مشكلة التاريخ:
لطالما ظل التاريخ يبحث عن روح تلهمه معناه
الذي يكون جديرا به. هذا المنظور الذي حاول كل فيلسوف على حدة فهمه من منظوره الخاص، على أن هذه المنظورات المتعددة كان يربط بينها خيط متين
يشدها، دون السماح لنفسه بالكشف عن ذاته.
لقد كان التاريخ، منذ أن بدأت الفلسفة[1] يحتل
مكانة هامشية، دائما كان التاريخ غير مرغوب فيه، لأنه كان يحيل الإنسان إلى
الذاكرة، والتذكر بدل إعمال العقل والتفكير في المجردات، لأنها المسعى الأول الذي
يهدف إليه الفيلسوف[2]،
والتاريخ لا يمكن أن يكون الطريق المؤدي إلى مخدع الحقيقة، ولهذا اعتبره أفلاطون
من قبيل الرأي DOXA، إذ إنه يعرض لدراسة الأحداث المتغيرة، بينما كانت الميتافيزيقا اليونانية عما تعبر
هو ثابت ودائم، على خلاف التاريخ الذي يتميز باللاثبات والتغير على هذا فإنه حتى
ولو كانت هناك حقيقة تاريخية، فلن تكون حقيقة ثابتة، وإنما هي متحولة باستمرار، في
صيرورة دائمة، وهذا هو الأساس الذي جعل الميتافيزيقا اليونانية تمقت التاريخ مقتا
شديدا، فإلى جانب آراء أفلاطون، نجد أرسطو – على الرغم من تجاوزه لموقف أستاذه ونظريته له، فإنه يكاد يتفق معه حول إشكالية مكانة
التاريخ ضمن العلوم المؤدية إلى الحقيقة- لا يصنفه ضمن هذه العلوم، مما جعل الروح
التاريخية/معنى التاريخ Sens de l'histoire تعيش خمودا وركودا.
تستمر مأساة التاريخ مع رونيه ديكارت الذي
يعتقد أن لا يقين إلا في العقل، وأن لا حقيقة إلا في الهندسة، إذ إن الحواس كثيرا ما توقعنا
في شرك الخطأ، ولذلك كان الموقف الديكارتي أكثر صرامة تجاه المعنى الذي بإمكاننا
أن نستلهمه من التاريخ في خدمة الحقيقة.
لعل ذلك الانقسام بين مدارس الفلسفة إلى
عقلية وتجريبية جعل التاريخ يأخذ مكانة أكثر رحابة مع هذه الأخيرة/المدارس التجريبة،
بحيث تبنى فرنسيس بيكون، التاريخ وصنفه ضمن علم الذاكرة، وهذا ما مهد
لـ"فيكو" في كتابه مبادئ علم جديد مختص بالطبيعة المشتركة للأمم(*) إلى
إعطاء تلك الأهمية للتاريخ والتي لم يحظ بها من قبل مع أي فيلسوف سابق. من هذا
المنطلق كان فيكو أول من فرش الطريق زهورا للبحث في مجال التاريخ بأبعاده الثلاثة:
ماضي/حاضر/مستقبل، ثم فولتير مستلهما رؤية فيكو ليشكل لنا أول مفهوم في هذا المجال
وهو: "فلسفة التاريخ".
تتواصل مسيرة التاريخ إلى أن يصبح من بين
المجالات التي جلبت أنظار الفلاسفة، لقد أصبح البحث عن روح التاريخ موضة العصر
الحديث مع كل من: كانط، هيجل، ماركس ونعت هذا العصر بـ: "عصر حمى
التاريخ"، الذي بلغ التاريخ معه أقصى ما يمكن أن يبلغ به العقل البشري من
تجريد وتصور: تطابق العقل مع الواقع، تلك هي النهاية الأخيرة التي بلغها العقل
البشري في التاريخ، إذ أصبحت نهاية التاريخ نتيجة منطقية نظرا إلى تطابق العقل مع الواقع.
إن الطابع الذي يطغى على التاريخ الهيجلي
–الذي كان يشكل أسمى نقطة وصل إليها البحث في مجال فلسفة التاريخ هو الطابع
الديني، ممثلا بالمسيحية، مظلا لليهودية- كما يقول نيتشه، هذا الطابع الديني الذي
يكون الله فيه هو الضامن الأنطولوجي الأعلى لوجود كل ما هو موجود، وهو أيضا المحرك
الأول لنظام الكون وقابليته العلمية للتعقيل والترييض وسير الأحداث. لأجل هذا فقط
فقد كان يبدو أن التاريخ محكوم بإرادة عليا خارجية عن نطاق الإنسان، متعالية،
متسامية Transcendante،
وهذا ما سماه فريديريك فايلهم نيتشه بـ: "الانحطاط" أو "تاريخ
الهروب". فالحقيقة التاريخية كانت قائمة على فكرة أن لله هو الحقيقة والحقيقة
هي إلهية"[3] مما
يدفع إلى القول إن "الله عقل، والعقل يتعقل الأشياء"[4] وهذا
العقل هو الذي يضع مخطط التاريخ، وبالتالي، فبما أن نيتشه
اتجه إلى نفي الإرادة الإلهية وإبعادها عن التأثير في مسار التاريخ، فما هو
المعنى le sens الذي
يأخذه التاريخ في الفهم النيتشوي؟ وبأي ميكانيزمات يبرر موقفه بعدما ألغى كل
الفرضيات من أفلاطون إلى هيجل؟
الجينيالوجيا: سؤال/آلية تجديد الوعي
التاريخي الغربي.
يوضح نيتشه في "إرادة القوة" مهمة
الإنسان الجينيالوجي، ذلك أنه إذا كان السؤال الأفلاطوني يتمثل في: "ما هي
الحقيقة؟" والسؤال الديكارتي "ما الذي يكون الأساس اليقيني للتفكير
والوجود؟" والسؤال الكانطي "كيف يمكن للذات أن تعرف في حدود التجربة الحقيقية
معرفة متعالية؟" والسؤال الهيجلي "كيف تتجلى الحقيقة المطلقة ويتحقق
المطلق في التاريخ؟"[5] فما
هي الجينيالوجيا التاريخية، وما هو دورها في التاريخ؟
كل تلك الإشكاليات تصبح غير ذات معنى حينما
يظهر السؤال الجينيالوجي الذي يتميز بطريقة نقدية لاذعة، ولكنها مع ذلك ذات فائدة
عظيمة. إن النقد الجينيالوجي هو خلخلة وتقويض، ووسيلة في التفلسف، إذ يستجيب هذا
المنهج التاريخي ويقول "نعم"، هذه الـ"نعم" لا يقولها للهوية و"التطابق"
بل للصيرورة و"الاختلاف" إذ ينبجس نور السؤال النيتشوي/الجينيالوجي من
داخل العتمة الدغمائية النسقية، ليبحث عن "من يبحث عن الحقيقة؟"
و"ماذا يريد في نهاية الأمر؟"، فضمن هذا الفضاء الجديد الرامي إلى المسك
بالحقيقة التاريخية تظل تتردد أصوات مختلفة ومعان متعددة: ضبط جينيالوجيا
الفيلسوف، وتحديد تركيبته النفسية، قسوة الاتهام وعنف الشك، السخط على مغالطات
الميتافيزيقا والتعرية الجذرية للأمور وفضحها، الوعي بمأساة معرفة الحقيقة
التاريخية، وتعيين نمط الإرادة ومعدنها.
ينهال السؤال الجينيالوجي بضربات المطرقة
على الميتافيزيقا منذ أن تأسست في نظرتها للوجود والمعرفة، والمنطق، والتاريخ..
فالجينيالوجي لا يتساءل مثلا عن: ما هو الحق؟ ما هو الخير؟ ما هو العدل؟ إذ هي
أسئلة ميتافيزيقية لا جدوى من الخوض فيها.
سؤال نيتشه ليس ميتافيزيقا، إنه كما يصفه
جيل دولوز "سؤال عمن؟" le qui ? لا سؤال عما هو الصادق أو الطيب؟ بل عمن يضع جمال الأشياء
وحقيقتها؟[6] وعليه
ليس على الجينيالوجي أن يكون فيلسوفا: حكيما وعالما، بل عليه أن يكون طبيبا
للحضارة، فزيولوجيا ونفسانيا، فنه التشخيص le diagnostic، ومنهجيته: الجينيالوجيا.
إن الجينيالوجي يمسرح الأفكار le généalogiste dramatise les idées،
إنه يحرر القوى في حضور أسلوب الحياة، على شكل إثبات[7] بالتالي
فإن الجينيالوجيا في آن واحد هي المسار التاريخي لنشوء المفاهيم والكشف عن النوازع
الأخلاقية والحيوية لهذه المفاهيم، ومن ثمة الشك في مصداقيتها المطلقة للتعارض
معها، إنها تصبح الآن: العنصر الاختلافي للقيم الذي تستمد منه قيمتها ذاتها. إنها
الأصل أو الميلاد/العودة إلى بداية التاريخ، ولكن من جهة أخرى فهي أيضا الاختلاف
أو المسافة داخل الأصل، هذا الاختلاف هو ما يرجع بنا إلى البدايات الأولى مع
العالم كتعبير عن الفوضى والتاريخ كصيرورة وتقدم لصراع الإرادات.
انطلاقا
من هذا فإن التاريخ في جملته جينيالوجيا (دراسة الأصول) وأركيولوجيا (دراسة
المبادئ) وعليه فإن الأركيولوجيا هي الإجابة التي ينطوي عليها البحث الجينيالوجي.
فـ"نيتشه" يريدنا أن نلج مخبر التجارب/التاريخ في إطار الفكر
الجينيالوجي إذ إننا نعثر
على أول تفسير للعالم مع طاليس لفكرة الجوهر الأولي(*) بما أنها
فكرة عن الأصل. وعلى غرار أنبذوقليتس Empedocle وزرادشت Zarathoustra فإن أصل مشروعه هو أن يجعل من نفسه الفيلسوف-الطبيب le
philosophe-médecin للحضارة الحديثة، إذ يريد أن
يقوم بهذا التحويل الشخصي قصد توسيع تخوم les
limites كل المجالات المحدودة بالتاريخ: وليست
عملية إعادة التقييم سوى خرقا Trasgression واختراقا للأنساق باعتمادها على أصنام الفكر. وبهذا فإنه لا يمكننا –يقول
نيتشه- محاكمة أنساقنا اللغوية إذا لم نخرج بطريقة أو أخرى من زمننا: لا يمكن سوى
العودة إلى الماضي، نسبح فيه
بفضل تقدم الفيلولوجيا، انتعاش كل القوى الحرة للزمن الأول لحضارتنا قبل الظاهرة
السقراطية الصارمة[8].
هذا ما قام به نيتشه إذن داخل الفكر الغربي
بالعودة إلى أصوله، وهو يوضح أنه ليس بإمكاننا تبني وضعية التاريخ الكوني على
شاكلة التاريخ الهيجلي، وليس تاريخا للحضارة من أجل النهاية الضرورية إلى تقدمها[9] بل إن كل ما نقوم به في إطار
الجينيالوجيا هو الكشف عن سلسلة من التأويلات يكون مصير البشرية متجها في اتجاهها
وتكون الجينيالوجيا هي تاريخ ذلك المصير: "إنها تاريخ النماذج الأخلاقية
والتصورات الميتافيزيقية تاريخ مفهوم الحرية والحياة الزاهدة من حيث هي تدل على
ظهور تأويلات مختلفة وعليه فإن هذه التأويلات هي عبارة عن معان مختلفة حول مفهوم
واحد، لذا فإن نيتشه أخذ من الأهمية ما جعله يبحث عن الأصل الأول للمفهوم من جهة،
ومن جهة أخرى هو أنه قسم العلامة إلى دلالة معنوية ودلالة مادية وفي نظره أن الدلالة
المعنوية هي التي تقبل تعدد التأويل: "ليس هناك حادث في ذاته، فكل ما يحصل
ويتم ليس إلا مجموعة من الظواهر التي انتقاها واختارها كائن مؤول"[10] والتأويل
بهذا المعنى ليس سوى تطبيق إرادة معينة على موضوع معين، لذا كان الجينيالوجي لا
يرى في التأويل سوى مفاضلة وإعطاء أولويات لمعنى على آخر، تلك الأولويات التي ترجع
لإرادات القوى والسلطات التي توجد من وراء التأويل، والتاريخ عنده ليس تقدما لعقل
كوني وإنما لعبة الانتقال من سيطرة إلى أخرى.
إن الانزياح الذي يحصل بين مشهد ظاهري وآخر
خفي/المعنى هو الذي يجعلنا نميز بين جانب مادي وآخر لا مادي يكونان أساسيان للتطور
في التاريخ: أهمية التأويل، هذه الأهمية هي التي يجب معرفتها لإبقاء التأويل في
خدمة التاريخ بشكل أفضل: بين الدال والمدلول –كما يسميها دي سوسير- هذان العنصران
يشكلان القاعدة الضرورية لمنهجية الجينيالوجيا. فعلاقة التأويل إذن ليست علاقة
تأمل وهوية، بل هي علاقة مدلولات وصراع وغزو، تفترض دائما إنتاجا جديدا واتخاذ
مواقف: "إن إضفاء المعاني على الوجود يعني عند نيتشه إثباتا لسلم قيم، فقيمة
العالم متوقفة على المعنى الذي نعطيه إياه.. لذا فلا يمكن للتأويل أن يكون نهائيا،
بل على العكس من ذلك إنه صيرورة[11].
من هنا فإن التاريخ يتنافر مع كل واقع خام،
جامد، من خلال إحالة دال ما إلى دلالة ودلالات متعددة، أي أن الخطاب التاريخي ليس
خطابا ماهويا، بل هو خطاب دلالات واختلاف كما أن التاريخ لا يخدم هدفا واحدا فقط(*).
هذا ما أمكن لنا أن نسميه كوجه آخر مقابل للاسم
المعروف لدينا بالجينيالوجيا، فهو يأخذ معنى الفلسفة التاريخية التي تعتبر أحدث
المناهج الفلسفية كلها.. وقد نجحت في بعض الحالات الخاصة[12] ممارسة
حيلة التحليل النفسي لتاريخ العالم ككل. إنه صوت التاريخ الذي لم نسمعه[13].
إن خطيئة الفلاسفة –يقول نيتشه- هي غياب
الحس التاريخي، ذلك أن الكثير منهم يرى كل شيء ثابتا مثلما شكلت ذلك التأثيرات
الدينية والأحداث السياسية، هذا الشكل الثابت هو الذي ينبغي أن يكون منه المنطلق..
لم يرد الفلاسفة أن يفهموا أن الإنسان نتيجة صيرورة.. ألا إن كل شيء ينتج عن
الصيرورة. ليس هناك من المعطيات الخالدة أكثر مما هناك من الحقائق المطلقة، إن ما
يلزمنا بالتالي –يقول نيتشه- من الآن فصاعدا هو "الفلسفة التاريخية"[14] إنها
الصيرورة بمعنى من المعاني.
التاريخ والبدء: العالم كفوضى Le monde comme expression du chaos
إن نفي نيتشه لإله محرك للتاريخ يدفعه إلى
الأمام جعله يتجه إلى الوراء أولا لتحديد الكيفية التي كان يبدو بها العالم منذ
البدء وبهذا فإنه يكرس قطيعة فكرية مع الميتافيزيقا أدت إلى قلب الفلسفة
هيكلا، ومنهجا، ومهمة. وبناء على ذلك لا يصح القول إن التاريخ ينتسب إجمالا
إلى حقبة الميتافيزيقا التي تشرع مع أفلاطون لتشرف على نهايتها مع هيجل، بينما تنتمي
مشكلة التاريخ إلى التفكير الآخر، الذي هو تفكير يسعى إلى تكريس قطيعة مع نمط
التمثل الميتافيزيقي للتاريخ، فيراهن أساسا على قلب الفلسفة قصد فتح أفق جديد،
فكيف يتحدد هذا الأفق الجديد في التفكير؟
لقد قام نيتشه بتغيير جذري فيما يخص
الميتافيزيقا الكلاسيكية، حيث أعاد الاعتبار للنظرة الأولى حول الوجود القائم على
الفوضى Chaos.
إن المقاربة الحقيقية والأصلية للفوضى هي انعدام التسلسل: "إن طبيعة كل
العالم هي منذ الأزل طبيعة الفوضى، ليس بسبب غياب الحاجة لكن بسبب غياب النظام،
التمفصل"[15] فالدقة
العقلية لا وجود لها في العالم النيتشوي، لأن الدقة تستدعي النظام، والنظام يستدعي
المنطق والمنطق يستدعي التسلسل، وعلى هذا فإن العالم لا يعرف قانونا يسير وفقه
فيقوده في مجرى معين للأحداث "لنحذر أن نعلن أن هناك قوانين في الطبيعة"[16] إذ
لا أحد يطيع ولا أحد يحكم ولا أحد ينتهك القانون وعليه فلا وجود لأية غاية في هذا
العالم، لأن الغاية إنما هي ناتجة عن القانون الذي يتبع مسارا محددا تكون هي
نهايته المحتومة، والتي هي الإله المسيحي –هيجل- ولكن متى تكف كل ظلال الإله هذه
عن حجب النور؟ متى سنزيل صفة الألوهية كلية عن الطبيعة؟ متى سيسمح لنا نحن الناس
التوافق مع الطبيعة الخالصة المكتشفة من جديد المحررة من جديد؟
يتوافق هذا الموقف النيتشوي لتاريخ العالم
من البدء مع مقولة أنكساغوراس في كتابه (أقصد نيتشه) ميلاد التراجيديا: "في
البداية كل شيء كان فوضويا، إلى أن جاء العقل وخلق النظام"، يجسد أبولون
تسلسل التاريخ بصفة نظامية عقلانية، في المقابل، يجسد ديونيزوس التقاطعات أو
اللانظام، الفوضى، اللاتسلسل بين أحداث التاريخ، وهذا أول مظهر من مظاهر نفي إرادة
الإله في سير العملية التاريخية، فينفي نيتشه بالتالي سلطة إلهية متعالية ليعوضها
بسلطة إنسانية محايثة، إذ يبدو "هذا العالم معرقلا من خلال التعقل بواسطة
المظهر والاتزان، بينما اللذة المنتشية لممارسات وأفعال ديونيزوس في نغمات ساحرة،
فاتنة، شبيها بمن انفجر ممزقا من الصراخ، كل فوضى الطبيعة في مرح، ألم..!"[17].
إن هذا العالم مملوء بالتناقضات الكثيرة،
التي تؤدي إلى عدائية صارمة بين عناصر الصراع/الشقاق الأبدي (=le conflit éternel)، أب الأشياء[18] ولعلنا
نجد مقاربة رائعة نستشف من خلالها روحا للتاريخ في المنظور النيتشوي مستلهما
الموقف الهراقليطي/هيروقليطس في شذراته "الحرب هي ملك الجميع وأب الجميع،
ولقد أظهرت البعض على أنهم آلهة، وأظهرت البعض الآخر على أنهم بشر، لقد جعلت من
البعض عبيدا والبعض الآخر أحرارا"[19].
يأخذ هذا الصراع الأبدي والحرب معنى الكاوس،
إذ نجد جيل دولوز يوضح لنا أن أكثر ما يميز الـ"سديم" "ليس غياب
التحديدات بقدر ما هو السرعة اللامتناهية التي تظهر فيها هذه التحديدات
وتتلاشى: ليس هناك حركة تنطلق من تحديد إلى آخر، بل على العكس هناك استحالة
العلاقة بين تحديدين، لأن ظهور الواحد منهما مرهون باختفاء الآخر"[20].
أولا يمكننا أن نستنتج أن هذه المطاردة بين
لحظة وأخرى، بين تحديد وآخر هو منتج الصيرورة/العود الأبدي، على أن اختفاء تحديد
وظهور آخر ليس معناه الدياليكتيك الهيجلي، لأن الوقوف عليه سيوقعنا ثانية في
إشكالية نهاية التاريخ وتجسد الإله، وهما مسألتان يرفضهما نيتشه رفضا لا مجال للبث
فيه، لأن الإنسان الارتكاسي دائما يخدم سلطة متعالية هي "الإله" موضوع
العدمية. بما أن هذا الإنسان ضعيف فهو يذعن لتلك السلطة المتعالية، من هنا يتشكل
لدينا اتجاهان عدميان: قوى ارتكاسية، وإرادة عدم تتصالح فيما بينها، والدياليكتيك
يبدو بالتالي أنه يتجه إلى مسار واحد هو مسار القوى الارتكاسية ويتطور في المنظور
العدمي[21] وبالتالي
لا ينتج هذا التطور العدمي أية قضية جديدة ومن هنا وجب ظهور قوة أخرى تحرك التاريخ
تكون بمثابة الروح للجسد هي: "إرادة القوة" التي ليست ارتكاسية ولا
عدمية.
إن الفوضى وانعدام التسلسل تقتضي منا
الابتعاد عن الفهم الأنتروبولوجي والسياسي، لأنه ليس معنى أساسيا، بل هو معنى
لاحق، ومن جهة أخرى عن الفهم الاستهجاني من حيث إنه يتضمن الخلط والملط، وقلب
الأشياء رأسا على عقب. إن الفوضى تفيد على العكس من ذلك الصيرورة الأبدية للعالم،
التي لا تعرف بداية ولا تستقر على هيئة معينة، أو شكل ثابت ولا تتقيد بمفهوم محدد
أو معنى واحد.
إن الفوضى إذن هي الاسم الآخر
لـ"التاريخ" بما هو صيرورة أو وجود متحرك، مستعص على المعرفة الإنسانية،
وهو المعنى (= le sens) الذي يضفيه بطل التراجيديا، أو ليس ديونيزوس الذي يصارع الآلام
ببطولة، هو الإنسان الذي يسعى إلى تحقيق الظروف الملائمة لتحقيق حياة يكون جديرا
بها. إن الحياة هي المجرى الذي تتصارع فيه الأحداث ويأخذ فيها ديونيزوس حقه منها،
أو ليست الحياة بهذا المعنى هي التاريخ، وآلام ديونيزوس هي أحداثه؟ ولكن ما الذي
يسير هذا العماء ويضفي معنى معينا على التاريخ؟
الصراع المتوج بإرادة القوة: روح التاريخ
ينتهي نيتشه بعد تقويض الميتافيزيقا، إلى
القول بمفهوم الـ"صيرورة" الناتجة عن تعدد الإرادات، هذه الأخيرة ليست
سوى اختلافات جوانية لمفهوم يجمعها ويشتمل عليها هو مفهوم "إرادة
القوة". إن "إرادة القوة" تمثل كل شيء في هذا العالم: "ليست
قيمنا إلا تأويلات أقحمناها في الأشياء، هل يمكن أن يكون هناك معنى في ذاته؟ أليس
كل معنى نسبيا، أي منظورا؟ كل معنى هو "إرادة قوة"؟[22] فإذا
كانت المعاني تتولد بواسطة إرادة القوة من طرف لتمتد إلى الطرف الآخر ليظهر بمجرد
اختفاء الطرف الأول، فذلك هو معنى التاريخ الذي يعبر عنه في كتابه: "إنسان
مفرط في إنسانيته" بحيث لم يكن يقصد شيئا آخر سوى أن يبرز أن كيفية صدور
القيم متوقف على هذا العنصر التراتبي الذي يقسم العالم بمواضيعه ورموزه إلى
تعارضات مختلفة: لذا فإن الجينيالوجي/نيتشه ما إن يسمع الحديث عن القيم: الخير –
العدل – الحق، فإنه يذهب إلى البحث عن استراتيجية الهيمنة. إنه لا يرى في ذلك إلا
لعبة الإرادات[23] لا
يرى إلا إخضاعا وقهرا وصراعا، لا يرى إلا قوة وسلطة، والتاريخ تدرج هائل الطول.
هذه هي التراتبية التي نراها، هي قضيتنا…![24] والتراتبية
هذه ليست سوى تراتبا للإرادات، وانطلاقا من هذا المنظور يرتسم لنا عالم إرادة
القوة ممتزجا بأقاويل قديمة، يدرك نيتشه من خلالها إجابة أنكساغوراس فبدل أطروحة
العقل Nous والروح l’esprit تبدأ رؤية التاريخ بتركيب
أجزاء مفككة/مجموع الإرادات، ويؤكد نيتشه سيطرة إرادة القوة مفترضا أن الكل في
صيرورة، فالتاريخ ليس سوى هذا العالم في حركة متتابعة، عالم يكون فيه المستقبل
عودة مطابقة لـ"الماضي": إنه العالم الأبدي لـ"إرادة القوة"
إرادة تثبت ذاتها شيئا فشيئا كإرادة قوة حينما يتطور فكر القوة ذاته في المعالجة
النيتشوية إلى غاية إثباته كأطروحة مشكلة من وحدتين متزامنتين: "إرادة"
– "قوة".
إن "إرادة القوة" هي ذلك المعنى
الظافر للقوة الذي خلق به الفيزيائيون الله والكون[25] على
أن هذه القوة ليست في تفاعل أحادي، بل هي بين قوى متعددة تتوج بـ"إرادة
القوة"، يقول "نيتشه" سيظهر لكم هذا المفسر الجديد: "إرادة
القوة" بحقيقتها العالمية وبقوتها المطلقة، بحيث تصبح كل العبارات الأخرى
عبارات عديمة الجدوى"[26] ففي
مقابل تلك الثنائية الميتافيزيقية القديمة (الظاهر – الجوهر) أو الثنائية العلمية
(السبب – النتيجة) يقدم نيتشه العلاقة بين الظاهر والمعنى، معتمدا على التحليل
الجينيالوجي كما رأينا، فكل قوة هي تملك وهيمنة واستغلال لكم من الواقع، وحتى
الإدراك ذاته هو تعبير عن القوى التي تتملك الطبيعة ويعني أن الطبيعة ذاتها لها
تاريخ، ومن هذا المنظور يرد نيتشه على هيجل الذي يحصر مجال التاريخ في مرحلة ما
بعد الوعي الإنساني فقط: "التاريخ هو مجموع الدراسات الخاصة بالفكر باعتباره
مناقضا للطبيعة" وأن تاريخ شيء ما هو تتابع القوى المتصارعة من أجل انتزاعه،
فكل ظاهرة وكل موضوع يتغير تبعا للقوة التي تمتلكه والتاريخ هو مسار تعدد المعاني،
وبالتالي تصارع القوى، إذ إن كل معنى هو تعبير عن قوة معينة من جهة، ومن جهة أخرى، فلا يوجد المعنى إلا
في شكل تعددي قوامه تتابع الدلالات وتشابكها وتصارعها.
إن المعنى هو المكان الذي تفعل فيه الفوارق
والمفهوم هو المجال الدلالي الذي يكشف نموا تاريخيا كاملا[27] على
أن التأويل الصحيح لهذا المفهوم ليس طلب القوة والهيمنة السلبية، إن تأويل إرادة
القوة بوصفها كذلك يجعلها مرتبطة كليا بالقيم السائدة التي بإمكانها وحدها أن تحدد
ما هو الأقوى في حالة معينة، أو صراع معين. بذلك يقع سوء فهم طبيعة إرادة القوة
كمبدأ مرن لكل تقييماتنا، وكمبدأ خفي لخلق قيم جديدة وتفسير التاريخ، فإرادة القوة
تكمن في الخلق والعطاء والقوة ليست هي ما تريده الإرادة بل هي ذلك العنصر
الاختلافي الذي تشتق منه القوى الحضارة، ونوعيتها داخل مركب معين، فهي لذلك عنصر
متحرك ومتعدد، وهذا التحرك الذي حينما انعكس على أحداث التاريخ فلقد تجسد في تلك
الصراعات التي كان اليهود هم أول من قاموا بها –ثورة العبيد في الأخلاق- بحيث
تجاسروا على قلب معادلة قيم السادة الرومان، وحصل بين اليهود والرومان كفاح قاس،
بلغ أعنف صورة له في المسيحية التي ليست سوى شبحا لليهودية، ليستمر هذا العداء في
القرن الثاني بعد الميلاد، فسادت القيم المسيحية الانحطاطية(العدمية) في أوروبا
حتى عصر نيتشه وبمجرد أن بدأت القيم الأرستقراطية تستيقظ من جديد قام رجال النهضة
يعارضون قيم الرومان واليونان، قيم السادة، وانتصرت مرة أخرى قيم المسيحية بفضل
حركة الإصلاح الديني بزعامة لوثر في القرن السادس عشر الميلادي، وانتصرت أيضا في
الثورة الفرنسية حين وقعت آخر طبقة من النبلاء والأرستقراطيين والسادة ولكن وسط
هذا الصخب حدث شيء هائل، إذ قام نابوليون كآخر إشارة إلى الطريق الآخر/طريق السادة
لكن سرعان ما سقط هو الآخر[28].
هذا تطور التاريخ من الناحية
القيمية/السياسية والدينية والأخلاقية، ولكنه يكشف لنا من الجانب الخفي تقدم
الصراع بين القوى المتصارعة، ليظهر الإنسان الأعلى le surhomme كبعد مستقبلي في فلسفة نيتشه
يحاول من خلاله تعويض النقص الذي انتهى إليه التاريخ عند هيجل، وذلك من خلال فلسفة
اللاراهن (= l’inactuel) إذ نجد في الإنسان الأعلى تتويجا لإرادة القوة، والذي يمثله
زرادشت السائر في طريقه إلى الإنسان الأعلى/المتفوق الذي لم يتحقق بعد.
بهذا يبرر لنا نيتشه نفيه لفرضية الإله في
الفلسفات السابقة ليعوض بها الإنسان الأعلى كمرحلة لاكتمال إرادة القوة، وبالتالي
يطرح لنا بعدا مستقبليا، وما يبرر ذلك هو أن جل مؤلفاته لم تكتب لعصره، بل للزمن
اللاراهني ككتاب: "ما وراء الخير والشر" الذي وضع له عنوانا فرعيا:
"تمهيد لفلسفة للمستقبل" Prélude pour une philosophie de l’avenir وكتاب:
"هكذا تكلم زرادشت" Ainsi parlait
Zarathoustra هذا الإنسان الأعلى الذي
يبحث عن استمراره والذي لا يجده سوى في تحقيق إرادة القوة، هذه الإرادة هي منبع
الصيرورة ومنتجة العودة الأبدية التي ليس من شأن أحد أن يظفر بها سوى الإنسان
المتفوق، الذي يتحمل عواصف الأرياح في الكرة التي لا أول لها ولا آخر: "لقد
أتيتكم بنبأ الإنسان المتفوق، إنه من الأرض كالمعنى من المبنى، فلتتجه إرادتكم إلى
جعل الإنسان المتفوق معنى لهذه الأرض وروحا لها"[29].
يتضح لنا البعد المستقبلي في حديث زرادشت
وضوحا ساطعا، إذ إنه يعبر عن رجوعه من سفر بعيد، هو سفر من المستقبل إلى زمن الراهن، الزمن الذي
يسعى إلى التقدم والبحث عن زمن الإنسان المتفوق الذي هو وحده زمن إرادة القوة التي
لا معنى للتاريخ بدونها سواء في الماضي أم في الحاضر أم في المستقبل لأن كل شيء سيعود.
[1] - المقصود هنا الفلسفة النسقية
باعتبارها أول بداية لدراسة الفلسفة في إطار مؤسسة رسمية وهي أكاديمية أفلاطون
[3] -
Netzsche, La généalogie de la morale, traduction de Angel Kremer-marietti,
Edition générale, Paris, 1974, 24§, p283.
[5] - انظر يوسف بن أحمد، منظورية الحقيقة عند نيتشه،
مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 102/103، مركز الإنماء القومي، 1998،
ص51.
[6] -
عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، مجاوزة الميتافيزيقا،
الطبعة الأولى، دار توبقال، المغرب، 1991، ص51.
[9] -
Angel Kremer-marieuttie, De la philologie à la généalogie, La généalogie
de la morale, Edtions générale, Paris, p78.
[15] -
نيتشه، العلم المرح، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، إفريقيا الشرق، المغرب، ط1،
1992، ص122-109.
[17] -
Nietzsche, La naissance de la tragédie, Traduction de Jean mornold et
jaques morland, Librairie générale française, Paris, p62.
[19] - هيراقليطس، الشذرات، جدل الحب والحرب، ترجمة
مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار التنوير، ط2، 1983، ص65-53..
[20] - انظر جيل دولوز، ما الفلسفة؟، مع فليكس غتاري،
ترجمة مطاع صفدي، ط1، مركز الإنماء القومي، لبنان، 1997.
[21] -
انظر جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 1993.
[26] -
نيتشه، ما وراء الخير والشر، ترجمة جورج كتورة، مجلة العرب والفكر العالمي،
العدد الثاني، ربيع 1988، ص43.
[27] -
السيد ولد أباه، التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو، الطبعة الأولى، دار
المنتخب، لبنان، 1994، ص57.
[28] -
عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، جII، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984،
مادة: نيتشه، ص512/513.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق