”جائحة
كورونا” هي الشر السائل في العصر الذي نعيشه والذي تتسم ظواهره بالسيولة“
ليس هذا المقال
تعبيرا عن حالة من السخط عما يجري في عالم كنا نعتقد أنه متحضر وأننا تجاوزنا فكرة
أن الإنسان ذئبا لأخيه الانسان، وإنما هي لحظة تأمل غمرتنا وأعادتنا إلى جوانا
نتأمل ونبحث ونتساءل ماذا يجري هل هو حلم أم حقيقة ؟ وإلى أين نحن نسير في عالم
عجزت فيه التكنولوجيا والعلم، عالم ارتبكت فيه القدرات العلمية
والطبية، بعد أن كانت تتربع على عرشه وبلا منازع ؟ إلى أين حقيقةً نحن
سائرون ؟ وهل نحن ذئاب أم بشر؟
“الشر في
الوجدان الإنساني، هو عكس الخير، وهو من الخريطة الادراكية التي ترسم العالم في
ثنائيات صلبة متعارضة مثل النور والظلام، والجمال والقبح، والحق والباطل، والحقيقة
والخرافة، والعلم والجهل، والموضوعية والذاتية، والتقدم والتخلف، والعقلانية
والعاطفة، والأصدقاء والأعداء”، هذه الثنائيات تستمد تماسكها من مركز صلب، إلهي أو
بشري، يحدد معالمها وحدودها، ومع اختفاء المراكز الصلبة، تحول الشر من مرحلة
الصلابة إلى مرحلة السيولة. (مصدر/ الشر السائل)
ولماذا هذا الشر
الكامن في العالم ؟ إذا كان الله عادلاً، كيف يخلق عالماً ملؤه الشر والظلم ؟ وإذا
كان الله هو القوي والقدير فلم لا يقضي على الشيطان ويعفي البشر من كل هذا العذاب
؟
هذه الأسئلة وغيرها
من أمثالها تكشف عن اغتراب شديد واحساس عميق بالظلم وتطلع واضح إلى حالة تنتهي
فيها التناقضات والصراعات… أسئلة عامة تشغل كثير من الناس، فهل رب الكون العظيم هو
خالق الشر في الانسان والكون؟ وأن معاناة البشر على الأرض سر من أسرار الله، أم أنها
إرادة الله أو أنها غضب الله… ربما التأمل يجيب عن هذه الأسئلة المحيرة ومن ثم
تحقيق الخلاص الروحي من جائحة الشر المقيت.
هل الروح الربانية
سقطت من السماء ووقعت أسيرة في دوامة المادة الشريرة ؟ وأن خالق الكون ليس إله
واحداً بل اثنين، إله الحق والنور والمحبة والجمال والخير، وإله الباطل والظلام
والكراهية والقبح والشر، وأن العالم يزخر بالصور الربانية الخيرة التي تمكن من
خلالها الاستزادة من المعرفة الروحية الباطنية، وتكفل الخلاص من الإله الشرير.
وهل الله والشيطان
قوتان متعارضتان ومتساويتان لا تحظى إحداهما بالسيطرة التامة على ملكوت السماء
والأرض ؟ “إن هذه الرؤية تثقل كاهل البشر بحتمية الاختيار”.
وهل يمكن تفسير
الشر الكامن في العالم تفسيراً علمياً ونرسم خريطة يهتدي بها الإنسان لكي يقضي على
الشر ويحقق الفردوس الأرضي ؟ إذا كان الخلاص يتحقق عبر إيمان ومعرفة باطنية بإله
خفي غريب عن العالم، فإن “الغنوص” نفسه سبيل الخلاص والهروب من تناقضات العالم
وأمراضه.
يعتقد البعض بأن
السمات البارزة لهذا التفسير، تكمن في حالة السخط على وضع الإنسان في العالم
واعتقاده بوجود تنظيم سيء أو شرير للعالم، وأمل بإمكانية الخلاص من شر العالم
وإيمان بالفعل البشري وسيلة لتغيير نظام الوجود ووضع صيغة لخلاص النفس
والعالم.
وعلى هذا الأساس
وصف بعض التيارات والأفكار بأنها تشير إلى أنساق مغلقة تسعى إلى التحكم التام في
الشر وتحقيق الكمال المطلق في الأرض. الليبرالية ورغبتها في توظيف العلم
والتكنولوجيا في اشباع رغبات البشر. الماركسية ودعوتها لمجتمع غير طبقي يخلو من
مظاهر الصراع والتناقض. النازية وحلمها بالتحقق التام والترشيد الكامل.
لقد فشلت آمال
الليبرالية التي كانت تحلم بها الحداثة الغربية في تحرير الانسان وفكرة المواطنة،
وقد أدى فشل المشروع الليبرالي إلى ظهور الصهيونية السياسية وبرنامجها الذي يهدف
الى تأسيس “دولة ليبرالية يهودية” جديدة، يقول باومان: “لا ريب أن الصهيونية
السياسية لاسيما صهيونية “تيودور هرتزل” صدرت عن فشل جهود الإدماج في أوروبا
الليبرالية، وليس عن التراث الديني اليهودي أو إحياء حب صهيون”.(مصدر/ الشر
السائل)
مثلت الاشتراكية
البديل “اليوتوبي” للظلم الرأسمالي والإخفاق الليبرالي وتضمنت الماركسية ترسانة
ضخمة من المفاهيم التي تفسر الشر على أسس مادية واقتصادية وترسم خريطة منفصلة
للنجاة، وكما أن الشر من المنظور الماركسي منبعه الاستقلال الرأسمالي للطبقة
العاملة واللامساواة والتفاوت الطبقي وتزييف الوعي، فكانت الماركسية تمثل الأمل في
وجود بديل للشر الرأسمالي، فكانت أيديولوجيا صلبة قائمة على حلم “يوتوبي” قابل
للتحقق ويحظى بتأييد واسع من الجيوش العاملة في المصانع الرأسمالية وساستها
ومفكريها وقادة ثورتها المأمولة. (مصدر/ الشر السائل)
إن إعلان نهاية
التاريخ بسقوط الاتحاد السوفييتي لصالح الرأسمالية الليبرالية التقدمية باعتبارها
النموذج الأوحد والأمثل للبشرية. أدى إلى تغيير فكرة البديل الذي مثلته الاشتراكية
وسواها من المذاهب السياسية المعاصرة وجرى خصخصة اليوتوبيا في إطار منظومة
استهلاكية وساد الاعتقاد بغياب البديل وسطوة ارادة القوة وطغيان
الاقتصاد وظهرت اجابات مريحة تعزو الشر الى الأصولية الدينية والارهاب وليس الى
الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
إن اندلاع الثورات
لإسقاط النظام والثورات المضادة تدفع الثائرين الى فقدان الايمان بأن الانسان يمكن
أن يغير شيئاُ في العالم فمن يملك القوة يملك الحقيقة، ويملك تزييف الوعي،
فالأفعال الواحدة قد توصف بأنها أفعال ثائرين أو إرهابيين، وكما قال مترجم كتب
السيولة للفيلسوف الاجتماعي البولندي “زيجمونت باومان” بأن المنتصر “هو من يكتب
التاريخ” ويضع بصماته الخالدة في نهاية المطاف. (مصدر، الشر السائل)
وعليه أمام انتشار
الجائحة وتفشيها حول العالم، وأمام إرباك القدرات العلمية والتكنولوجية وكافة
التحاليل على اختلافها، يمكن القول بان جائحة كورونا” هي الشر السائل في العصر
الذي نعيشه والذي تتسم ظواهره بالسيولة… وإذا كان الشر يكمن في التفاصيل اليومية
حتى يبلغ حد الاعتياد في المدن الحديثة، البوتقة المركزية لصهر القيم والأخلاق
والتطبيع مع الشر، فان الفهم والتحليل الواعي يشكلان الخطوة الأولى نحو نقض الشر
بالعدل والرحمة، وأن ووعينا هو الوحيد الذي يحمينا من هذا الشر السائل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق