في كتابة إمره كيرتس : مأزق الانتماء والتجربة والمصير - زهيـــر الذوادي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 19 أبريل 2020

في كتابة إمره كيرتس : مأزق الانتماء والتجربة والمصير - زهيـــر الذوادي

 لم يكن الوسط العائلي والاجتماعي الذي انتمى إليه إيمره كيرتس (1912) يرشحه ليكون متجذرا في أصوله اليهودية أو شغوفا بالشأن السياسي، بل إن حياته صنعت منه النقيض لما كان عليه أن يكون. وقد قضى إمره كيرتس سنة في معسكر آوشفيتر فانقلب مصيره رأسا على عقب، بل أصبح يعيش حالة “لا مصير”، لأنّ الواقع الذي عرفه يتجاوز كل المعقول. وهو واقع لا واقعي أجبره على أن لا يستند إلى خيال ما في حبك روايته الموسومة بـ”لا مصير” لأن كل ما فيها حقيقة غير معقولة. فقد كانت ذاكرته بمثابة نصّه أو مدونته التي كشف في كل عمل ينجزه جانبا منها متسائلا مثل كل من الكاتب الإيطالي بريمو ليفي والفرنسي روبارت انتالم حول سبب بقائه حيّا والحال أنه كان مرشحا للانقضاء والموت، بل انه كان يعتذر بصمت، مثل الفيلسوف كارل ياسبارس، على بقائه على قيد الحياة والحال أن أغلب أشباهه قد قضوا
فكتابة كيرتس كتابة اعتذار موجّه للآخر وللشبيه، حيث أنه لا يعرف حقيقة هل هو محظوظ لأنه لم يمت أم أنه سيئ الحظ حتى يعيش كل ما وقع له دون أن يكون لكل ذلك مبررات أو أسباب. ولم يفلح كيرتس في توجيه عتاب لأحد لأنه فهم أن الدوامة التي سحقته تتجاوزه وتتجاوز حيثيات وشروط وجوده البسيط. وهو عجز على الفهم وعلى المقاومة وعلى التأقلم، فحاول في ثلاثيته (لا مصير، الرفض، التصفية …) أن يكتب حول ما لا يمكن الكتابة عنه حسب تعبيره، وحول ما لا يمكن وصفه، ولا يمكن تعريفه ولا يمكن تمثيله … ذلك هو الفراغ الوجودي الذي وسمه كيرتس بكلمة لا مصير … وهو المادّة الأساسية لكتابته السردية التي تكرّس الشعور بالضياع لأنها نتاج لضياع فردي بين رفض غير مبرّر للحياة وارتباطات غير إرادية مع الأحياء جعلت منه متهما أو مظنونا فيه. ويشكّل ذلك الضياع رابطا متينا مع فرانز كافكا الذي عشق كيرتس أدبه وإن لم يبادر بترجمته مثلما ترجم لنيتشه وجوزيف روث، وإلياس كانيتي، وهوفمانستال لأنه أحبّ الأدب والموسيقى الألمانيين حبّا غريبا.
أزمة انتماء أم ازمة التزام
بيّن امره كريتس عمق هشاشة الشرط الإنساني التي رسمها بلاز باسكال في وصفه للموقع الذي يحتله الإنسان في الكون وعجزه على التأثير على مصيره ومآله. وكانت تلك النظرة المأساوية لدى كريتس نتيجة تجربة حياتية قسرية لم يجسّد خلالها اختيارا حرّا. فهو كتب في مذكراته (الفندق الأخير) أن النازيين أخذوه بسبب انتمائه لليهودية وأن اليهود أخذوه بسبب يهوديته غير الصحيحة، والحال انه ولد في عائلة تعتنق الديانة اليهودية ولكنها كانت منصهرة تماما في ثقافة بلادها (المجر). وقد حاول كيرتس التخلص من التهم بسبب ديانته فأعلن في محتشد أوشفيتز اعتناقه الإسلام (الذي لم يكن يعرف عنه الشيء الكثير) لكن الأمر لم يكن مجديا مع النازيين، وهو أعاد ذات التجربة بعد انتهاء الحرب وإثر وفاة والده فأصبح عضوا في الحزب الشيوعي لكن عقيدته الشيوعية الجديدة لم تقنع شيوعيي بلاده.
ترك كيرتس الحزب الشيوعي (سنة 1949)، كما طرد من مهنة الصحافة (سنة 1951) بسبب عدم جديته وضعف التزامه بخط الحزب، فانتدب حارسا في سجن.في إطار خدمة الواجب العسكري (كما صورها في روايته “الرفض”)، فجمع بذلك تجربة ثرية وحزينة بين حياة الثكنة وحياة السجن.
لم يكن امره كيرتس يهوديا متجذرا في يهوديته. وهو لم يستوعب أن يكون ذلك الانتماء الديني غير الاختياري سببا في تدمير حياته على يد النازيين وهو طفل مراهق. كما أنه لم يستوعب أن يقتل جداه من أبيه على يد الشيوعيين وأن يقتل جداه من أمه على يد النازيين، وأن يعتبر خائنا من قبل اليهود لأنه كتب أن الشعب الألماني جمهور جدي وصارم في العمل وذو حضارة عالية، وأن يصرّح بأنّ الحياة في معتقل بوخنفالد أرحم من تلك التي عرفها في اوشفيتز. ولم يقبل كيرتس أن يطرد من عمله كصحفي لأنه تفسّح مع خطيبته بدل أن ينجز تغطية لنشاط حزبي أو أن يمنع من الكتابة عن المعتقلات النازية إبان الحكم الشيوعي(1) وعن الحرية كشرط للحياة الإنسانية وعن الحقيقة كأساس للعقائد. فقد اعتبر امره كيرتس في مذكراته أن المبدأ الأساسي في الحياة هو الشرّ والخبث … لذلك لم تكن الحياة بالنسبة إليه وعلى ضوء تجربته سوى إضاعة للوقت لا معنى لها … لأنها تقود إلى “لا مصير” … أكد كيرتس في روايته “أغنية لطفل لن يولد” على رفض إنجاب طفل من المرأة التي كان يحبّها حتى لا يكون سببا في شقاء إنسانا إضافيّا في العالم(1).
يشترك امره كيرتس مع فرانز كافكا (الذي قد يكون أهمّ كاتب بالنسبة إليه) في اعتبار أن الحياة البشريّة مبنية على قاعدة الهشاشة المطلقة التي تشارف على الغرابة والعبثية. إنّ الحياة تجربة محنة بالنسبة لكل من الكاتبين التشيكي والمجري لكن هذا الأخير اختار أن يجعل من تلك المحنة أمرا سرديا وحقيقة تروى حسب عبارة جان فرنسوا شيانتاريتو(3) الذي أكد أن كلّ مدونة كيرتس ترمي إلى جعل الحياة، ذات قابلية إلى السرد. وأن يضفى عليها السرد معقولية. وقد بيّن شيانتاريتو أن كيرتس مزج من خلال سرده أساليب مختلفة فيها السيرة الذاتية، والمتخيل وهو جعل ذلك المزج منساقا عبر الراوي والمؤلف والشخصيّات في وحدة قلقة وغير مستقرّة. وإذا اعتبر غبريال غارسيا ماركيز أنه عاش ليروي، فإنّ امره كيرتس كان يعتقد أنه يروي ليعيش أو ليحيا حياته المذهلة وغير المعقولة لأنها غير عقلانية في ظروفها ومحدّداتها ومآلاتها.
لقد عرف كيرتس المعتقل وهو طفل (14 سنة) مثلما كان الشأن بالنسبة للكاتب الإسباني جورج سمبرون، لكن هذا الأخير تجاوز مضاعفات تلك المسألة بشكل مختلف عن كيرتس إن لم يكن معاكسا تماما. فقد ذهب سمبرون إلى اعتبار أن الخيار الذي فرضته عليه تجربة المحتشد (بوخنفالد) هو أن يختار بين الانغماس في الحياة وبين الكتابة عن الجحيم الذي عرفه صغيرا(4). وقد اختار جورج سمبرون أن يحيا حياته دون الالتفات إلى تجربة المعتقل التي لم يتناولها إلا في خريف عمره. وذلك خيار مناقض تماما لخيار امره كيرتس لأنّ هذا الأخير اعتبر أن تجربة المحتشد (في سن الرابعة عشر) أفقدت الحياة معناها وأسسها وحوّلتها إلى لا حياة أو إلى لا مصير. وهو اختار أن يروي اللاحياة حتى يحيا أو حتى يوجد مع الكائنات، ويتحوّل الراوي على أساس ذلك الاختيار إلى شاهد على حياة تروى. والإقامة في المحتشد (اوشفيتز ثم بوخنفالد) ألغت الحياة بالنسبة إلى كيرتس. فهو حشر في المحتشد لأنه يهودي الأصل، لكنه لم يكن يعي وهو طفل بأنه يهودي وما معنى أن يكون يهوديا مثلما بيّن ذلك في إحدى اعترافاته في كتابه “الملف كـ”(5)، بل إنه ذهب إلى أكثر من ذلك حيث اعتبر أن النازيين هم الذين جعلوه يهوديا لأنهم كانوا في حاجة إلى “اليهود” حتى يكون لوجودهم ولمشروعهم معنى(6). “والمحتشد يقتل روح الطفولة في الأطفال ويجعل الضحايا يشاركون فيما يحدث لهم من مآس فلا ينبغي أن ينجب الضحايا أطفالا إذا ما نجوا من موت المحتشد لأنها نجاة لا نجاة فيها”(7).
ويمكن أن نتفهّم أن يكون امره كيرتس قد وضع مسألة المحتشد وخاصّة محتشد اوشفيتز كعلامة فارقة في تاريخ البشرية خلال القرن العشرين، وأن تكون مسألة المحرقة حارقة لوعيه ولمصيره من ناحية وأن تكون من ناحية أخرى علامة على أن حيوانية البشر حقيقة قائمة، مؤكدا في ذلك على عبثية الحياة ولا معنى القيم العليا للإنسانية. وقد ذهب كيرتس إلى التشهير بما وسمه بـ”براءة الإنسانيين المحترفين …” الذين اعتبروا أن المحرقة والحرب العالمية الثانية شكلتا مناسبة جديدة لانتصار الخير على الشرّ الكامن في البشرية. وإن كان كيرتس يعتبر أنّ تجربة المحرقة ضدّ اليهود وغيرهم (طبعا !!) شكلت إيذانا لبداية “عهد الكارثة” على الصعيد الإنساني في القرن العشرين، فمن الغريب أنه لم يلتفت يوما لعملية تدمير المصير الفلسطيني تخفيفا لذكرى آلام وعذابات اليهود، وهو لم يعارض المشروع الصهيوني وفق ذات القيم التي ناهض بمقتضاها المشروع النازي، وكأن الألم الفلسطيني يحدث في “ضواحي التاريخ” البشري حسب عبارة الشاعر المكسيكي اكتافيو باز.
في خصوص الشأن الفلسطيني لم يكن كيرتس “إنسانيا محترفا” رغم أنّ المأساة الفلسطينية جمعت كلّ عناصر القهر التي وقف إزاءها كيرتس مصدوما لأنها أكدت قدرة البشر على السقوط اللامتناهي. إن “عصر الكارثة” الذي ذكره كيرتس في روايته “الرفض” واعتبر أنه عصر انتصار الشيطان داخل الإنسان وانتصار إرادته على الضمير البشري، يقود إلى التساؤل عن الهوية الحقيقية للإنسان وعن حقيقة مكونات ذاته حيث أنه (أي الإنسان) “لا يتمظهر في أنه قاتل، بل في اعتباره أن المواصفات الضرورية للجريمة تصبح بالنسبة إليه (الإنسان) محدّدة لنظام الكون”(8).
إن انعدام المصير كوجهة نظر حلل من خلالها امره كيرتس مآلات حياة البشر، تستند إلى مقاربة أخرى يتساءل من خلالها عن أي فصيلة من الكائنات ينتمي إليها الإنسان حيث أكد أنه قادر على الأبشع. إن أساس مقولة “لا مصير” هو تساؤل عن هويّة الإنسان وعن جذورها ومآلاتها، وقد بيّن كيرتس في روايته “التصفية” الأبعاد الحقيقية لذلك التساؤل : “وبدون العودة الممكنة إلى مركز الأنا أي إلى اليقين الراسخ والذي لا يقبل الجدل في معناه الحقيقي، فهو يصبح ضائعا تماما. إن الذات بدون الأنا هي الكارثة والشر الحقيقي …”(9).
إن التأمّل في السقوط الذي عرفته البشرية بانخراطها في الحروب والتصفيات العرقية المدمّرة هو الدافع إلى زعزعة أركان الهويّة الذاتيّة وخلخلة مبررات الالتزام لدى كيرتس. فما عسى أن يكون للإنسان (وحتى الشعوب) إذا ما كان ليحيا سوى “حاضر أبديّ”(10) دون ماض ودون مستقبل (أو مصير) ؟ ! ذلك هو أساس الأزمة العميقة التي تكشفها لنا كتابة كيرتس. إن مفهوم “الحاضر الأبديّ” مدمّرة لتاريخية الوجود الإنساني لأنها تلغي التطوّر والتغيير فيه. كما أنها تؤسّس عالم “الكذب الصادق” أي العالم الذي يحتفظ فيه على براءة الاقتناع أن الحياة ممكنة فيه خارج الكارثة(11).
إن الكذب الصادق هو عمل المخدوعين الذين يجهلون حقيقة الحياة. وهم المارون بسرعة وبدون تمعن على شاكلة الذين وسمهم كيرتس بـ”النمل السائح” الذين يتلفون الواقع ومعانيه دون دراية أو وعي وهم الذين لا يسعون إلى التمعّن أو التبيّن ويعيشون دون أن يفهموا أن سلوكهم يشكل تجسيدا آخرا للهشاشة العامّة التي تلف الوجود. وينتقل كيرتس إلى صنف آخر من صناع “الكذب الصادق” ليصبّ جام غضبه الهادئ ضده، وهو الصنف الذي وسمه بشيء من الاحتقار بـ”المثقفين العاديين” “أو “المثقفين المتوسطين”) معتبرا إياهم “دعاة الامتعاض من الروحانية” والذين يكرهون الفكر ويتنكرون للجميل فيجعلون من السطحية الذهنية سدا في وجه الحقيقة والواقع.
وتتضمّن كل القصص التي أوردها امره كيرتس في مؤلفه “العلم الانجليزي”(12) تشهيرا بتفاهة الحياة بعد الحرب العالمية الثانية، وبتراجع الصفات الحميدة لدى لبشرية بسبب تخاذلها أمام الرعب الذي أنتجته أو واكبته أو تعرضت إليه … إنها البشرية التي أصبحت عاجزة عن تقرير مصيرها وبالتالي فإن كل شيء يمكن أن يتراجع إلى الوراء وأن يتطوّر نحو الأسوأ ونحو الأبشع. وعلى أساس ذلك تمثل امره كيرتس الكتابة كعمل إنسان غير مقتنع بما يفعل وبما يريد وبما يحيا، ليخلص في النهاية إلى سؤال : “من أنا ؟ من يعرف من أنا ؟”(13). إنّها أزمة هوية مطلقة وأزمة التزام نهائية … فهو يعلن كراهيته لاسمه وللقبه الذي ورثه عن أجداده ويعلن كراهيته لأجداده لأنهم سبب وجوده(14)، وكأنه يطالب بأن لا يكون. ذلك ما باح به للمرأة التي تحبّه وأرادت أن تنجب منه إبنا ولكنه رفض فهجرته في شقاء صارخ : “لا، لا يمكن أبدا أن أكون أبا أو مصيرا أو إلها لإنسان آخر. لا، يجوز أبدا أن يحصل لطفل ما حدث لي في طفولتي”(15).
ولا يشكل موقف كيرتس من الحياة رفضا لها، بل انه رفض لتجديد الحياة لأن الوجود أصبح بلا مصير. وبالتالي فإن شعور الانتماء وشعور الالتزام ينتفيان لديه بسبب انعدام فائدة كل منهما. ويمكن القول أن مفهوم “لا مصير” هو مفتاح تحليل كل الكتابة السردية عند امره كيرتس، والتي مزج فيها السيرة الذاتية والتخيّل الواقعي مراوحا فيها بين الجملة الطويلة (مونولوغ داخلي) والجمل القصيرة والحادّة قصد التعبير عن “وعي متماوت”(16) يعبّر عن “انهيار وهم : الأنا”(17)، وعن “نفس التسليم باستحالة تغيير الأمور”(18). ذلك هو جوهر أزمة الانتماء التي يستحيل معها الاختيار والالتزام. وقد رسم كيرتس نفسيته في رواية “لا مصير” إثر إلقاء القبض عليه وإرساله إلى المحتشد وهو في سنّ الرابعة عشرة من عمره ودون أن يفهم سبب ذلك : “أذكر فقط أنني خلال كل ذلك كنت أرغب في الضحك (…) بسبب التعجّب والارتباك ومن ذلك الشعور وجدت نفسي بدون تحسّب مسبق في لجة مسرحيّة خياليّة لا أعرف فيها دوري بالضبط”(19)، ذلك هو الشعور الذي لم يفارقه، بل انه أصبح فلسفة وجود بالنسبة إليه ولا همّ للكتابة فيه سوى تثبيته وإثباته.
مآزق الكتابة
كتب امره كيرتس في مذكراته أن الكتابة مرتبطة بالعذاب حيث انها ترسمه وتصفه وتستنطقه وتثبته. لكن نظرة كيرتس للعمل الكتابي تقوده مرّات إلى مآزق أخرى حيث انه رسم صورة لكاتب في قصّة “الباحث عن البصمات” يكون مغميا عليه طوال ثلث القصّة مشيرا إلى صعوبة الكتابة وقساوتها. ففي رواية “لا مصير” التي صاغها كيرتس، ظاهريا، على شاكلة نموذج رواية التكوين، فهي تقودنا في النهاية إلى عكس النموذج الذي أوحت به في البداية حيث إنها تنتهي إلى رسم صورة شخص لا شخصيّة له (ولا مصير له …)، يقرّ معترفا : “عشت مصيرا معيّنا حتى النهاية (…) لا تستطيع أبدا البدء بحياة جديدة، بل إنما نواصل القديمة دائما (…) لو كان هناك مصير، فالحريّة غير ممكنة، (…) لكن لو كانت هناك حريّة فلا يوجد مصير (…) أي أنّنا نحن بذاتنا المصير ذاته …”(20).
ينبع مأزق الكتابة لدى امره كيرتس من الوجود ذاته أي من صميم الحياة وشروطها وعلاقة العائش مع العالم الموجود أو المناخ، والتي يمكن أن تجعل منه إنسانا عاجزا على السعادة (لقد اعتبر كيرتس حصوله على جائزة نوبل 2002 إنها “كارثة السعادة”). وتتجلى مسألة مأزق الكتابة لدى كيرتس في جانب مهمّ من مدونته يخصّ علاقة الكتابة بالحياة في المحتشد. إن عالم المعتقل هو عالم ينعدم فيه التضامن ويفتقر إلى الإنسانية في سلوك (المعتقلين) الذين ليس لهم من هم سوى الهروب من الموت أو تأجيله أو تخفيف عذاباته. وقد اعتبر شالاموف أن النجاة من الموت في المعتقل أصعب من الحياة، وأن الكتابة أصعب من النجاة من الموت، لذلك كتب صاحب “كوليما” أن الموت هو أبسط ما يمكن أن يحدث للسجين في المعتقلات. ويشترك كيرتس مع شالاموف في تمثل الحياة في المعتقل كنهاية للحياة العادية. شالاموف وسمها “بالحياة السلبية” وكيرتس وسمها الحياة “اللامصير …”. لكن شالاموف أراد أن يوثق ما شاهده حتى يعلم البشر بما عاشه، فجاءت كتابته توثيقية وسردية في ذات الحين. أما امره كيرتس فهو مزج بين السيرة الذاتية والسرد الخيالي وهو بيّن في كتابه “ملف كـ” أن المعتقل ليس عالم الشر وذلك لأنه ليس عقلانيا …” مستندا في ذلك إلى إحدى مقولات هيغل. لذلك اعتبر كيرتس أن الأجدى للتشهير بالمحتشدات هو كتابة الرواية أو الشعر.
عالم المعتقل عالم لا عقلاني، هو عالم لا يخالف العقل أو يناقضه بل هو عالم خارج مجال العقل. هو عالم آخر غير بشري ومنتج لكائنات لا بشرية. تخسر ماضيها ومستقبلها بمجرّد اقتحام باب المعتقل حيث ان ذكرى الماضي تفزعها وتوقعات المستقبل تخيفها. لذلك يفزع السجين إذا ما عثر على مرآة مثلما حدث للراوي في رواية “لا مصير”(21) لأنّ المرآة تعيد الربط أو اللقاء مع الواقع. وقد بيّن كيرتس أن عالم المعتقل يدمّر عقل السجين حتى يجعله يحب الاعتقال ويحنّ إليه حيث كتب في رواية “لا مصير …” رغم كل التروّي والعقل والفطنة والتفكير الرشيد، لم أخطئ فهم صوت في داخلي صوت خافت كالرغبة المسروقة وكأنه يخجل من منافاته للعقل ومع ذلك يزداد عناده : أحبّ أن أعيش أكثر في معسكر الاعتقال الجميل هذا …”(22). قد يكون هذا الإحساس غير عقلاني لكنه ممكن بمجرّد أنه وقع. وهذا هو الإشكال الذي واجهه امره كيرتس وحاول تفكيكه بممارسة سردية فردية تمحورت حول جهود الخروج من المآزق التي تعرضها الكتابة حول المعتقل وتحت نظم الاستبداد.
لم يتمثل كيرتس الكتابة كسرد لتجربة آلت إلى تجريد الإنسان من كلّ قدراته على استيعاب مآلات الحياة البشرية على ضوء الكوارث التي ارتكبها البشر والتي زعزعت التوازن النفسي لدى الإنسان (الكاتب) وخيبت انتظاراته. فالكتابة ليست وسيلة لمقاربة الكون كموضوع معرفي، كما أن كيرتس رفض قطعيا أن يكون الإنسان (الكاتب) خاضعا بشكل مطلق للمنطق الاعتباطي الذي يقود محيطه(23). إن المهمّ بالنسبة لكيرتس هو تشريح العلاقة بين الذات وبين الكون. كما أن الكتابة بالنسبة لكيرتس، ليست سيطرة على العالم مثلما أنها ليست نتيجة استلاب حسب تقييم فاليري جيرار(24) لكتابة صاحب “لا مصير” لأنها تخضع إلى مقاربة أخرى مبنية على تفاعل بين تجربة الحياة وتجربة الكتابة. وقد كتب كيرتس مبيّنا ذلك : “ما الذي وضع مع “تجربتي الحياتية” ؟ كيف تلاشت على ورقتي وداخلي ؟ (…) لقد عشتها مرتين. مرّة أولى – بطريقة غير معقولة – في الواقع، ومرّة ثانية – بشكل أكثر واقعية – (…) حينما تذكرتها …”(25). وقد يبدو كيرتس متناقضا في رأيه هذا مع فكرته الأساسية حول انتصاب اللامصير كأفق لوجود البشر بعد تجربة كوارث العالم خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه يدقق مقاربته عبر ملاحظة هامّة يؤكد من خلالها أن اللامصير يصبح واقعا حينما تكون الحياة دون تأثير على واقع الإنسان وروحه وكأنها تجرى خارج ذاته ودون أن يكون هناك بشر ليحيوها”(26).
إن مأزق الكتابة في الأصل هو مأزق الحياة، التي يبرز فيها انفصام بين الأحياء وبين الكون حيث لا يكون لهم فيه حريّة أو قدرة، فحتى الانتحار يصبح غير متاح لهم باعتبار أنهم غير أحرار ولا يتسنى لهم اختيار الانتحار.
الناجون من المحتشدات هم في حقيقة الأمر ناجون من الانتحار. والناجون من النظم الديكتاتورية هم أيضا ناجون من الانتحار … لأنّ الإنسان العادي والسليم بدنيا ومعنويا لا يمكن أن يحيا في المحتشد أو تحت نظام دكتاتوري، لذلك يكون مآله الطبيعي الزوال أو الموت لأن الدكتاتورية والمحتشد يشكلان بنى من أجل موت الإنسان. وإذا لم يحصل الموت فإنّ الإنسان يبقى قادرا على قرار الموت أي الانتحار … وإذا لم يفعل فلأنّه لم يكن حرّا. وبالتالي فهو ينجو من الموت بسبب انعدام حريته. وتذهب إحدى شخصيّات كيرتس في رواية “أغنية لطفل لن يولد” إلى تنظيم “انتحار الذرية” حسب عبارته أي أن يرفض إنجاب أطفال من المرأة التي يعشق لمجرّد الاحتجاج على فساد قواعد الحياة والكون، وانتشار التعاسة فيهما
الحياة في المعتقلات والحياة تحت نظم الاستبداد صفحات سوداء في حياة البشرية. وهي صفحات، سجل وقائعها نقديا، ارتباط الأدب بالتاريخ (وبالسياسة أحيانا …). وقد فشل كيرتس في إقامة ذلك الارتباط كما فشل في إدارته أو قطعه. لذلك فهو عاش المسألة وفق منطق الاعتباط أو العبثية. فبعد نجاته من المعتقل وفشل تجربته الحزبية والصحفية قرّر كيرتس الإقلاع عن “الأتعاب غير المفيدة” و”الانغماس إراديا في سلم حميمية” حتى يتسنى له الوجود. ذلك ما صوره في رواية “الرفض”، التي تضيء جانبا آخر من مأزق الكتابة حيث إنه بيّن أن الكتابة هي نتيجة تحوّل القدرة الإبداعية إلى قدرة تحليلية واستكشافية(27)، وأنّ في ذلك يكمن خطرها على نظم الدكتاتورية : أليس من الخطر بمكان أن يقرّر كل من جورجي كونس وصديقه العامل المثقف أن يكتبا معا كتابا حول أشياء الحياة في بلد اشتراكي وسعيد (نظام كادار في مطلع خمسينات القرن الماضي في المجر) : ذلك ما أراد أن يقوله كيرتس في رواية “الرفض”.
على أساس تجربة كل من الحياة في المعتقل والحياة تحت نظام استبدادي، استخلص كيرتس أن مفهوم الأدب الملتزم لا يعدو أن يكون سوى “تمارين في الكذب” وأن الكتابة ليست سوى هبة من الحياة، ولا تتناول سوى التجارب التي يخوضها الإنسان (والبشر …) دون انتظارات مبرمجة بشكل مسبق.
وكلما ضاقت الحرية عسرت الكتابة. وقد اضطرّ كيرتس بأن يكتب مسرحيات موسيقية (وهو عاشق للموسيقى) حتى يفلت من سطوة الرقابة المجنونة وغير المبررة التي كانت تلاحق الكتاب في المجر خلال الربع الثالث من القرن العشرين. وهو حاول أن يتأقلم مع كل أساليب الكتابة حتى يكون في سلام مع نفسه ومع السلطة. كان أسلوبه المحبّذ في الكتابة قريبا من أسلوب مرسال بروست أو جيمس جويس، لكن كوابيس قناعاته الفلسفية كانت قريبة من كوابيس فرانز كافكا وهي التي منعته من سكينة قناعات ألبار كامو والشاعر ستيفان دو مالارمي كما يبوح بذلك في كل من مذكراته “الفندق الأخير” وفي كتاب “ملف كـ”…
وقد تكون الموسيقى ملجأ لتجاوز العبثية والقهر ولتجاوز مآزق الكتابة. ففي رواية “الرفض” يقول كيرتس أن الرواية تكتب مثل التأليف الموسيقي تعوض فيه الكلمات النغمات التي لا يمكن محاصرتها أو منعها، وهو يضيف في مذكراته أن الموسيقى قيمة ارستقراطية (نيتشة) وأن مصدر إلهامها رباني ولا يكون المؤلف فيها سوى ترجمان له وهو يشجب التعاطي الحديث معها حيث أن المؤدي يطغى على المؤلف الموسيقي.
وفي نهاية الأمر، قد تكون مسألة انعدام الحرية هي الأس الذي ينتصب عليه مأزق الكتابة لدى كيرتس. وهو حاول إخضاع أسلوب كتابته للصعوبات التي واجهها في مستوى ظروف عمله أو في مستوى قناعاته الجمالية والفنية. لم يستعمل كيرتس أسلوب الفلاش باك في كتابته بل إنه اختار نوعا من الكتابة المسترسلة والتي تبدو وكأنها ساذجة (سذاجة شخصيّة الطفل في رواية “لا مصير” مثلا …)، كما أنه اتبع أسلوب تداخل القصص في بعضها في رواية “الرفض” قبل أن يتوخى أسلوب الكتابة اللولبية في رواية “أغنية لطفل لن يولد …”. في كلّ ذلك محاولة للتأقلم مع شروط الوجود القاسية … لم يسقط كيرتس في مطب التحوّل إلى كاتب يروي بشاعة المعتقل، بل أنه أراد أن يكون كاتبا فحسب، وهو عمل على تجاوز المناهج التقليدية للكتابة والسرد، وكان هدفه في ذلك إنتاج نوع جديد من الأدب يمزج السرد بالتأمل في مصير العالم، مثلما دون ذلك : “لعلني بدأت في الكتابة لأنني كنت أريد أن أثأر من العالم (…) في مستوى الخيال بالطبع وبوسائل أدبية، حتى أتملّك الواقع الذي يسيطر عليا بشكل حقيقي للغاية، أردت تحويل موضوعيتي الأبدية إلى ذات فأصبح أنا الذي أصوغ ولست الذي يصاغ. فروايتي، ليست سوى جوابا على عالم الوجود، وهو الجواب الوحيد الذي يتيسّر إلي على ما يبدو، أن أقدمه”(28).
الهوامش
1 –
Imre Kertesz : Le refus. Ed. Arles. Actes Sud. Paris. 2001. P 40.
2 –
Imre Kertesz : Kaddish pour l’enfant qui ne naître pas. Ed. Arles. Actes Sud. Paris. 1995.
3 –
Jean François Chiantaretoo : l’altérité interne ou l’épreuve de soi. A propos de l’œuvre de Imre Kertesz. In : Le coq-héron – 2008 / 1 . Paris. P 18-25.
4 –
Jorge Semprun : L’écriture ou la vie. Ed. Gallimard. Paris. 1981.
5 –
Imre Kertesz : Le dossier K . Ed Actes Sud. Paris 2008.
وهو مجموعة لاستجوابات وحوارات صحفيّة أجريت مع المؤلف طوال سنوات عديدة.
6 – المصدر السابق.
7 –
Imre Kertesz : Kaddish …. مصدر مذكور ص 146-147
8 –
Imre Kertesz : Le refus … op.cit. P 51.
9 –
Imre Kertesz : liquidation. Ed. Arles. Actes Sud. Paris. 2004. P 125.
10 –
Imre Kertesz : liquidation … op.cit. P 125.
11 –
Imre Kertesz : Le drapeau anglais. Ed. Actes Sud. Paris. 2005. P 32.
12 – المصدر السابق : ص 86-93.
13 –
Imre Kertesz : Un autre. Ed. Actes Sud. Paris. 1997. P 66-67.
14 –
Imre Kertesz : Liquidation … op.cit. P 36.
15 –
Imre Kertesz : Kaddish … op.cit. P 119.
16 –
Imre Kertesz : Kaddish … op.cit. P 153.
17 –
Imre Kertesz : le refus … op.cit. P 69.
18 – امره كيرتس : لا مصير. ترجمة : ثائر صالح. دار المدى. دمشق. 2005. ص 58.
19 – المصدر السابق. ص 61.
20 – امره كيرتس : لا مصير … مصدر مذكور ص 238.
21 – المصدر السابق. ص 220.
22 – المصدر السابق : ص 177.
23 –
Imre Kertesz : Un autre chronique d’une métamorphose. Ed. Actes Sud. Paris. 1999. P 96.
24 –
Valerie Gerard : Expérience vécue, expérience écrite. Sur l’écriture de Imre Kertesz. In. Tumultes. 2011/1-N°36. P 146.
25 –
Imre Kertesz : Le refus … op.cit. P 70.
26 –
Imre Kertesz : Kaddish … p 76-77.
27 –
Imre Kertesz : Le dossier K … op.cit. p 81.
28 –
Imre Kertesz : l’Holocauste, comme culture. Ed. Actes Sud. Paris. 2009. P 88.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق