مستوى التفاعل مع التيمات الموظفة في العمل، والتي جاءت متنوعة وواعدة بقراءة متعالية على مستوى التجربة. فهي تتوسط علاقة التلقي و تؤطر بالدلالات مسارات تأويلنا للنص ف " الشاعر الحقيقي هو من يؤدي دور الوسيط بين الآلهة و البشر ، فيتلقى الأمارات القادمة من عالم الخلود و يقدمها للفانيين"2  من أجل شهوة الدهشة التي قد يحملها أي نص.
   كلما انغمسنا أكثر في استجلاء أبعاد حضور الذات لدى الشاعرة بن ضالي إلا ووقفنا على العتبات التي تقف عندها هذه الذات لقراءة العوالم الجوانية في  احتكاكها مع العالم الخارجي، ويعتبر المكان و الزمان محورا الانشغال التيمي للشاعرية المبدعة. فكل الأزمنة تتوقف في اللحظات المتسامية، التي تعانق فيها القصيدة حالة الوجدان أمام الأمكنة في الديوان أو بين ثنايا الأزمنة المتعاقبة  في الحدث الشعري.
 الذات و المكان
   هو الوطن يسكن أعمق الأماكن في الوجدان، كل الصور تحيل عليه هناك حيث حس الوحدة والعزلة بالتفاصيل التي يحملها عبق الوطن، هذا الساكن في تفاصيل و جودها.
 تقول الشاعرة:
الوطن بحر
جراحاته مضمخة
بعلو السماء و بالهوى
أي هدير يرفع الصوت
بالليل و النهار
أيتها الريح العاتية3
و تقول:
 في أرجاءك وطني
يُلبسني الصبح
باقات العشق
تشعل فتيل الوجد
فأسكب رحيق قلبي4

إنه يلبسها، تستحضره و يستحضرها في أكثر الأحاسيس شفافية، فالعشق لأرض الوطن و لمتعلقاته يتخاطفها في زحمة الصور الشعرية ليبني بها عوالم جمالية متوسلة باللغة البلورية الموظفة، لغة تحمل من الرقة الكثير، و تستقي الشجن ليعصر حبا و ألما على ردهات انتظارها للزمن، لعله ينصف لحظتها في المكان، فلو كان في العمر عمر أو أعمار لذهبت كلها في مساعي هذا الحب.
تقول الشاعرة:
لو يولد من عمرها عمر
هناك على التل
في القصبة المنسية على جدران الطين العافية
منذ زمن....
قلبي معلق....
بعشق الغدران الصافية.5
  فالشعر ها هنا يولّد رؤية تسعى  إلى بناء تصور لقيم المكان، فالشاعر" لا يعرض آراء و لكنه يعرض رؤية" 6 تعبر من الحياد إلى التكثيف"7، فالتعابير تضيق عندما يكون المعشوق بهذه الحظوة هو الوطن، و تسمو فوق غيرها من الأشياء، فالذات المؤنثة تتحسس هذه المواقف من العالم،  فنجدها توظف لغة عابرة إلى الدلالات قادرة على التصوير بل آملة إلى المدد العلوي ليقف بجانبها، تقول:
دانيات العشق
 في زمن
يكفر بالإحساس
يارب علمني
ألا أنسى ألوان النور.8
وهنا ينجلي بعد آخر  في قريحة المبدعة و هو التصوف، الذي هو ترفّع باليقين عن دركات الشك إلى قيم صدق الذات، فبتعبيريتها عن عشقها للمكان الذي يلبسه الوطن في كليته، استطاعت الشاعرة أن تبدو أكثر شفافية من حيث بناء صورها التي ارتكزت على معجم غني بالرمز والصدق في مبادلة هذه الأرض بذاك القدر من المحبة التي تستحق.
الذات والزمن
  حينما تتقصى الزمن في قصائد ديوان "تباريح على أرصفة الليل" ، تصادفك التراكيب في ضبط كمّ الأزمنة التي تصارعها الذات في قراءة اللحظة. إنه التداخل بين الزمن الداخلي و الخارجي، زمن الذات التي تقيّم كل شي في مستوى الذاكرة و الإحساس، فتعقلن حضورها من هذا الموقف الواعي.
تقول:
ما خُلق
القمر في دجى الليل
 إلا من أجل السهر
و هذا اختلافي.
رضاي
في هذا اللبس
بما يجود الزهر من عبق
لحظة الوصل.9
فالزمن ملتبس  يبارح الأمكنة و الصور، و يمسها بجنون الشعور التائه بين الماضي والحاضر.
تقول:
لو أن بين الليالي  ليل
مانام البشر،
ولو أن بين الأقمار عمر
ما سهرنا الليالي،
ولكن بين الأصيل و الفجر عمر الجنون
فاغنم ساعة الصفاء
و انتظرني كلما بدا القمر. 10
    إن الزمن حينما يقسو عليها لا يزيدها إلا تعلقا واشتهاء به، فالذاكرة كلها هناك حيث الروائح العبقة والأنفاس العذبة التي تسجن حسها الشاعري في بوتته التي تتنزل عليها قدرا مجبولا، تقول الشاعرة:
أيشتهيني أنيني
ساعات السحر
أم أني مجبولة
ككل البشر
على يد القدر.11
فالذات الشاعرة في هذه المقاطع يشدها الزمن داخل واقعية الأمكنة. و كم من مكان اختزل كل العمر، بل كل الأزل في ذاكرة محفزة على البوح ، تقول الشاعرة :
و نشوة كؤوس القهوة
ساعة الظهيرة
ورائحة تنفس الياسمين
والأزهار في الليل ...12
   تعتبر الشاعرة فطنة بن ضالي من خلال هذا المنظور الذي طرحناه،  ذاتا شاعرة بامتياز. حيث استطاعت عبر نصوص ديوانها أن تقدم عملا يتصف بالأدبية  المرتكزة على امتهان جلي للكتابة بمهومها المثاقف. فسلطة الكلمة تتسيد إبداعها و توجه ذاتها العارفة في مسارات النص، و هي تنحت تيماته، و تنقش في زمن التلقي كل المعاني التي ترغب في عرضها على ذائقتنا القرائية. إن العمل راكز من حيث لغته المتعالية عبر الاشتغال على المعجم التوافقي مع كنه التيمة، والذي امتاز بشفافيته نظرا لصفاء الرؤى المطروحة في العمل المبني على صدق الأحاسيس و نبل العاطفة، و حدة و حساسية الشجن الذي يلف مشاعر المبدعة و هي تعانق الأمكنة والأزمنة. ولعل هذا التميز هو المعبر عن الهوية النسائية في التجربة الشعرية المغربية، لما تتصف به من جدة في الاشتغال و من ريادة في الطرح. إن الشاعرة  فطنة بن ضالي حين تكتب فهي تناضل من أجل نص جمالي يرتقي للذوق المطلوب في حساسيات التلقي، التي لا تؤمن إلا بالعمل الأرقى مهما كانت خلفياته الإبداعية.

الهوامش
1- عبيد الدين بنزيد"منزلة الكلمة الشعرية في مجموعة " أقول لكم" لصلاح عبد الصبور ، مجلة عالم الفكر، ع4، 2016،  ص 70.
2- عبيد الدين بنزيد"منزلة الكلمة الشعرية في مجموعة " أقول لكم" لصلاح عبد الصبور ص 70.
3-  قصيدة  أغنيتان من أجل الوطن  تباريح على أرصفة الليل ص 49
4 - قصيدة قطوف ص .34
5-  قصيدة تباريح ص21
6- عز الدين إسماعيل -  الشعر العربي المعاصر: قضاياه و ظواهره الفنية والمعنوية
7- اللغة العليا " جون كوهين –ترجمة أحمد درويش – القاهرة – المشروع القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة ،ط2 – 2000- ص 145
8-  قصيدة قطوف ص 33
9- قصيدة تباريح ص 16
10-  قصيدة حرفك قبس من نور ص 45
11-  قصيدة تباريح ص 20
12- قصيدة تباريح .15

 .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق