العالمُ يمنحنا هديّة على مقاس أنانيّتنا ! - وليد أحمد الفرشيشي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 13 مايو 2020

العالمُ يمنحنا هديّة على مقاس أنانيّتنا ! - وليد أحمد الفرشيشي


هي مجموعة من "المستحثّات" ألقاها العالمُ في وجوهنا وسارع إلى الإختباء، منبوذًا ووحيدًا، وراء حدود بلدانه المغلقة.. لا ريب في الأمر.
 نحنُ مقبلون على مشهدٍ تتصاغرُ كلّ قناعاتنا السّابقة أمامهُ: مشهدُ مشكّلٌ من حرائق تلتهمُ عقائدنا القديمة حول علويّة الفرد والحريّات والحقوق والاقتصاد والعولمة والرقمنة على كلّ ما سواها من قيمٍ. في لحظة تاريخيّة وسطى، قرّرَ العالمُ، أو الطبيعة، أو القدرُ (لك أن تختار ما يناسبك)، أنّ زمن مشاهدة فظاعتنا كبشر قد ولّى إلى غير رجعة، وأنّ المستقبل، مستقبلنا نحنُ، قد انسحب تاركا الفراغَ لوحشٍ مخيف خلنا أننا تجاوزنا- كمجموعة (على الأقل هذا ما توحي به العولمة) -حضورهُ في ذاكرتنا الجمعيّة، ألا وهو صراعنا مع البقاء. 
تبدو الصورة غير بطوليّة بالمرة. إذ كيف لعالم تشكل على صورة أنانيّتنا- أن يخيب ظنّهُ فينا، ومن ثمّة ينسحب بخبثٍ غير مشرّفٍ، بعد أن حشرنا في الزاوية تمامًا، مجرّدين من أسلحة كانت ستمنحنا على الأقل فرصة جلب فيروس- كورونا- إلى طاولة التفاوض.
 لم يعتذر العالمُ منّا، ولم يجهّزنا كما ينبغي لهذه المحاكمة، محاكمة قناعتنا وتصوّراتنا، بل كان كريمًا جدًّا وهو يفتحُ عيوننا على عيوبنا الرّاقدة تحت أطنانٍ من المعارف المزيّفة. ذلك أننا في الطريق، أسقطنا كلّ الأسئلة الحقيقيّة، وتركناها تنامُ تحت رماد تمثّلاتنا كبشر للقوة، إلى أن جاءت الجائحة، وأغلقت القوس.
أجل، لقد أسقطنا في الطريق، أسئلة إنسانية كبرى، تطرحُ موضوعات علاقة الفرد بالمجموعة، والحقّ بالواجب، والسياسة بالأخلاق، والعلم بالنفعيّة، والاقتصاد بالتضامن، أسئلة كان بوسعها أن ترينا، بشيء من الشماتة، كم هو العالمُ فقيرٌ حقّا وفارغ منّا نحنُ البشر.
ومن ثمّة يعودُ الفضلُ للجائحة في تذكيرنا للتوّ بأنّ كل ما فعلناه لم يكن يومًا بحثا عن الرّفاه والقوّة، وإنّما تأجيلُ سقوطنا في فخاخنا الداخليّة، فخاخُ الفردانيّة، والتوحشّ، والاستهلاك، والربح السّريع، والحقوق الوهميّة المموّلة من لوبيات"الشوبيز"، والغربة، والقتل من أجل المصلحة العامّة، والاستعباد، والدّجل، والقرابين التي تقدّم باسم العلم والمعرفة. 
| ’’في الطريق، أسقطنا كلّ الأسئلة الحقيقيّة، وتركناها تنامُ‘‘|
لقد فتحت الجائحة أعيننا على "البديهيّات" التي نسيناها، أو خلنا أننا نسيناها. مثلاً، لطالما اعتبرنا "المجتمع" فكرة خبيثة، تستهدفُ حريّاتنا الفرديّة، وترتكبُ الحكومات باسمها كلّ الفظاعات التي تسعى إلى تنميطنا وتدجيننا. وها هي كورونا تقولُ لنا، بابتسامةٍ ساخرة، لا بقاءَ للفرد خارج المجموعة. ثمّة درسٌ تعلّمناهُ حقّا. كورونا تحبُّ اصطيادنا فرادى. ولكنّها تعجزُ عن اختراقنا كمجموعة، متلاحمة ومتراصة الصفوف.
 وإذ كانت غريزةُ البقاء هي اسمنتُ هذه اللحمة، فإنّ التضامنُ هو خطّ مواجهتنا الأوّل، تضامنٌ يحبّذ الحياة في المدن العامرة على الرقاد في المقابر الجماعيّة.
ومشاعرُ الانتماء إلى المجموعة هي ما يعزّزُ علويّة الواجب على الحقوق. فإذا لم يكن واجبنا اليوم أن نتخلّى طواعية عن جزء من حقوقنا الفرديّة (كحريّة التنقل مثلاً) لصالح المجموعة، فما الفائدة إذن من الحديث عن "الحقّ" في الحياة. ثمّة درسٌ آخر تعلمناهُ حقّا. كورونا تحبُّ أنانيّتنا المغلّفة بهوسنا المفرط بالحقوق. ومن ثمّة، تخاف تعلّقنا بواجباتنا. وما العزلُ "الإراديّ" إلاّ تنفيسٌ عن عقدنا السابقة، فنحنُ بالنهاية لسنا محور الكونِ كأفراد، بل جوهرهُ كمجموعةٍ.
والإحساسُ بالواجب هو ما يدفعنا ضرورةً إلى إيلاء المعارف والعلوم الأهميّة التي تستحقّ. لاحظ جيّدًا إدمان زعامات العالم والمنظمات الدولية وكبرى مراكز الضغط ووسائل الإعلام على التقارير العلمية التي تصدرها منظمة الصحة العالمية. لاحظ جيّدًا إدماننا على متابعة كلّ أخبار العلماء والمخابر بحثًا عن لقاح أو ابتكار جديد. لاحظ إدماننا على سباق العقول ومناكفاتها العلميّة. فللمرّة الأولى تقريبًا، يتوحدُّ الجميع حول "العلم"، علمٌ يفسّرُ ويشرحُ ويعمل مبضعهُ في المعاني لا في الأرباح الفلكية لمخابر الأدوية. ثمّة درسٌ ثالث تعلمناهُ حقّا.  كورونا تعشقُ مصّاصي الدماء العالميين، مصنعي الأدوية أولئك الذين حوّلونا إلى فئران تجارب للرفع من أرصدتهم البنكيّة وأسهمهم في كبريات البورصات العالميّة. لكنّها تخشى علم البقاء، أي ذلك العلم الذي يستحثّهُ صراعنا المرير مع عدوّ خفيّ، وحاصد أرواح لا يعتذرُ من أحدٍ.
وإقبالنا على العلوم والمعارف، هو في حدّ ذاتهِ، ضربة قاتلة للسياسة. سياسة عديمة الأخلاق. سياسة تحرّكها لوبيات المال والأعمال. سياسة سلاّبة للعقول وجلاّبة للفظاعات. لاحظ جيّدًا ما يحدثُ في أوروبّا. ثمة شعوبٌ خالت أنّها قفزت بتضامنها فيما بينها إلى مرتبة الأخوّة الإنسانية، لتفاجأ بتخلي الأخ عن أخيه. ثمّة شعوبٍ قرّر ساستها التضحية بكبار السنّ لا لشيء ولكن لأنّهم عديمي الذوق، إذ كيف لهم أن يشيخوا ويستمتعوا بجرايات تقاعدهم التي تستنزفُ مقدّرات حكوماتهم. لذا تتغيّرُ الأولويات ويصبحُ "القتلُ الرّحيم" لحظة وقوفٍ اضطرارية أمام عبث الحسابات الاقتصاديّة. ثمّة درسٌ أخير تعلمناهُ حقّا. كورونا تكرهُ التضامنَ وكبار السنّ، عديمي الذوق أولئك، لأنّها تخشى أنبل ما في الإنسان، التضحية والإيثار والأخوّة.
لقد أدرنا ظهورنا إلى قيمنا الكبرى وها هو العالمُ يمنحنا، دونما اعتذار، هديّتهُ الأخيرة: جائحة تهدّدُ بابتلاع كلّ شيء ومسح كلّ العار الذي خلّفناهُ على سطحهِ. 
الرعبُ...العزلة...الموتُ البطيء....
هي تلك الأحافير الخارجة من شقوق غفلتنا كبشر. لكنها تضعنا بالمقابل أمام أشدّ أسئلتنا إلحاحًا: متى سنمسكُ كبشر، إخوة في الإنسانيّة، بزمام المبادرة التاريخية ونقولُ "لا" مدوّية لكلّ عاداتنا التي أبعدتنا عن رحم أمّنا الأرض؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق