يجمع
علماء التاريخ والسياسة أنّ العلاّمة عبد الرحمان ابن خلدون ما كان ليهدي الحضارة
العربيّة الاسلاميّة، ومن ورائها الانسانيّة، كنزًا بمثل «كتاب العبر وديوان
المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان
الأكبر» وأفضل منه وأهم «المقدّمة»، لو لم يعش في عصر تقلّبات ومؤامرات
ودسائس شكّلت أمام الرجل، مخبرًا مفتوحًا، خاصّة أن بن خلدون عاش كما تقول الفرنجة
منتقلا بين الطاحونة والفرن، بمعنى أنّه كان العالم المهوس بممارسة السياسة وكذلك
السياسي الذي مارس الوظائف التي تقلّدها بعقليّة العلم الذي جمعه.
يمكن
الجزم دون أدنى شكّ أو نقاش أنّ العصر الذي نعيشه يأتي في نقاط عديد جدّا، مشابه
للعصر الذي عاش مراحله بن خلدون، أو أنّه يغري العلماء والمفكرين وجمهور العارفين
بالكتابة والتنظير وحتّى التحليل والاستخلاص، مثلما كان في عصر هذا العلاّمة، مع
فارق خطير وعلى قدر كبير من الأهميّة لسببين :
أوّلا : تمكّن
وسائل الاتصال الحديثة وسرعة انتقال المعلومة والانخفاض المتواصل في كلفة الوصول
إليها، من معرفة (بالمفهوم الكمّي) تفوق آلاف المرّات ما كان ممكنًا أن
يصل إليه صاحب «المقدّمة».
ثانيا : هذا
الانفجار الرهيب في الكمّ المعرفي، يجعل من الصعب أو شبه المستحيل الالمام بها
جميعًا أو حتّى طرحها ضمن منظومة تحليل جامعة.
من
هذين النقطتين، نفهم صفاء رؤية ابن خلدون وقدرته على تسمية الأشياء بمسمياتها،
وأساسًا ذلك الربط المعرفي بين السبب والنتيجة، في حين أنّ العصر الحديث، وإن جاء
بنكهة مرارة شبيهة بما كان في حلق هذا المفكّر من مرارة، إلاّ أنّ من الصعب على
أيّ كان، أو بالأحرى على علماء العصر الراهن جميعهم، مع بعض الاستثناءات، الخروج
بنتائج في قيمة (مقارنة بعصرها) مع ما جاءت به «المقدّمة»...
من
ذلك يشبه عصرنا عصر ابن خلدون على مستوى النقاط التالية :
أولاّ : مستوى
تردّي الوضع العربي عامّة، التتّار في الحالة الأولى، وفي عصرنا تكالب الدول
العظمى على الفضاء العربي والإسلامي.
ثانيا : سرعة
حركة التاريخ بل وتسارع الأحداث، حين يمكن الجزم أنّ العالم الراهن، عرف منذ أوّل
ظهور لفيروس كورونا إلى يوم الناس هذا، تغيّرات ما كان أحد يتخيّلها وكذلك يعجز
الجميع على توحيد القراءات لمنتهاها.
ثالثًا : هي
تغيّرات بل هي انقلابات تجعل من سابع المستحيلات العود إلى نقطة البدء، حيث
سيكون «عصر كورونا» (مهما طال) فاصلا بين قبل هذا العصر وبعده.
يمكن
الجزم أنّ فيروس كورونا قد أحدث تغيّرات جذريّة تشكّل مدخلا إلى عالم جديد، بمعنى
أشبه بما كان دخول التتّار إلى الشرق العربي، كذلك يمكن الجزم أنّ المفردات التي
مكّنت من كتابة التاريخ ما قبل كورونا عاجزة عن فكّ طلاسم ما بعده.
مفهوم
القوّة في أبعادها الجامعة تغيّرت، فدولة مثل تايوان وسنغافورة، دون نسيان الصين
ذاك العملاق الاقتصادي، استطاعت تجاوز أزمة كورونا، ممّا يعني أنّ مدى
النجاح/الفشل في التعامل مع هذا الفيروس سيصبح أو هو كذلك، يأتي دليلا على مدة
تماسك المجتمعات، وثانيا(وهذا الأهمّ) نمط العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم.
حلول
التتّار في المشرق العربي زمن بن خلدون خلّف دمارًا لا يخلف مع تنسيب الوضعيات
والامكانيات، عمّا هو بصدد الحدوث حاليا، حيث يتنبأ هذا أو ذاك بالنسبة لتونس
بقرابة 300 ألف وفاة، مع اليقين بأنّ لا جهة
داخل «النخبة» المتصدّرة للحكم أو للتنظير على المنابر قادرة على إعطاء
أرقامًا تقريبية عن أسوإ الوضعيات التي يمكن أن تحصل.
غياب
الرؤية لدى العوام كما لدى الحكّام، يمكن الجزم أنّه من الأسباب الأساسيّة التي
دفعت عبد الرحمن بن خلدون إلى طرح كتابه، ليكون أقرب إلى كتاب قراءة يمكنّ من
مطالعة التاريخ في أبعاده المتشابكة، بغية فهم ما سبق، واستقراء ما سيلحق.
حاليا،
لا يمكن أن يلعب دور ابن خلدون شخص بمفرده، لأنّ أيّ كتابات (تصدر عن فرد
بذاته) مهما كانت زاوية المقاربة التحليليّة، ستكون إمّا عاجزة عن الذهاب إلى
العمق في حال سعت إلى جمع المعادلة بكاملها، أو هي قادرة على الغوص والذهاب إلى
عمق لون واحد من المعادلة دون بقيّة الألوان. أو (صيغة ثالثة) كتاب
يقدّم قراءة أقرب إلى التقديم (أيّ مقدمّة) تمكّن قراءة المشهد في
أبعاده العريضة، ليشكّل كلّ فصل مشروع مبحث مستقلّ بذاته...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق