كأن النهر يجري، والينابيع تنادي - أنس مصطفى - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 11 أبريل 2020

كأن النهر يجري، والينابيع تنادي - أنس مصطفى


(1)
ها أنتِ في رَمادِ المصَابِيحِ
تغسلينَ بياضَ الشَّواهدِ
في اللَّيلْ،
تَزجُرينَ جِهَاتِ الفِراقِ،
وتبنينَ بُيُوتاً أبديَّةْ..
تترقَّبينَ الأبوابَ أَبَدَاً
علَّ طيرَ الرُّوحِ يحنُوْ.
(2)
من أيقظَ كُلَّ هؤلاءِ النُّحَاةِ
ليَسهَروا
على جُرْحِيْ؟
كيفَ أكتبُ الأَلمْ؟
الألمُ لا ينَكتِبْ..
كيفَ أصِفُ الجُرحْ؟
ما حاجتي للوَصفْ؟
(3)
هُوَ ذا اللَّيلُ ثَانِيَةً..
ليلٌ تطرُقَهُ الحَوَافِرُ،
ويُضِيئُهُ النَّابْ.
(4)
وتَقَاسَمتكَ الخَرَائِطُ كُلُّها،
أودَى بِكَ الأَمَلْ.
(5)
ها تصفو كَغمامةٍ في رقَّةِ الفَجرْ..
يبتلُّ قلبُكَ بالحَيَاةِ ثانيةً،
تتفقَّدُ الأيامَ من حَولِكْ،
عَطشانَ مثلَ قُرَىً غادرتها الينَابيعْ،
تَغرِفُ من أوقاتِكَ النَّائِيةْ..
مَصقولاً وَوَحِيدَاً،
كالسِّيفِ الذي يَلمَعُ في خَاصِرَتكْ،
في عُزلَتِكَ الآسِرَةْ..
ما خلَّفتهُ في بعيدِكْ:
الأُلفةَ التي شجَّرتْ نواحيكْ..
الغُربةَ التي سقتكَ شُرُودَكْ..
وكأنَّ شدوكَ كانَ لمحةْ،
وكأنَّ ألفَ صحراءَ شَرِبَتْ
مِن دَمِكْ،
وكأنَّك مبتلٌّ بالجِمارِ أبداً،
وكأنَّ الرَّتاينَ كلَّهَا شَحُبتْ عليكْ..
فإلىْ أينَ تأخُذُكَ الخَسَارَاتُ صَمُوتَاً هكذا؟
إلىْ أينَ تمضيْ
وقَدْ استبدَّ ِبكَ الفَقْدُ،
وآلمتكَ المَفَارِقْ.
(6)
وَأَرَاكَ في كُلِّ وَهْلَةْ،
وَأنْجُو بِكَ مِنْ كُلِّ كَائِنْ..
(7)
هَلْ تُدْرِكينَ الآنَ ذَلِكْ؟
لا تَزَالُ الجِمَارُ على حَالِها،
لا يَزَالُ التِّيهُ في كلِّ وِجهَةْ.
(8)
اسمُكِ الذي يجعلُ النُّورَ سَاهِرَاً في كلِّ عَتمَةْ،
اسمُكِ الَّذِي يَقطِفُ الأيَّامَ من بَعيدِنَا فنجيئكِ سَالمينْ..
اسْمُكِ الذي يَغرِسُ أَشجَارَكِ
في كلِّ وِجهَةْ..
اسمكِ الأَبديُّ يا آمِنَةْ.
(9)
ما بَيْنَنَا مِعوَلٌ سَاهِرٌ فوقَ حَاءِ الحَنِينْ.
(10)
أفكِّرُ كيفَ الطُّيُورُ تُضيِّعُ أَنحاءَها
هَكَذَا..
تؤبِّدُ أسماءَها بالحَنِينْ.
(11)
الشَّجَرُ الذي سَقَينَاهُ في غِيَابِك
بَاتَ مُزهِرَاً..
الشَّجَرُ الذي لمْ تُبصِرهُ أبداً.
(12)
شَدَّ ما شَحُبتْ في الدُّرُوبِ الحَكَايَا،
لم أكُ غيرَ ذاكَ الشِّراعِ،
يُسَافِرُ في صَمتهِ مِثل بَرقْ..
لماذا انطَفَتْ كُلُّ تلكَ الموَانئِ في غُربَتِيْ،
خلَّفتنيْ وَحِيدَاً؟
لماذا
انطفتْ
كُلُّ
تلكَ
المَوَانِئِ في غُربتيْ؟
(13)
ما كانَ لِي من فَجْرِهَا نُورٌ نَقِيٌّ غَامِضٌ، شَجَرٌ على طَرَفِ الدُّرُوبِ، وَقَهوةٌ في اللَّيلِ تَغمُرُها الحَكَايَا، زَادُهَا سَمَرٌ يُسَاوِرُهَا، انتِظَارٌ عَامِرٌ، سَفَرٌ إليها في الشِّتاءِ وضَحكَةٌ عَبَرَتْ سريعاً مِنْ يديَّ وَوَحشَةٌ أبديَّةٌ وَظَلامُ غَيبتِهَا الكَثِيفْ.
(14)
وكأنَّ أَصْدَاءَ القُرَىْ البَيْضَاءَ
تأخُذُنِي لِقَهوَتِها،
وتَسقِينِي الصَّبَاحَاتِ الوَضيئةِ
من يَدَيهَا،
تَجبُرُ الأيَّامَ والسَّلوَىْ،
وتمنحُنِيْ السّلامْ..
وكأنَّ آلافَ القُرَىْ المنسيَّةِ البَيْضَاءَ
تُقْرِؤُنيْ السَّلامْ.
(15)
ستُخبِّئُ الذِّكرَىْ شَظَايَاهَا
الصَّغيرةَ في يَدَيكْ..
سيضُّمُّكَ النِّسيَانُ ثَانِيَةً
إلى غَابَاتِهِ الأُولَىْ
ويأخُذُكَ الغَرِيبُ إلىْ الغَرِيبْ.
..(16)
أتفقَّدُكِ في الأَمَلْ،
في الأمَلِ البَاقِيْ،
في الجَنَاحِ الأخِيرْ.
(17)
لكنَّها الآنَ لَيْسَتْ هُنَاكْ،
لَمْ تَعُدْ شَجَرَاً في المسَاكِنِ،
لا نُزُلاً في رَمَادِ الدُّرُوبْ.
(18)
ماذا بِوسْعِكَ
إنَّ المَسَافَاتَ طَالتْ عَلَيكْ..
غرَّبتكْ الرِّيَاحْ.
(19)
وكأنَّ قطعةً من السَّمَاوَاتِ
ذابَتْ ههناكْ،
وكأنَّ ألفَ فَجْرٍ يتنفَّسْ،
وكأنَّ النَّهرَ يَجرِيْ،
واليَنَابِيعَ تُنَادِيْ.
أبصرتُ ذلكَ كلَّهْ.
(20)
كأنَّكِ مِنْ سكَّةِ العَائِدينْ،
كأنَّكِ إلْفُ البِلادِ الغَرِيبَةْ.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق