هكذا
تدوِّن صفحات فيسبوك منطقتنا، القابعة باستمرار وراء الشمس، مختلف ترهات يومياتنا: عواطف، غراميات، زيجات، إنجاب، أسفار، تمارين رياضية، جلسات، وقفات… مواعيد
الأكل، الشرب، النوم، الحلم، معطيات الفرح، مبررات الألم، بل نلج اليوم بكل يسر
إلى خبايا البيوت و دهاليز غرف النوم و هندسات أسِرَّة الجنس وجغرافيات الأجساد و
طبوغرافية آهات الشبق وتراتيل العلاقات الحميمة… .وبقدر،ما
انكشفت مؤخرة العالم تماما؛في حضرة العالم نفسه، ازددنا على أرض الواقع زيفا
وتقنعا.
أيضا أضحت للموت،حكاية غريبة مع هذا الاكتساح الجارف للافتراضي.بدأنا نعلم منذ الوهلة الأولى،بخبر الموت وقد
أذيع''فيسبوكيا'' أو غيره من طرف أهل الميت.مما يدعو، بهذا الخصوص إلى طرح سؤالين أساسيين : كيف وجد أهل الميت؛والموت في لحظة
تغولها القاسية، الوقت وصفاء المزاج، كيف يشرئبوا بأعناقهم نحو منظومة التقنية؛قصد
بث الإعلان ومتابعة التعليقات؟ثم أساسا ما الغاية الأخلاقية والتواصلية من تعميم
الإخبار؟وكذا جدوى تقاسم الحديث؟ قياسا إلى واقعة مفصلية جدا تقتضي من الجميع صمتا
تأمليا؛عميقا. ولعل الصمت؛وتمثل اللحظة
في طقوسها الذاتية، يبقى أصدق تعبير،لأنه يطوي مختلف مشاعر العالم الصادقة طبعا.
للموت كما الولادة والحب طقوس خاصة جدا، إن تجاوزت إطارها الشخصي الضيق
جدا،سقطت في التسطيح و الفولكلورية والبهرجة المبتذلة؛وكل مؤشرات الخواء،ثم
افتقدت جذريا عمقها الذي يبقيها بالمطلق أحاسيس إنسانية بامتياز.
إن توزع المشاعر،بتلك الكيفية الفظة والرعناء،مثلما تفعل بها حاليا مواقع
التواصل الاجتماعي،على الأقل في تداولها الأحمق،يختزل الموت اختزالا؛إلى مجرد
حكاية فارغة بلهاء،لا يختلف مجراها عن باقي الوقائع اليومية العابرة.على العكس،الموت موقف وجودي استثنائي،صميمي؛يقتضي
تركيزا كليا ومكثفا؛من خلال تمثل طقوس العزلة والارتقاء بالذات؛ نحو أعلى مستويات
التأمل المتسامي عن غوغائية وضحالة لغة مواقع التواصل.
ينطوي الزمان الوجودي للموت،على مسافتين غير قابلتين،كي يحل أحدهما محل
الثانية.علاقة الميت مع ذاته ومحيطه المباشر،ثم فيما
بعد،رثاؤه أو غير ذلك،من طرف دوائر تزدادا اتساعا أكثر فأكثر،حين علم الآخرين
بالخبر.لكل بعد من هذين البعدين، مجاله التداولي؛المرتبط
بمستويات تحققه حفاظا لواقعة الموت،على رمزيتها المقدسة.سياق، اخترقته مواقع التواصل برعونة مفرطة تفتقد
لكثير من التأدب.
إن تجريد الميت من فردانيته، التي تشكل قبل كل شيء ماهيته الأولى والأخيرة،
بوضعه منذ البداية،موضوع رهان على استدرار عواطف متلق مفترض،يختزل حقيقة الموت وهو
النقلة النوعية فيما يتعلق بمسارات الحياة، و تجليات معانيها،على هذا النحو أو ذاك.
بهذا الخصوص،لا يستوعب رأسي قط، ممكنات طبيعة الحمولة الدلالية التي تشكل
المرجعية القيمية لتدوينة واردة هنا أو هناك، تخبر الجميع بحدوث وفاة
للتو،لاسيما التي تهم أكثر الأشخاص الذين يحظون بمواقع رفيعة للغاية؛ضمن بنيات
العلاقات الأسروية والقرابة،أقصد الأم والأب والأخ والأخت والزوجة و الزوجة
والابن أو الابنة.كيف والفاجعة ليست بالهينة قطعا؟والصدمة غير
منتظرة،أدخلت المرء لامحالة دوامة حزن غير طبيعية،مثلما يفترض أصلا!أريد القول،هل يكون حقا''المفجوع'' برحيل عزيز،قادرا
نفسيا على توزيع انتباهه بين صمت الجثة من جهة والرهبة المحيطة بها،ثم ترقبه صبيب
التفاعلات المتأتية من روافد صفحات التواصل.أين الصدق هنا من عدمه ؟من نصدق حقا؟قريب الميت،وقد
''تماسك''محافظا على''رباطة جأشه"فوجد سكينة نفسية رغم المصاب الجلل،حسب
المتعارف عليه منذ بدء الخليقة غاية اليوم،كي يتجه بصره نحو هاتفه أو حاسوبه، ثم
توثيق إشارته، وحتما مراقبته لمسلسل سجالات وقع الخبر،ثم إحصائها وتصنيفها حسب
نوعيتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق