الإنسان والمدينة والكورونا.. كيف نتواصل في زمن العزلة؟ - علي عبد الرءوف - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 18 مارس 2020

الإنسان والمدينة والكورونا.. كيف نتواصل في زمن العزلة؟ - علي عبد الرءوف


ليس عندنا ولكنه في الصين، هكذا بدأت سردية كورونا الدالة. ومن حالة الإنكار وتوبيخ المحذرين انتقل العالم إلى حالة الندم والعزلة والانكفاء. منعنا كل شيء في دولة ودولتين ثم في عشرات الدول وأوقفنا الطيران وأغلقنا الأعمال بأنواعها وأسدلنا الستار على التعليم الأساسي والجامعي وأخلينا المساجد وأوصينا بالتجاوز عن العمرة وفرغنا صحن الكعبة. حقا، تداعت الأحداث بسرعة شديدة وتحول العالم الذي يعيش انتصارات ما بعد العولمة فجأة إلى كيانات خائفة مذعورة ترفع شعار لا تتواصل والعزلة هي الحل. ولذلك تبلور أمامي السؤال الملح من جهة والمدهش من جهة أخرى، هل فعلا فيروس كورونا هو القوة الضاربة التي جعلتنا في حالة خوف وتوجس وذعر ودفعتنا إلى العزلة؟قبل أن نظلم الفيروس الضئيل فقد يكون من المناسب أن نختبر أنساق حياتنا وعلاقتنا بمن حولنا من بشر وأمكنة قبل انتشار الفيروس وتحوله إلى وباء عالمي يتجاوز كل الجغرافيات ويضع اسمه في لائحة التواريخ الفارقة في مسيرة الإنسانية.
أبدأ تحليلي وأقول إنني شديد التفاؤل لأنني شديد الإيمان بالعلم والعلماء وأتيقن أن هناك مئات من العلماء المخلصين حول العالم ينصبون على إيجاد علاج لهذا الفيروس، وحتما سيجدونه كما وجدوا سابقا علاج لكل ما هدد البشرية وقاربنا من سيناريوهات الفناء. لذلك فإنني أرى بوضوح صورة العالم في خلال أسابيع أو أشهر وقد بدأت بروتوكولات العلاج تختبر وتفعل وتعالج وتدفعنا مرة أخرى إلى العودة الى حياتنا القديمة الروتينية أو بالأحرى حياة ما قبل كورونا.
فما هي ملامح هذه الحياة؟ هل حالة العزلة فقط سببها كورونا؟ يقينا لا، فقبل الكورونا بسنوات، تحول العالم وتحولت الدول وتحولت الأمم وتحولت الشعوب بل وتحولت العائلات إلى كيانات متشرذمة متناثرة مبعثرة. لم يعد يعنينا ونحن في عزلتنا هجرة الملايين من سوريا خارج ديارهم أو سحق الأطفال في اليمن أو قتل المساجين في الفلبين أو الاغتصابات الجماعية لطالبات المدارس في كمبوديا أو حرق المسلمين في الهند، فنحن في عزلة. لا يعنينا سيول تجرف أحلام الفقراء وفلذات اكبادهم وعواصف تقتلع الاكواخ الساترة للملايين فنحن في عزلة.

لا يعنينا سجون من العصور المظلمة لا يوجد بها بوصة مربعة لاستقبال وفود جديدة من الأبرياء أصحاب الفكر والرأي ولكن سيل الوفود لا ينقطع، فنحن في عزلة. لا يهم أن نتواصل ونتحدث ونتكلم ونترك الواتس أب والفيسبوك قليلا وننظر للوجوه والعيون، فنحن في عزلة. نشاهد مئات القنوات ونقرأ الآلاف التقارير ونستمع إلى المنبهين ونستهلك حناجر المحذرين وتتبلور أمامنا الحقائق بكل الوضوح ولكننا نرفضها، فنحن في عزلة. نخطط المدن لتكون شاهدا على التمزيق المجتمعي وحماية الفاسد والمرتشي والشرير ونبني حولها سور عملاق لنتأكد أننا في عزلة.

نهمل المواصلات العامة ونحول القطارات إلى مقابر ونرصف الطرق بأسفلت الضمائر الرخيصة ثم نـتأوه متألمين لأن رسوم الطريق أثناء عبورنا بالمرسيدس السوداء زادت، فنحن في عزلة. نطوف العالم في طائرات نفاثة وعملاقة لنحضر مؤتمرات حول الاستدامة والتغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض وتطلق الطائرات أطنان من الكربون ثم نصرخ في وجه الفقير لا تشعل الحطب يا مجرم، ولا ننتبه أنه يتجمد من البرد، فنحن في عزلة. نحاضر ونبشر بأن العالم المتعولم أتاح الفرص والإمكانات والمعرفة العابرة للحدود والنضج الثقافي وإتاحة الفرص المتتالية للأجيال الجديدة ثم نستفيق على أن هذا فقط نصيب القادر المختار المرضي عنه اجتماعيا وسياسيا، فنحن في عزلة.

نتفاخر بأن التعليم لمن يدفع والعلاج لمن يملك والطعام لمن يقدر وبطاقات التموين بزيتها الرديء وأرزها الملوث وشاي برادة الحديد ليس لنا، فنحن في عزلة. فيروس كورونا أجبرنا على العزلة، ولكنها عزلة لطيفة بعيدة عن السينما والمول والنادي وصالة الرياضة وصالة الديسكو وحتى الجامع والحرم المكي، ولكنه قد ينبهنا لأننا بالفعل نعيش مستويات أخرى من العزلة بعيدا عن الإيمان والعلم والعائلة والإنسان والفقير والمخلص وصاحب الرأي ومنتج الفكر. العزيز الغالي فيروس كورونا، أشكرك فقد تكون سببا في الاستفاقة المرجوة وخروجنا من العزلة الحقيقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق