لا شكّ أنّ هناك وجودًا لأيادٍ خفيّة تحرّك
بندول الزمن بهذه الخفّة وبهذا التوتّر، فنركض ثمّ نركض كما لو أنّ أحدهم يطاردنا
بآلة حادة. نركض جارفين ظلالنا الكئيبة صوب المجهول، وملتفتين إلى الوراء لتقدير
المسافة ولإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على من سقطوا في منتصف الطريق مثل أعجاز نخلٍ
خاوية.
نركض طوال الأسبوع والشهر والعام دون أن
نملك متّسعًا من الوقت لإنجاز كل هذه الأعمال الكاملة، وتحقيق هذا الطموح الغامض
وهذه الأحلام الأممية، أو على الأقل من أجل وضع علامات الترقيم والتقاط الأنفاس
قبل مواصلة الركض. يا لغرابة الأيام وسوء الحساب بالأصابع! ماذا لو كانت أيام
الأسبوع ثمانية، وأيام الشهر أربعين؟ ماذا سنفعل بالتحديد في اليوم الثامن؟ هل
نصنع زورقًا من ورق، ونجرّب الهجرة السرية إلى أوروبا عبر البحر المتوسط في
الخيال، أم نشرب محلولًا سحريًّا فنتحوّل إلى قطيع حمير، وننطلق إلى الحقول لنلتهم
العشب ونغفو تحت أشعة الشّمس بعيدًا عن مشاكل السياسة وأخبار الوطن، ونعيش سُعداء
بهذه الحياة البهيميّة لمدّة أربع وعشرين ساعة؟ هل نعلق رؤوسنا بالملاقط على حبل
غسيل، ونحشو الأطراف العلوية والسفلية في مغسلةٍ لكي نساير إيقاع الأيام السبعة
بهمّة ونشاط؟ وكيف سنتدبّر أمورنا من الثلاثين إلى الأربعين، وبأيّ حالٍ وإفلاسٍ
وصلنا يا إلهي؟
صارت أعمارنا قصيرة، ننزلق من رحم الأمهات
على عجل. نتفقد أركان البيت ساعة من الوقت ثم نخرج إلى الحياة لنتدافع بالأكتاف في
الأسواق ونشقى في المصانع والمكاتب قبل أن نعود في المساء برؤوسٍ مدحورة، ونستلقي
على ظهورنا لنقيس سقف متاعب اليوم الموالي. وربّما فكرنا، من باب تزجية الوقت، في
كتابة الشّعر بعينٍ مفتوحة وأخرى مغلقة، فاعتمرنا قبّعة باشو مكتفين بثلاثة أسطر
مثل بزق طيرٍ دون أن نضجر أو نفصح. صارت ظلالنا، أيضًا، خافتة وشاحبة أمام مداخل
البيوت الوسيعة والعالية التي ندخل ونخرج منها مثل فئران، ونحترس كي لا ندوس
بالأقدام الأولاد الذين بالكاد نراهم يتحرّكون في فناء البيت، بل منهم من يصعد
كرسيًّا كي يطبع قبلة على خدّ أمّه وهو يهمّ بالذهاب إلى المدرسة بحقيبة أكبر من
مقاسه، فيما النساء يتحرّكن في جحور المطابخ مثل فأرات مهذبات مستعملات السلالم
الخشبيّة ليأخذن الأواني من الأدراج الخفيضة أو لينظفن البقع من الجدران.
وا أسفاه على الزمن الماضي، وعلى النهارات
الطويلة تمشي ميّاسة مثل عروس، العروس الجالسة في هودجٍ يحمله أربعة رجال أشداء
فترمي إلينا من علٍ بحبّات الحلوى كي نتلقفها في الهواء بمهارة البؤس فنشكر الله
والعروس! ويا حسرة على ليالي الشتاء الطويلة وعلى المطر اللذيذ ينقر بأصابعه على
النوافذ بأدبٍ دون أن يكون فضوليًّا ويفكر في اقتحام خلوتنا نحن الجالسين حول
فاكهة النّار نعدّ ملفًا مطوّلًا من مطالب الخصوصيّة على ضوء ألسنتها، ونرتّب
الأوراق على مهلٍ ونمهرها بشفاهنا اليابسة دلالة على صدق النوايا وحُسن السريرة،
حتّى إذا جاء الصباح طارت الأوراق إلى وجهة غامضة وطرنا نحن إلى المدارس بلا فطور
بسبب فداحة الخسارة، وفرط الخوف من عصا البيداغوجيا التي تنتظرنا أمام البوابة
الكبيرة!
كّنا نتسكع في العالم كلّ ليلة، فنعبر
البحار والمحيطات. ونتدفأ على سطوح البواخر حيث نمضغ علكًا ونرعى قطعان أفكارٍ
بعيدة دون أن تظهر غمامة سوداء أو نفكّر في القفز إلى الأعماق. نغيّر اللغات
والعملات عند الحدود ونلتقط صورًا في ساحات المدائن وأمام أسوار التاريخ المبطنة
بالأسرار.
نتمشى بين الحقول في الضواحي، ونجلس
بحميميّة حول طاولاتٍ لنأكل طعامًا جيّدًا قبل أن نواصل الرحلة بخرائط مصغّرة في
اليد وكاميرات تتدلى على الصدر. نفعل كلّ شيء تقريبًا دون أن نشتري تذكرة سفر أو
نغادر مدننا الصغيرة وقرانا التي يأكلها بالتساوي الذبابُ وغبار البهائم ورؤساء
البلديات والمجالس القروية. ودون أن نغادر جوف الملاءات المكتظة بالبصاق وبقع بول
الإخوة الذين كبروا وتزوّجوا واختفوا في مدنٍ بعيدة مخلفين لنا هذه التركة الباهظة
نتذكرهم بها، وننتعش.
أين القصائد الطويلة والتي بسببها نركب
دراجة هوائية وننطلق في رحلة شيقة نبدأها من أطلال دارسة وبقايا نارٍ من سكنوا
الدار ثم نعرج على قصور الملوك وندخلها بلا استئذانٍ ونطيل الجلوس (الشاعر يقرأ
قصيدته، والملك يأكل الفواكه ويداعب الجارية، وهناك من يحرّك الذوق السمج بريش
المروحة)، قبل أن نعود مع الشاعر إلى ذاته لنصغي إليه قليلًا ونشيّعه بنظرتنا
المتواطئة؟ أين الموّال الطويل يطلع حزينًا فتتألم الهضبة وينقسم العباد إلى صفين
متعاركين مثل السنّة والشيعة؟ أين الظهيرة بأحجار كثيرة في الجيب، ومستطيلات ظهور
الحمير نغفو فوقها ذاهبين إلى البئر أو عائدين منها دون أن تُخطئ الحوافر طريق
البيت يومًا أو نسقط عن عروشنا الصغيرة؟ وأين سرد الجدّات اللذيذ الذي نمنا في
منتصفه لمرّات عديدة دون أن نفلح في معرفة نهاية الحكاية الطويلة التي تُخبئ
وحوشًا بشعة تقف أمام الباب فنتردّد في الذهاب إلى دورة المياه، وفي إماطة الغطاء
عن رؤوسنا حتّى؟
عاشت جدّتي مائة سنة ويزيد دون أن ينحني
ظهرها للزمن أو لقائد القرية! تُقلّم أظافر رجليها بمنجل الحصاد وتبتسم، تمشي
بحذائها المطاطي جنب الوادي فتنزاح الأحجار جانبًا من تلقاء نفسها. يا لعناصر
الطبيعة وخجلها الفائض!
تسعلُ جدّتي وهي تنفث بخار القهوة فتهرب
كلاب الضاحية. وهل أنسى يوم عاندها الحمار وأخذ يتلكأ في المشي وفي نيّته أن يخوض
إضرابًا عن العمل في يومٍ غير مناسب، فنطحته برأسها فهوى ذو الأذنين إلى الأرض قبل
أن تنتشله عن الأرض من ذيله ليواصل المسير بنشاطٍ بَذلَ فيه جهدًا كبيرًا هذه
المرّة. امرأة تنطح حمارًا، يصلح عنواناً لرواية بل هو أمرٌ لا يصدّق إلا إذا عدنا
في الزمن إلى الوراء ورأينا المرأة تطارد اللصوص بمدراةٍ لتستعيد الأبقار في حكاية
يضيق بها المقام.
المهم استعادت الجدّة الأبقار المسروقة
بالطريقة نفسها تقريبًا التي استعاد بها عنترة بن شدّاد إبل القبيلة مع فارق بسيط:
أنّ عنترة كان مناضلاً انتهازيا بمقاييس عصره. انتهز الفرصة فقط عندما اشترط حريته
وعبلة على الطاولة، أو على الأصح أمام باب الخيمة، قبل أن ينطلق ويستعيد الإبل من
قبيلة طيء، بينما رضخت المسكينة لجحود جدّي وغموضه الأمازيغي، مكتفية منه بأعواد
السواك وقشور الحناء وهو الذي كان يتحدث عن بطولاتها في المجالس بضمير الغائب.
يركب البغلة ويحثّ السير شاهرًا صدره في الهواء فيما تمسك هي بذيل البغلة وتُساير
إيقاع الحوافر. يدخل جدّي السوق فيأخذ مكانًا وسط أدخنة الشواء، يأكل ويتجشأ وتجلس
هي فوق حجر مدبب جنب البغلة وتنتظر أن يأتي لها بشيءٍ وسط الخبز. يا للألم القديم
ولرومانسية الأجداد المحفوظة بأرقامٍ سرية!
تضاءل كلّ شيء حدّ أنّ هناك من يتحدّث عن
تشقق القمر، وعن القيامة الصغرى. رغم أنّ القمر ما يزال مزهوّاً باستدارته في
السماء لدرجة يغري بالإمساك به وتقطيعه على شكل دوائر صغيرة وعصرها في كؤوسٍ
وتقديمها مشروبًا إلى أشخاص محدّدين من أمثالي كي يواصلوا السير وسط الأنوار.
وحدها أيادي البؤساء تتشقق من فرط الإعياء وفائض التعاسة. أمّا خروج النار من أرض
الحجاز، فهذا ما لم نره بالعين المجردّة لحدّ الآن، ما عدا تلك النّار التي تخرج
من بنادق جنود الأنظمة السائبة فتصيب الأطفال والأبرياء لدرجة صار الدم فاكهة
التلفزيون العربي بالنسبة إلينا نحن الذين كبرنا بلا فواكه ولا هدايا. نحن الذين
تباطأنا كثيرًا ولم نتفهم خفة بندول الزمن وجلسنا نكتب المراثي بصيغ شتّى.
حسن بولهويشات -كاتب من المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق