جلال الدّين الرّومي صوفي مسلمٌ وُلد
في رِحاب الإسلام، ونشأ في بيت صوفيّ حسبما تروي المصادر، وإذا لم يكن هناك تأكيد
تاريخي حول انتساب والده إلى الطريقة الكبروية لصاحبها (نجم الدّين كُبرى صانع
الأولياء) إلاّ أن والده بما ترك من آثار (كتاب المعارف) يتأكد لنا أنه كان صوفيًا
راقيًا وله نظرته الخاصة وطريقه الروحاني، الذي ورّثه من بعده لتلاميذ، كان منهم
(برهان الدين محقق ترمذي) الذي خلف والده في تربية جلال الدين تربية صوفية.
شأن الطلبة المتأهلين حصّل الرّومي
المعارف الدينية، كما كان قد حصّل المعارف الروحية على يد أب صوفي وشيخ عارف، ثم
تابع على يد محقق ترمذي العارف أيضًا، وبعد سنوات لا أيام كما يظن المريد اليوم،
اعتمده شيخه سالكًا صادقًا وصوفيًّا متحققًا، ورأى فيه تمام الإتقان، وإذا كانت
صفة الأسد لا تطلق إلا على الملك والشجاع، فقد قرن أستاذه بينه وبين الرومي قبل أن
يرحل عن قونيه معللاً ذلك بقوله: لا يجتمع أسدان في مكان واحد!.
ومن الرحلة البدنية والعقلية والصوفية
الطُرقية بدأت الرحلة الروحية التي لا تنتهي وفُتحت أبواب السماوات السبع على
مدينة وإن قلّت فيها أعداد البشر إلاّ أن من فيها تحسدهم الملائكة لنقائهم وجمالهم
وصدقهم مع أنفسهم، التقى الرّومي شمس الدين والدليل الذي سيُحرق من أجل أن ينير
الرومي العوالم، وكان لقاؤه غير مرتّب أو مطلوب، فقد كان الرومي يسير في رحلته
التي نجد لها نظائر في سير السابقين (زاهد – شيخ يعلّم – خطيب منبر- صوفيٌّ يربّي
مريدين).
ثم حدث ما غيّر مجرى حياته، وجعل العالم
أجمع بعد وفاته ينشغل بما قدّمه للإنسان. أشرق شمس على الرومي أو تلألأت روح
الرومي من النظام والحركة الاعتيادية إلى الانبساط والتلقائية، ومن الوِردِ
المرتّب إلى الذّكر الدائم، ومن الصورة إلى المعنى، ومن الحكاية إلى أن أصبح هو
بطل الحكاية، فإذا كنّا قد اعتدنا أن نقرأ آية القرآن في الأعلى ومن بعدها التأويل
والتفسير والمعنى، فإن الآية هنا أمست فعلاً وحياة وعالم بأسره يمكنك إن تعرّفت
عليه أن تتعرّف على الكتب السماوية وحكايات الأولين وحكم السابقين أنبياء وفلاسفة
وسالكين وغير ذلك. وإذا كان الحلاج قد صُلب وقتل بحد الشريعة، فإن الرّومي الذي
عاش ما قاله الحلاج وأكثر من ذلك انتقل من الظاهرة الصوفية السابقة التي قدّست
الأسماء والأفكار ليسجّل فكرته الخاصة، التي لم تقطع مع السابق أو تتماهى فيه
ناسية عيش حياتها وأنها بذاتها حقّ ينبغي أن يتحقق، فتلاوة الذكّر لا تُنسي
المذكور، والحضور مع المذكور لا يلغي الذاكر.
وكما كان النبي قرآنا ًيمشي على الأرض،
حاول الرومي أن يحيا ذلك لا ترديدًا لكلمات فحسب، أو النقل عن السابق بالصورة
والحرف دون أن يستوعب المعنى أو يستوعبه النصّ دون معنى! فكانت آثار الرومي آثار
رجلٍ حيّ ترى أثر الفقه الإسلامي فيها، وكما ترى الظلال الأعجمية في حروف آيات
القرآن ترى من آثار اليونان في مثنوي مولانا، وكما تسمع عن عيسى الذي جعله الله
آية من آيات الجمال ترى في المثنوي مريم الطاهرة التي تحمل في بطنها عيسى الذي لم
نسمع عنه يومًا أنه ضرب أو شتم أو أهان أحد، وكما تسمع عن أم موسى في القران،
يتردد ذكر موسى وفرعون مئات المرّات في المثنوي. وإذا قيل لك أن العشق والحب
محصّلته الشهوة التي تتشابك فيها أغصان العنب وبعد الاشتباك تنتهي المحبة، فإن
الرّومي يعلّمك أن العشق أكبر مما تراه العين وتسمعه الأذن أو يعبّر عنه آلاف
البشر من حولك.
وإذا كانت المرأة موضوعًا اليوم للوصول أو
الانتهازية أو الطعن أو السب أو البحث لها عن قبر أو ميدان أو شاغلاً من مشاغل أهل
العمامة أو أدعياء البحث عن الحقوق وهم لا يعرفون من الحق سوى رسم الحاء والقاف،
فإن المرأة في المثنوي باب من أبواب الجنّة خالقة لا مخلوقة فحسب، كما كانت في
حياة نبيّه الأكرم حاضنة مُدثّرة عاطفة حنون قوية صاحبة رأي. وإذا كان بعض
الفقهاء انشغل بالأمرد والصبي الجميل وجعلوه خلف ظهورهم أو في أواخر مجلسهم، فإن
الرومي لم ير في صُنع الله ما يدين صاحبه أو يجعله مختصرًا في قولة مسكين غلب جسده
على عقله فأنساه احترام الإنسان وتبجيل صُنع الله، وكما بدأ أحدهم من ظاهر القول
وأدان الرومي وانتقل من الإدانة إلى تقديس الرومي، كذلك ترى الرومي لم يقنع بما
قاله الفقيه عن السلطان أنه ظلّ في الأرض، بل رأى الإنسان أيًّا كانت صورته أو
جنسه أو ديانته صورة الله في الأرض.
قدّم الرّومي للإنسان اليوم صورة من صور
المسلم الصادق مع نفسه، الذي إن قرأ استفاد، وإن أكل ما حرم غيره من الطعام، وإن
قصده محتاج وجد عنده الملاذ، وإن خالفه في معتقده أحد بسط فراشه له وأجلسه بإكبار
واحترام وما حرمه الحديث، بل عنّف من نظر إليه باعتبار جنسه وديانته وعرّفه أن
القلوب تتشابه في المقصد وإن اختلفت الألسنة والتعابير.قدّم الرومي للبشر احترامًا
للفنون فالنفخ في الصور الذي قرأه في القرآن علّمه أن النفخ في الناي ليس من أنغام
الشيطان، ومن يستمع إلى الكائنات ويتذكّر ما قاله ربّه عن تسبيحها وأنينها لا بد
أن يخشع لذكرها، فالناي إنسان آخر وليس كما هو صامت في صورة العصا.
قدّم الرومي رقصًا لا يكتفي بكشف الصدر أو
الفخذ أو التركيز على إثارة الشهوات، بل نقل حركة الجسد من الانغماس في الصورة
والطين إلى العلو والارتفاع عن هموم البشر والمساكين، فالدرويش الراقص في الأصل لا
اليوم رقص وجدًا وطربًا من ذكر المحبوب دار أو سقط وقف أو استمر هو لا يدرك ما
يفعل ولا يُسأل عنه كما كان بالأمس أثر الوجد والذوق كلمًا سُمي بالشطح، أصبح هنا
حركة تؤدي إلى فقد الفائت وتلتحق بالحق!.
حوّل الرّومي الشعر من موضوع للمدح
والثناء والهجاء والتغني إلى قالب صبّ فيه الرموز والإشارات، وفصّل فيه المجمل من
الكلمات، ورتّل فيه الآيات، واستعاد آلاف الحكم والأحاديث وما خلا نبض الحياة من
كلّ كلمة مما قال، فلم يراع نظامًا لقوالب حُددت سلفًا ولم يشغله الترتيب والتنسيق
عن سرد الأفكار، فهو ليس أعظم شاعر وإن قال عنه أحد الأعاجم أنه أعظم من شكسبير
لكن يمكن أن تقول إنه إنسان صوفي متدين سجّل في آلاف الأبيات من الشعر ما استعصى
على غيره أن يسجله بهذا الشكل.
إن أردت أن تتعرف على صورة من صور القرآن
الكريم، فاقرأ المثنوي المعنوي الذي اعتبره صاحبه أصل (أصل) أصول الدين، واعتبره
محبّوه من بعده بهذا الكتاب فريدًا في تاريخ البشر وقالوا عنه: إنه ليس نبيًّا
لكنه أوتي الكتاب، وبعضهم اعتبر كتابه هذا تمجيدًا ومبالغة: (قرآن العجم) ولم
يمنعهم هذا من تبجيل كتاب الله وتعظيمه، ولا يزالون يتدبرون الكتاب. -إن أردت أن
تتعرف على صورة الشيخ الذي تلقّى عن المشايخ يعظك ويذكّرك بآيات الله وتتعرّف منه على
إشارات ومعاني دينية راقية، فاقرأ في كتاب الرومي (فيه ما فيه) فهو من كتبه
النثرية المفيدة في التعرّف على عالمه. وكذلك مجالسه. -إن أردت أن تتعرف على
علاقته بالسلاطين والحكّام فاقرأ رسائله. -إن أردت أن تتعرف على قلبه وروحه
الجميلة التي ذابت عشقًا فاقرأ في غزلياته التي سماها باسم حبيبه وبابه إلى الوصول
شمس تبريزي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق