اقتصاد الندرة، وأيديولوجيا الرعب - أبو ناصيف مختار - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 17 مارس 2020

اقتصاد الندرة، وأيديولوجيا الرعب - أبو ناصيف مختار

يخيّم الخوف هذه الأيام على أغلب شعوب الأرض بسبب تفشي الوباء المعروف باسم "كورونا" الذي فتك بحياة آلاف من الناس خلال فترة وجيزة. فقد بات الخوف والرعب سمة الحياة اليومية التي يحياها جميع الناس، وإن بدرجات متفاوتة. وقد نتج عن هذا المناخ الجديد، الذي عملت وسائل الإعلام بتعدد وسائطها في مختلف دول العالم على التركيز عليه، وضعا جديدا يمكن وسمه بكونه "خطيرا" ومضادا للطبيعة الاجتماعية للإنسان ذاته. ذلك أن توجيه النظر، بشكل دوريّ وعند اشتداد الأزمات الاقتصادية، صوب أحد "الكوارث المحدقة" لتوجيه أفعال الناس والتحكم في سلوكهم، يعدّ أخطر من الكارثة ذاتها بما يخلقه هذا الوضع الطارئ من بيئة عدائية يصبح بموجبها الفرد مضادا لطبيعته الاجتماعية.
لقد أصبح الفرد داخل الفضاء الذي صنعه النظام الرأسمالي، خطرا محدقا في كل لحظة بالنسبة لأي فرد آخر، أو هو تهديد ممكن بالموت. وداخل هذا المناخ، لا وجود لمكان يتسع للجميع، فكل إنسان يرى في الآخر آخرا، وإنسانا معاديا، ولا إنسانيا، عن طريقه قد يتأتى الموت في أية لحظة. وفي هذه الحالة قد لا يحمل الصراع بين الأفراد والمجموعات سببا مباشرا، أي سببا اقتصاديا، بما أنه قد تأسّس مناخ جديد تحوّل بموجبه الآخر إلى إنسان معادي، وهو مناخ ملائم لظهور العنف والصراع.
يشكل هذا الوسط الجديد إذن، الأساس المادي للصراع بين الأفراد كما بين الجماعات، ذلك أن هذا الصراع هو تعبيرة اجتماعية عن الفعل الذي أصبح بمقتضاه "الإنسان ذئبا للإنسان"( العبارة لهوبس) منذ أن أصبحت هنالك ندرة في الغذاء وفي الوسائل مقابل "فائض" من الناس، بعضهم محكوم عليه بالموت حتى يترك مكانه للآخرين.
وفي هذا المستوى تصبح الندرة من ذات بنية الإنسان نفسه، بمعنى أنها تصبح داخلية، حيث تصبح إزالتها أمرا مستعصيا. وههنا تنشأ المفارقة، فالإنسان الذي قصد التحرر من خلال الإنتاج المادي الذي يصنعه باستمرار قد أصبح يعيش الغربة، حيث يستحيل عليه التعرف إلى نفسه داخل نتائج عمله.
يتحول كلّ إنسان بمقتضى هذا الفضاء إلى عدو بالنسبة للآخر، بما أن الحاجات التي يهدف إليها هي نفسها التي يطلبها الآخر، وعن هذا التصادم ينشأ الصراع الذي يمثل معطى وقاعدة المغامرة الإنسانية برمتها. ليست الندرة إذن، سوى هذا العالم المؤلف من الصراعات ومن عدم التوازن.
ومن هنا، ينبغي أن نفهم أن حالة لا إنسانية الإنسان ليست متأتية من طبيعته، وإنما هي نتاج لحالة الغربة الدائمة التي أضحى يحياها. فما دامت الندرة مسيطرة وليس لها نهاية، فسوف يكون داخل كل إنسان، وداخل المجموعة بنية إنسانية متعطلة، بمعنى أن هناك نفيا ماديا لإنسانية الإنسان، تصبح بموجبه اللا-إنسانية، في هذا المستوى، علاقة بينية للبشر وبهذا يتشكل الفرد، داخل فضاء الندرة، موضوعيا باعتباره لا إنسانيا في ذات الوقت بوصفه زائدا ونادرا.
يترتب عن تحديد الندرة بوصفها مبدءًا اقتصاديا لشرح المجتمعات، أي من حيث هي قانون يحكم تطور تاريخ مجتمعات الاستغلال، ندرة في المستوى الإنساني، ذلك أنه في مجتمعات محددة وداخل أنماط إنتاج معينة، يمكن لندرة الإنسان في علاقة بالوسيلة أن تتحول إلى ندرة للوسيلة ذاتها في علاقة بالإنسان. إن التناقض الأساسي الذي يحكم المجتمع الرأسمالي هو انقلاب في مستوى معيّن، بمعنى أن الندرة التي كانت تتعلق بالإنتاج قد أصبحت هنا ندرة في المستهلك مقابل فائض في الإنتاج. وهذا لا يعني أن عملية الانقلاب هذه مطلقة، وإنما هي تستند إلى إقصاء بعض المجموعات الاجتماعية من دائرة الاستهلاك من أجل أن يتمّ الاحتفاظ به لفائدة مجموعات أخرى. وضمن هذا التوجّه، من المنطقي جدّا رؤية كيف أن النظام الرأسمالي يتلف جزء من إنتاجه لأنه أصبح فائضا، بل ويستغني عن جزء من أفراده باعتبارهم جزءا زائدا.
تتأتى الندرة إذن، في العالم المادي انطلاقا من الحاجة. وعلى هذا النحو يوجد العالم بالنسبة للإنسان بوصفه موضوع استهلاك فقط. وباعتبارها كذلك تعتبر الندرة مبدءا عادما لكثير من الناس، أي أن عدم إمكانية الوجود الإنساني يصبح هنا أمرا واقعا عن طريق الندرة. فالإنسان في هذا المستوى هو كمّية أو هو بالأحرى وحدات متبادَلة. وبالتالي، يتحول الفرد إلى كائن غير ضروري أو هو زائد و نادر في نفس الوقت.
واستنادا إلى هذا التكيّف الجديد مع الفضاء الذي يخلقه النظام الرأسمالي، تصبح المادة نادرة ويصبح كل كائن عدوا مباشرا للآخر. لذلك تشترط الندرة مناخا من العنف ومن اللاّ-إنسانية دون أن نلاحظ تدخّلها، وهي إذ تظهر في كلّ مكان، فإننا لا نجدها في أيّ مكان. إنها "اليد الخفية" التي تمسك وتتحكم في سلوكنا وفي ممارساتنا التي يخيّم عليها الخوف والرعب.
لقد أصبحت الندرة نمطا من العلاقات التي تسود المجتمعات الإنسانية القائمة على التفاوت الطبقي وعلى عدم المساواة، بل لعلها تظهر أيضا وفق بعض الأشكال التي تستند إلى نقص في الماهية الطبيعية أو في المنتجات المصنوعة كما أنها تمتد إلى ندرة في الإنسان ذاته وفي الزمن الذي يعيشه. إنها تعني ببساطة أنه ليس هنالك ما هو كافٍ لكل الناس، وأن الحاجات الإنسانية لا يمكن إشباعها إطلاقا.
وإزاء هذا المناخ، يشعر الإنسان بالعجز، بما أن الآخر بوصفه آخرا هو الذي سوف يقرر مصيره، والذي قد يلقي به داخل عزلة مجردة قد تطول وقد تقصر. وعلى هذا النحو ينتظر كل فرد ما سيفعله الآخر، بل إنه يستبطن عجز الآخر باعتبــاره عجـــزه الخاص، ليصاب بضرب من العطالة إزاء أي نوع من أنواع الفعل.
إن اعتداد بعض المثقفين بالفطنة والانخراط اللاّواعي في هذه الدعاية "للكوارث المحدقة" هو نفسه، في غالب الأحيان، ضرب من ضروب نجاح الخداع والتضليل الذي ما انفكت تروّج له الأيديولوجيا السياسية للجماعات الاقتصادية المسيطرة عبر العالم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق