الإنسان ليس كما قيل مدنيًا بالطبع، وإنما هو همجي بالطبع مدني بالتطبع - سلامة
موسى
يمثل الخطاب التلفزيوني واحدًا
من أهم الخطابات التي تصنع الرأي العام، ويزداد هذا الخطاب خطورة في زمن
الأزمات كالحروب والكوارث والثورات والأوبئة. فتسيطر على التلفزيون فئة
معينة حسب طبيعة الظرف الاستثنائي فيعسكر التلفزيون في أزمنة الحروب ويسيس في
أزمنة الثورات والتحولات السياسية ويتشعبن أحيانًا و"يعلمن" في
أزمنة الأوبئة ويحتل رجال الأمن والحماية المنابر التلفزيونية في أزمنة الكوارث
الطبيعية.
وفي كل الحالات يسقط
التلفزيون في أحادية الخطاب، ويكون الثقافي أول ضحايا تلك الأزمنة الفارقة في
إهمال عجيب للحاجة إلى الثقافي على اعتبار أن الثقافي هو خطاب الترف، الذي
يجب أن يُستبعد كبقية الكماليات من برادات المطابخ.
التصحر الثقافي في الإعلام
تقع التضحية بالثقافي خاصة
العميق منه في الصحف وفي الإذاعة والتلفزيون مع أي طارئ، جيد أو سيئ، وفي أي
مناسبة حتى في الأعياد، ومن هنا جاء الاعتقاد في أن كل ما هو ثقافي هو ترف.
لذلك اختفت، مثلًا، البرامج الثقافية والمثقف من التلفزيونات التونسية شهور كثيرة
بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير2011، زيادة على اختفاء التظاهرات الثقافية في
المؤسسات الثقافية وتوقف معارض الكتاب بسبب الوضع الأمني. وهذا ما يحصل الآن
في العالم برمته. حالة من التصحر الثقافي الشامل. وإذا كان توقف التظاهرات بسبب
الوضع الأمني والوقائي مفهومًا، فإن اختفاء الثقافي من وسائل الإعلام الإذاعي منها
والتلفزيوني خاصة يعتبر أمرًا غريبًا.
مع الأزمة العالمية الجديدة
بسبب وباء الكورونا يختفي رجل الثقافة لصالح رجل السياسة ورجل العلم الدقيق. بدعوى
التفكير في الحاجيات الأساسية للمواطن، وتنحصر فجأة تلك الحاجيات في الغذاء والأمن
مما يعطي مفهومًا مرعبًا للإنسان بما هو كائن بيولوجي صرف، والغريب أن بعض
المنادين بإبعاد الثقافي هم من المشتغلين بالقطاع الثقافي نفسه من الموظفين
الضعفاء ثقافيًا.
أي غذاء نحتاج وأي إنسان نريد؟
إن الفزع بالحديث عن الحاجة
لتأمين الغذاء يتوقف عند البطون، ولكن لا نداء يرفع لسد الجوع الثقافي، خاصة مع
حالة الأمية المتفشية التي كشفتها الثورات العربية والتي كانت الأنظمة السابقة
تتكتم عليها وتزور أرقامها. لا أحد يتحدث عن أسباب ارتفاع منسوب العنف الذي
يرجعه المختصون في تحليل الجريمة إلى ارتفاع منسوب الجهل، ولا يمكن تفكيكه إلا عبر
الثقافي. في مقابل هذا ترتفع الأصوات في حملة مقاومة الوباء بالاعتماد على وعي
المواطن. هذا المواطن نفسه الذي يقصف يوميًا بخطاب سياسي وآخر علمي دون تأهيله
ثقافيًا لاستيعابه أو مقاربته في تنوعه عبر العلوم الإنسانية والمثقفين والمبدعين.
تحاول المنابر الإلكترونية
ومواقع التواصل الإجتماعي والمنصات الإعلامية الجديدة أن تسد هذه الثغرة الكبيرة
في الإعلام العربي، وتعطي مقاربات أخرى غير تلك العلمية كالمقاربة الأدبية
والتاريخية والسينمائية والمسرحية، مما يشكل حالة من الوعي الحقيقي الشامل عند
المتابعين. فتقديم الروايات التي تحدثت عن أنواع كثيرة من الأوبئة، مثلًا،
كالطاعون لألبير كامو، والديكاميرون لبوكاشتو، والعمى وانقطاعات الموت لساراماغو،
والكتب التاريخية ومشاهدة الأفلام التي دارت حول الأوبئة لا تعطي حلولًا إنما تعطي
تجارب إنسانية، وخبرات الآخر في التعامل مع تلك الأوضاع الخاصة، كما من شأن تلك
الثقافة أن تؤنسن الواقع وتخرجه من وحشيته وغرائبيته. وهي أولى ميكانزمات الدفاع
والمقاومة. فالوعي لا يتشكل من فراغ بل من خلال تراكم التجارب والخيال واحد من
أساليب إنتاج الإنسان باعتباره حيوانًا ثقافيًا. وهذا ما كتبه سلامة موسى منذ سنة
1926 عندما قال: "ليس الأدب ترفًا. إنما هو جهد وكفاح لتغيير القيم
الاجتماعية حتى يتغير المجتمع وينتقل إلى مراتب عليا من العدل والشرف
والإنسانية".
الإنسان الخرافي والإنسان المنحرف
ينتج انحسار الثقافي في
التلفزيون نمطين من البشر؛ الأول هو الإنسان الخرافي الذي عوضًا عن أن يلوذ
بالثقافي وتجارب الآخرين، بما في ذلك العلوم الإنسانية والفنون والآداب، يلوذ
بالخرافي، وهذا يجعل الخطاب العلمي الذي يقدم في التلفزيون خطابًا قاصرًا لأنه
خطاب تقني عمودي يخاطب العقل الرياضي، والذي سرعان ما يمل أو يشكك فيه فيقع تعويضه
بالخطاب الخرافي، وهذا ما نشاهده عبر التاريخ عندما يكون العلم في مأزق النجاعة
يلوذ مريض السرطان أو الأمراض الصعبة الأخرى إلى المشعوذين.
من المآسي أيضًا أن هذا الخطاب
الخرافي اقتحم التلفزيون وعوض الثقافي فعلًا، فبرامج "التوك شو" تستعين
بالمشعوذين والمنجمين ومشعوذي العصر الجديد "جماعة التنمية البشرية"،
وأرباع الفنانين والمتطفلين على الفن للمشاركة في تقديم تلك البرامج، وهذا يكاد
يكون معممًا في التلفزيونات العربية، بل تدرج هؤلاء من تقديم الفقرات إلى موقع
الصحفي وما يسمى بـ"الكرونيكور" أي المحلل المشارك طوال وقت البرامج.
أما النمط الثاني من الإنسان
الذي تنتجه هذه البرامج فهو الإنسان المتوحش، الإنسان العنيف الذي يستغل الفوبيا
التي يحدثها الخطاب العلمي غير المطمئن والجاف، في غياب الخطاب الثقافي المساند
المطمئن. ويصبح الفضاء العام فضاء مخيفًا لأنه ينتج الإنسان الخائف والمرعوب
والإنسان المخيف والمرعب، وهكذا يصبح الأمني في مأزق آخر لأنه سيكون أمام فضاء
ديستوبي فاسد تحكمه الجريمة.
الثقافي ومدينة الإعلام الفاسدة
لن نعيد سؤال مايكل كاريذرس
"لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟" على اعتبار ذلك صار بديهة. لكن السؤال
الذي نطرحه في هذه اللحظة "ماذا يفعل الإنسان بالثقافة؟"، ما قيمة
الثقافة إذا كانت ستركن جانبًا في أزمنة الأزمات؟ كيف يمكن أن نرمي بالكتب والفنون
والأدب والأدباء والفنانين الحقيقيين والأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع والفلاسفة
وحتى رجال الدين لننصت إلى المشعوذين؟
إن الإعلام العالمي المرئي
والمسموع الآن، والعربي خاصة، يعيش حالة من الديستوبيا، حالة من الفساد الكلي
وتجاوز مرحلة انتاج اللامعنى إلى إنتاج الجهل. حيث تحولت بعض المؤسسات عبر برامجها
الرديئة إلى مصانع لتفريخ الجهل والعنف، من خلال الترويج لأفكار خاطئة وسلوك مرضي
ولا أخلاقي ولا معرفي، يتحول عبرهم إلى بداهة ويقين في البداية ليشكل، بعد ذلك،
السلوك اليومي للفرد؛ الفرد المفرغ من كل ما هو ثقافي.
لكن من يدير تلك البرامج؟ ومن ينتجها حقًا؟
إن الذي ينتج تلك البرامج ليس
مقدمو ولا معدو تلك البرامج بل الشركات والمصانع التي تقدم مقابل تلك الدعاية.
فعائدات الاشهار هي التي تتحكم في المؤسسات، وهي التي تفرض تلك الكائنات غير
الثقافية في البرامج كمحللين ومشاركين في صناعة السم الذي يقدم للمشاهدين
والمستمعين. وليس في إمكان المعد وصاحب البرنامج أن يحتج على تدخل تلك الشركات
وشروطها لدعم البرامج عبر الومضات الإشهارية مدفوعة الأجر. وهذا ما جعل كثير من
التلفزيونات تشترط على صاحب البرنامج أن يأتي بمستشهريه لكي تقبل بعرضه. ولا يفكر
التاجر إلا بالطريقة الأنجع لوصول منتوجه وتشكل تلك الكائنات غير الثقافية سبيلًا
لذلك، وصلنا إلى مرحلة نرى فيها فتيات الليل ونساء الرصيف وفتوات الشوارع
والمشعوذين يديرون البرامج، بل وصل الأمر في التلفزيونات التونسية أن فرض مقدّم
برامج بسبب غباءه وأصبح يتنقل من تلفزيون إلى آخر، بسبب امتلاكه لاحتياطي كبير من
الغباء الذي يثير الضحك، لنكون في العديد من البرامج أمام عنوان رواية الأمريكي
جون كندي تول متجسدًا في صورة مرئية: "تحالف الأغبياء".
إن هذه اللحظة الفارقة والخطيرة
التي يمر بها العالم والشعوب العربية تتطلب استفاقة سريعة لاستعادة الفضاء المرئي
الأكثر تأثيرًا في الناس، وأنسنته بسبب تجهيله الذي أدى إلى توحشه
و"تبهمه"، وإنقاذ الإنسان العربي من الخرافة الحديثة، التي أسقطته فيها
البرامج التجارية التي وصل بها الأمر إلى تعليم الشباب والأطفال طرق قطع الطريق
بالسلاح الأبيض، من خلال اسكاتشات يؤمنها أشباه الممثلين كما ظهر في تلفزيونات،
خاصة تونسية، تحت ذريعة الركض
وراء نسب المشاهدة والبحث عن الضحك السخيف الذي، بدوره، يتحول في الشارع إلى ضحك
أسود عندما يصبح منتجًا للجريمة.
الإنسان كما يقول سلامة موسى "أسير وسطه، ينطبع
فيه أثر بيئته، وينفعل هو بما يحيط به من العادات والأقوال والنظم الاجتماعية
والسياسية". فنحن أمام كوجيطو جديد: أرني ماذا تشاهد وماذا تقرأ أقول لك من
أنت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق