الصداقة
مع الجدران لا تأتي بسهولة، فيض الود يصل فيه التماهي حد الذوبان، في كلا الحالتين
إن كنتَ مرغما أم برغبتك، العزلة هي من تحدد نوع العلاقة، فضاء السقف ليس واسعا، إنه كالقبر لذا فأن الجدران ستكون قريبة جدا، العلاقة بينك وبين الجدران ستكون
حميمية إلى أقصى درجة إذ تمنحك مساحاتها بكل كرم لتكتب عليها ما يخطر في بالك، حتى
لو شتمتّ الزعيم أو زوجة الزعيم ـاكتب ما شاء لك من الكتابة، وأي قلم تستخدمه
مقبول مقدّما ، حتى لو كتبتَ بلعابك أو مخطانك وافرازات أنفك، فالجدار سيكون واسع
الصدر ومتعاطفاً معك، بل لو كتبت بالخراء بسبابتك سيتقبل منك لكونك فقدت كل شيء
وفقدت الوسيلة للتواصل، يكفي أنك تضع بصمتك كما وضعها غيرك من السجناء واختفوا
بعدها في رمشة عين، ظلت كتاباتهم تعانق وجه الجدار إلى حين من الدهر إلى أن يمر
فوقها قلم آخر أو سبّابة أخرى وتمحو بعض الحروف والمشاعر، لتحل بدلاً منها ذكريات
وارهاصات ووصايا جديدة. لاشيء داخل الزنزانة يثير الفضول، كل شيء ثابت معدوم
الحركة من أعلى السقف إلى استدارة الجدران وتكورها وإلى حد جسدك الذاوي الساكن،
باستثناء فحيح أنفاسك وقلبك الذي ما انفك يضرب جدار صدرك وعظم اللوح في ظهرك، ربما
لا تحتاج أن أجسَّ نبضك بالسباّبة والإبهام.. الضربات عالية وتسمعها بكل وضوح.
لا
يهمك إن كانت غير منتظمة، فقد تعودتُ على استكانة النبض وتوقفه أكثر من عشر مرات
في الدقيقة، أنت لا تملك ساعة توقيت ولا الجدار كذلك ولكن تخمّن أن نبضك في المعدل
الطبيعي تسعون نبضة على سبيل الفرض، أمّا الأيام والساعات فلا سبيل لك بمعرفتها،
فلا توجد كوّة او فتحة صغيرة ينفذ منها شعاع الشمس أو ضوء القمر، النوم رفيق دائم
لا مفك منه، ساعات طويلة تغيب فيها ولا تستيقظ إلاّ على صوت السجّان الذي يحاكي
صوت فتاة مراهقة مهذبة، لا تعرف لمَ يضعون سجّاناً لا يملك صوتاً أجش كما في
الأفلام السينمائية، صوت سجّانك الذي يجلب لك الطعام كل يوم صوت نسائي بإمتياز... تحتاج
أحيانا إلى التحدّث مع أحد .الى أي كائن أنسي فتضطر إلى محادثة السجان، برغم أن
الجميع ممنوعون من التحدث مع السجناء ، ألا أنك بطريقة ما تستفزه وتجعله يردُّ
عليك حتى لو كانت شتيمة. كم من مرَّة تخيلته إمرأة تتحدث معك وتسامرك وتبثُ اليك
لواعجها واشتهاءاتها.
أخذتك
سنة من النوم فأركنتُ جانب وجهك إلى الجدار، أثقل النعاس جفنك تلقائيا،ً ربما تكون
تلك الإغفاءة الأخيرة، غدا صباحا سيتم تنفيذ حكم الإعدام بك، سيكون رمياً بالرصاص
حتى الموت ، الليل بطوله سيكون لإسترجاع الماضي ومحاسبة النفس وجدولة سيئاتك مع
حسناتك، ستكون سعيدا لو تساوتا .. ربما ستكون في منطقة (الأعراف) بين الجنة
والجحيم. يااااه منذ مدة لم يدخل إلى زنزانتك عنكبوت، هاهو عنكبوت صغير يتحفز
لألتقاط الذباب الذي يشاطرك المكان، أخذ يجول فوق سطح الجدار القريب ويعبر فوق
الحروف وينزل في بعض الثقوب، ثم يخرج منها ويقف كالنمر مستوفزا لينقضَّ على فريسته،
فوق الجدار ذبابة واحدة ، لا تعلم أين اختفى الآخرون ، تلك الذبابة أكبر حجماً منه،
كلما اقتربت منها تقفز بكل سهولة إلى مكان آخر ،أتعبتك كثيرا، تراجعت قليلاً وبرك
داخل حفرة صغيرة وبقي منتظرا اقترابها لعلها تغفل عنه ويقتنصها. يمتاز العنكبوت
بالمطاولة، فهو مستعد أن يقف ساعات طوال في مكانه لا يتحرك من أجل فريسته.. ظلَّ
طوال الليل يكمن لها ،استبدلَ مكانه أكثر من مرة ، لم يبد عليه الضجر إنه مصر على
إفتراسه، لقد شغلك عن الفكير في كيفية تقبل عملية الإعدام صباح الغد .. هل هو هروب
من الحالة أم تنتظر الحل على يد عنكبوت أهوج .. أغمضت عينك لعلك تتخَّيل البنادق
التي ستصوب نحو صدرك ..كم اطلاقة ستخترقك، ما نوع الوجع الذي سيحل بك لحظتئذ؟.
فجأة
لفتت انتباهك قفزة العنكبوت الهائلة وإمساكه بالذبابة بكل مهارة، أصبحت بين مخالبه،
رأيته يطوّقها بأرجله ويضع رأسها بين كماشتّي فمه ، راحت الذبابة تجاهد بالخلاص من
قبضته، بقيا في صراع مستميت، الذبابة لم تستسلم ظلّت تصارعه كي تنجو، مرَّ وقت
طويل وهي ترفس، لم تستسلمْ كما استسلمتُ أنت ..كل عمليات التعذيب بكافة مراحلها
عبرتها ولم تعترف على رفاقك إلاّ في المرحلة الأخيرة (الخازوق) ... الذبابة أكثر
مطاولة منك، هاهيَ تفلت من قبضته وتبتعد عنه وهي تلملم جراحها، بقيَ واقفاً يتلمّظ
وهو يلعق مرُّ الهزيمة، نجت الذبابة واستعادت رباطة جأشها، انسحبَ العنكبوت يجر
أذيال الخيبة، جاءك صوت السجان الأنثوي من خلف الباب :
_صباح الخير أيها
النزيل الجميل.
_ماذا تريد مني بحق
الله .هل حانت ساعة موتي.؟.
_أي موت يا رجل...
ألا تسمع الجلَبَة ؟
_لا أسمع شيئاً
..ماذا حدث ؟!
._ثمة إنقلاب عسكري
حصل ليلة البارحة _ الحكومة سقطت_!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق