لا يستخدم مصطلح الصوفية خارج السياق الديني، فهو يقرأ دائماً كنسق تديّن
ينتمي إلى ديانة بعينها، وإنْ كان يشتغل من خارج إطارها الرسمي المفروض من قبل
المؤسسة. لكن من زاوية منهجية، يمكن تقديم الصوفية كطريقة ذاتية «باطنية» في
المعرفة، تعتمد على آليات إدراك فوق حسية، أعني لا تقتصر في مقاربة الوعي بالوجود
على أدوات العقل المنطقي بمفهومه السائد المكتسب من تقاليد الفلسفة اليونانية،
والأرسطية خصوصاً.
من هذه الزاوية تكون العلاقة بين الصوفية والدين علاقة عام بخاص، والدين ينطوي
في حده الأصلي على شق صوفي، من حيث هو يقوم نظرياً على فكرة الغيب التي تعني
الإيمان بما لا يُرى ولا تُدرك معرفته بالحواس.
لكن من هذه الزاوية يمكن الحديث عن صوفية لا دينية أو حتى ملحدة، كما في تيارات الحركة السوريالية التي ظهرت في الغرب أوائل القرن الماضي، في سياق الانقلاب الواسع على الحداثة بمفرداتها الموروثة من قاموس التنوير، وفي مقدمتها مفردة العقلانية.
لكن من هذه الزاوية يمكن الحديث عن صوفية لا دينية أو حتى ملحدة، كما في تيارات الحركة السوريالية التي ظهرت في الغرب أوائل القرن الماضي، في سياق الانقلاب الواسع على الحداثة بمفرداتها الموروثة من قاموس التنوير، وفي مقدمتها مفردة العقلانية.
«إدراكات» سوريالية
بالنسبة للسوريالية، رؤية الإنسان العقلاني للعالم قاصرة وسطحية. يمثل العقل حجاباً يمنع الإنسان من إدراك ذاته وإدراك الأشياء على حقيقتها. لم تنصِّب السوريالية «القلب» في موقع البديل المقابل للعقل كما فعل روسو، بل أطلقت العنان للجانب الحيوي من الإنسان بكامل طاقاته الغريزية، كي تشترك مع الوجدان في عملية الإدراك والتعبير عن الذات والعالم، واعترفت بمشروعية المعرفة الناجمة عن العبث والجنون والعصاب لقدرتها على كشف الحياة النفسية في أصالتها الحقيقية التي لا تظهر على سطح الواقع الخارجي.
الحقيقة تكمن في الباطن، والذي يمنع من ظهورها هو العقل «ذلك الأحمق الذي يدنّس باحتراسه الواقعي كل شيء» كما وصفه كريفيل، وهو بحسب أندريه ماسو، أسوأ عدو للروح «بالنسبة إلينا نحن السورياليين الشبان سنة 1924، كان العقل هو العاهر الكبير، وكنا نرى أن الديكارتيين والفولتيريين وآخرين من موظفي الذهن لم يستخدموه إلا للمحافظة على القيم المستقرة والميتة».
هذه اللغة الحياوية التي تكشف عن نفس نيتشوي، تلتقي مع لغة ابن عربي وهو يروج لمشروعية الذوق الكشفي: «فمن أراد العثور على هذه الحكمة.. فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته وليكن حيواناً مطلقاً، حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين. فحينئذ يعلم أن قد تحقق بحيوانيته. وعلامته علامتان، الواحدة هذا الكشف.. والعلامة الثانية الخرس بحيث أنه لو أراد النطق بما رآه لم يقدر». (فصوص الحكم، ص 186).
النزول عن حكم العقل إلى الشهوة يرمي هنا إلى تحويل الإنسان إلى طاقة «نزوع» خالصة، بحيث يدرك، كما الحيوان، بالتلقي المباشر، إدراكاً بيولوجياً فجاً، فهو يُحصّل المعرفة، أو تحصل فيه المعرفة، بشكل سلبي تماماً. لا فاعلية فيه للإرادة العاقلة (النزوع إرادة غير عاقلة). وهذه هي العلامة الأولى للكشف الصوفي كما يشرح ابن عربي في الفصوص. وهي الحالة التي سيرصدها وليم جيمس كواحدة من الخصائص الأربع المميزة للتجربة الصوفية تحت عنوان «الانفعالية المحضة» أو «السلبية الخالصة» Absolute Passivity، حيث يشعر الإنسان بأنه مأخوذ بقوة «إملاء» عليا لا يستطيع دفعها.
أما العلامة الثانية من علامات الكشف فهي الخرس، أي العجز عن وصف التجربة أو التعبير عنها في لغة مفهومة أو في لغة مقبولة. وهي الحالة التي سيصفها جيمس بعدم القابلية للوصف «ineffability».
لكن النزول عن العقل هنا يبدو كفعل إرادي مقصود يستبقي شقاً من الوعي، ويتوقت بوقت التجربة. وهو المنهج نفسه الذي اصطنعته السوريالية بأدوات ولأغراض مختلفة: التغييب الإرادي للإرادة العاقلة، بهدف الوصول إلى مناطق معرفية أبعد من حدود المعقول الضيقة «حيث توجد الطاقات الضائعة للحياة النفسية». تكلم بريتون في البيان السوريالي الأول (1924) عن «اكتشاف آليات الإبداع العفوي، واللجوء إلى الآلية اللاإرادية بإملاء من اللاشعور».
وإضافة إلى سرد الأحلام، والتنويم المغناطيسي، جرى اعتماد فكرة «الكتابة الآلية» أي الخارجة عن سلطة الإرادة. فهي بعبارة بريتون «تتيح إنتاج القول الذي يتشكل في لا شعورنا كل ثانية ولا ندركه.. ما يستدعي التحرر من الرقابة الاجتماعية والرقابة الأخلاقية، كي نحسن أن نفهم أنفسنا».
هنا في التجربة السوريالية، ينتج عن تغييب العقل نوع من «الكشف» لكنه لا يسفر، كما في الكشف الصوفي، عن قوة إملاء عليا خارجية، بل يسفر عن اللاشعور الداخلي، حيث توجد أسرار الحياة النفسية. موضوع المعرفة هو الإنسان، وهي تصدر عنه، أي من داخل العالم.
بالنسبة للسوريالية، رؤية الإنسان العقلاني للعالم قاصرة وسطحية. يمثل العقل حجاباً يمنع الإنسان من إدراك ذاته وإدراك الأشياء على حقيقتها. لم تنصِّب السوريالية «القلب» في موقع البديل المقابل للعقل كما فعل روسو، بل أطلقت العنان للجانب الحيوي من الإنسان بكامل طاقاته الغريزية، كي تشترك مع الوجدان في عملية الإدراك والتعبير عن الذات والعالم، واعترفت بمشروعية المعرفة الناجمة عن العبث والجنون والعصاب لقدرتها على كشف الحياة النفسية في أصالتها الحقيقية التي لا تظهر على سطح الواقع الخارجي.
الحقيقة تكمن في الباطن، والذي يمنع من ظهورها هو العقل «ذلك الأحمق الذي يدنّس باحتراسه الواقعي كل شيء» كما وصفه كريفيل، وهو بحسب أندريه ماسو، أسوأ عدو للروح «بالنسبة إلينا نحن السورياليين الشبان سنة 1924، كان العقل هو العاهر الكبير، وكنا نرى أن الديكارتيين والفولتيريين وآخرين من موظفي الذهن لم يستخدموه إلا للمحافظة على القيم المستقرة والميتة».
هذه اللغة الحياوية التي تكشف عن نفس نيتشوي، تلتقي مع لغة ابن عربي وهو يروج لمشروعية الذوق الكشفي: «فمن أراد العثور على هذه الحكمة.. فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته وليكن حيواناً مطلقاً، حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين. فحينئذ يعلم أن قد تحقق بحيوانيته. وعلامته علامتان، الواحدة هذا الكشف.. والعلامة الثانية الخرس بحيث أنه لو أراد النطق بما رآه لم يقدر». (فصوص الحكم، ص 186).
النزول عن حكم العقل إلى الشهوة يرمي هنا إلى تحويل الإنسان إلى طاقة «نزوع» خالصة، بحيث يدرك، كما الحيوان، بالتلقي المباشر، إدراكاً بيولوجياً فجاً، فهو يُحصّل المعرفة، أو تحصل فيه المعرفة، بشكل سلبي تماماً. لا فاعلية فيه للإرادة العاقلة (النزوع إرادة غير عاقلة). وهذه هي العلامة الأولى للكشف الصوفي كما يشرح ابن عربي في الفصوص. وهي الحالة التي سيرصدها وليم جيمس كواحدة من الخصائص الأربع المميزة للتجربة الصوفية تحت عنوان «الانفعالية المحضة» أو «السلبية الخالصة» Absolute Passivity، حيث يشعر الإنسان بأنه مأخوذ بقوة «إملاء» عليا لا يستطيع دفعها.
أما العلامة الثانية من علامات الكشف فهي الخرس، أي العجز عن وصف التجربة أو التعبير عنها في لغة مفهومة أو في لغة مقبولة. وهي الحالة التي سيصفها جيمس بعدم القابلية للوصف «ineffability».
لكن النزول عن العقل هنا يبدو كفعل إرادي مقصود يستبقي شقاً من الوعي، ويتوقت بوقت التجربة. وهو المنهج نفسه الذي اصطنعته السوريالية بأدوات ولأغراض مختلفة: التغييب الإرادي للإرادة العاقلة، بهدف الوصول إلى مناطق معرفية أبعد من حدود المعقول الضيقة «حيث توجد الطاقات الضائعة للحياة النفسية». تكلم بريتون في البيان السوريالي الأول (1924) عن «اكتشاف آليات الإبداع العفوي، واللجوء إلى الآلية اللاإرادية بإملاء من اللاشعور».
وإضافة إلى سرد الأحلام، والتنويم المغناطيسي، جرى اعتماد فكرة «الكتابة الآلية» أي الخارجة عن سلطة الإرادة. فهي بعبارة بريتون «تتيح إنتاج القول الذي يتشكل في لا شعورنا كل ثانية ولا ندركه.. ما يستدعي التحرر من الرقابة الاجتماعية والرقابة الأخلاقية، كي نحسن أن نفهم أنفسنا».
هنا في التجربة السوريالية، ينتج عن تغييب العقل نوع من «الكشف» لكنه لا يسفر، كما في الكشف الصوفي، عن قوة إملاء عليا خارجية، بل يسفر عن اللاشعور الداخلي، حيث توجد أسرار الحياة النفسية. موضوع المعرفة هو الإنسان، وهي تصدر عنه، أي من داخل العالم.
«كشوفات»
ابن عربي
في التجربة الصوفية، حيث يسفر الكشف عن التجلي الإلهي، تحصل معرفة موهوبة قادمة من خارج العالم، وكما يشرح ابن عربي «فإن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده لا يستقل العقل بإدراكها، ولكن يقبلها فلا يقوم عليها دليل ولا برهان. ثم إن هذه الأوصاف الذاتية لا يمكن العبارة عنها لأنها خارجة عن التمثيل والقياس، فإنه ليس كمثله شيء. فكل عقل لم يكشف له من هذه المعرفة شيء يسأل عقلاً آخر» (الفتوحات المكية، ج1).
المعنى المضمر هنا أن العقل لا يزال حاضراً في عملية المعرفة، لكنه صار يدرك أنه «لا يستقل بإدراكها» لأنها وراء حدوده. وهو «يقبلها دون أن يقوم عليها دليل ولا برهان»، ما يسمح بالقول بأن العلوم الكشفية تدخل، حسب ابن عربي، في إطار المعرفة العقلية، أو القول بأن العقل يستوعب فكرة غياب الدليل والبرهان ويظل عقلاً. ويبدو أن للعقل في هذا النص مفهوم الآلية أو الأداة المحايدة التي تستوعب الفكر، وليس مفهوم الفكر ذاته بما هو مبادئ أولية.
بوجه عام، نفهم من مجمل نصوص ابن عربي أنه لم يشتغل على نفي العقل كإطار عام، بل على ضبط حدوده، في سياق الدفاع عن مشروعية المعرفة الذوقية. وفي هذا السياق، فهو يضع حدود القدرة العقلية مقابل حدود القدرة الإلهية «فإن للعقول حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة، لا من حيث ما هي قابلة. فتقول في الأمر الذي يستحيل عقلاً قد لا يستحيل نسبة إلهية، كما نقول فيما يجوز عقلاً قد يستحيل نسبة إلهية». (الفتوحات، ج1).
يجوز التنبيه هنا إلى أن الوصول إلى فهم ابن عربي في هذه المسألة كما في معظم مسائله، عملية مركبة محفوفة بصعوبات منهجية وموضوعية، ترجع إلى نصه المبالغ الطول والتنوع، والذي يتسم بالتداخل والغموض: يصدر فكر ابن عربي عن استيهامات باطنية، تبدو وكأنها تخاطب ذاتها، رغم عينه المفتوحة على مخاطب عقلاني، نص ابن عربي سلسلة من المعالجات الجزئية والمتقطعة، تضع تجربته الذاتية في إطار الغرض التنظيري للتصوف وتخلط بينهما، تبدو التجربة الذاتية لاحقة، أعني تطبيقاً واعياً للنظرية. وهو بغض النظر عما إذا كان يتعمد الإغراب، لا يحفل بالتناسق الكلي ولا بوضوح العبارة، ونشعر أحياناً بأننا حيال نص سوريالي ناتج عن تجربة كتابة لا إرادية، وهو ما صرح به ابن عربي بالفعل وهو يشير إلى تجربته في كتاب الفتوحات: «ما كتبت منه حرفاً إلا عن إملاء إلهي وإلقاء رباني، أو نفث روحاني في روع كياني. هذا جملة الأمر مع كوننا لسنا برسل مشرعين ولا أنبياء مكلفين».
في التجربة الصوفية، حيث يسفر الكشف عن التجلي الإلهي، تحصل معرفة موهوبة قادمة من خارج العالم، وكما يشرح ابن عربي «فإن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده لا يستقل العقل بإدراكها، ولكن يقبلها فلا يقوم عليها دليل ولا برهان. ثم إن هذه الأوصاف الذاتية لا يمكن العبارة عنها لأنها خارجة عن التمثيل والقياس، فإنه ليس كمثله شيء. فكل عقل لم يكشف له من هذه المعرفة شيء يسأل عقلاً آخر» (الفتوحات المكية، ج1).
المعنى المضمر هنا أن العقل لا يزال حاضراً في عملية المعرفة، لكنه صار يدرك أنه «لا يستقل بإدراكها» لأنها وراء حدوده. وهو «يقبلها دون أن يقوم عليها دليل ولا برهان»، ما يسمح بالقول بأن العلوم الكشفية تدخل، حسب ابن عربي، في إطار المعرفة العقلية، أو القول بأن العقل يستوعب فكرة غياب الدليل والبرهان ويظل عقلاً. ويبدو أن للعقل في هذا النص مفهوم الآلية أو الأداة المحايدة التي تستوعب الفكر، وليس مفهوم الفكر ذاته بما هو مبادئ أولية.
بوجه عام، نفهم من مجمل نصوص ابن عربي أنه لم يشتغل على نفي العقل كإطار عام، بل على ضبط حدوده، في سياق الدفاع عن مشروعية المعرفة الذوقية. وفي هذا السياق، فهو يضع حدود القدرة العقلية مقابل حدود القدرة الإلهية «فإن للعقول حداً تقف عنده من حيث ما هي مفكرة، لا من حيث ما هي قابلة. فتقول في الأمر الذي يستحيل عقلاً قد لا يستحيل نسبة إلهية، كما نقول فيما يجوز عقلاً قد يستحيل نسبة إلهية». (الفتوحات، ج1).
يجوز التنبيه هنا إلى أن الوصول إلى فهم ابن عربي في هذه المسألة كما في معظم مسائله، عملية مركبة محفوفة بصعوبات منهجية وموضوعية، ترجع إلى نصه المبالغ الطول والتنوع، والذي يتسم بالتداخل والغموض: يصدر فكر ابن عربي عن استيهامات باطنية، تبدو وكأنها تخاطب ذاتها، رغم عينه المفتوحة على مخاطب عقلاني، نص ابن عربي سلسلة من المعالجات الجزئية والمتقطعة، تضع تجربته الذاتية في إطار الغرض التنظيري للتصوف وتخلط بينهما، تبدو التجربة الذاتية لاحقة، أعني تطبيقاً واعياً للنظرية. وهو بغض النظر عما إذا كان يتعمد الإغراب، لا يحفل بالتناسق الكلي ولا بوضوح العبارة، ونشعر أحياناً بأننا حيال نص سوريالي ناتج عن تجربة كتابة لا إرادية، وهو ما صرح به ابن عربي بالفعل وهو يشير إلى تجربته في كتاب الفتوحات: «ما كتبت منه حرفاً إلا عن إملاء إلهي وإلقاء رباني، أو نفث روحاني في روع كياني. هذا جملة الأمر مع كوننا لسنا برسل مشرعين ولا أنبياء مكلفين».
«تأويلية» فيلون
في الواقع، لم يكن الدين مجرد فكرة تعبّر عن تأمل داخلي لذات فردية، بل اتخذ من البداية وعلى الدوام صيغة جماعية ظاهرة هي صيغة «الديانة» التي فرضت نفسها في مواجهة الذوات كنسق حصري للتدين، من خلال مدونة كلانية مكتوبة، تحرسها مؤسسة ذات خصائص سلطوية. جرى تكريس المدونة كشريعة مطلقة «موضوعية» أي ذات وجه تفسيري واحد، وطغى الجانب الشمولي السلطوي للديانة على الجانب الفردي «الذاتي» الذي ينزع بطبيعته للتعدد والتغيير.
تاريخياً، حضر الدين «كواقعة» أو كظاهرة جمعية، قبل التنظير له «كمفهوم» تبرز فيه فاعلية الذات المفكرة، ونتيجة لذلك كانت نزوعات التفكير الطبيعية لدى الذات الفردية في منطقة الدين، تصطدم بسلطة المؤسسة التي كانت على الدوام جزءاً من سلطة الدولة أو قريبة منها.
كان الدين تكرس كظاهرة مدونة قبل تبلور التقاليد العقلية السقراطية التي بلغت أوجها مع أرسطو. وفي غضون الطور التدويني المبكر لم يظهر لدى الوعي الديني مشكل تناقض مع نسق عقلي معياري مفترض. بدأ هذا المشكل في الظهور بشكل واضح في القرن الأول المسيحي، بسبب الاحتكاك المباشر مع الفلسفة اليونانية السكندرية، خصوصاً عبر فيلون الذي قدم أول محاولة «تأويلية» ذات طابع كليِّ بغرض التوفيق بين العقل ومقولات الكتاب العبري الذي سيصبح العهد القديم.
بدءاً من فيلون سيلتقي العقل اليوناني مع احتياجات التأصيل الديني في السياقات التوحيدية الثلاثة؛ سيقدم العقل خدمات تنظيرية واسعة في مجال الجدل والانشقاق الداخلي (خصوصاً المسيحية الناشئة)، وسيكتسب مكانته الوظيفية «المحسوبة» داخل المدونة المدرسية من خلال اللاهوت (الكلام)، مع بقاء التحفظ التقليدي للتيارات النقلية المحافظة التي ظلت تهيمن على توجهات المؤسسة.
في السياق اليهودي لم تنتقل تأويلية فيلون إلى المدونة الكلاسيكية، (نواة اليهودية الأرثوذكسية اللاحقة) التي صارت، وقد توافرت على وعي نسبي بالمشكل، أكثر تحفزاً للدفاع عن موقفها النقلي مقابل العقل.
في المسيحية، بدا اللقاء مع العقل اليوناني طبيعياً، بنسب نشأتها كانشقاق لاهوتي في سياق هيللني مباشر. حضرت الفلسفة في المناقشات التأسيسية للآباء من خلال اللغتين اليونانية واللاتينية، ثم تكرس حضورها مع القديس أوغسطين وطوال العصور الوسطى تحت إشراف المؤسسة.
ظلت المؤسسة تحافظ على صلاحيتها النقلية (احتكار سلطة تفسير الكتاب)، إلا أنها أسبغت على النقل مفهوماً أوسع من مفهوم الكتاب. فبما هي تشتغل تحت رعاية الروح القدس، تبقى الكنيسة موصولة بالوحي، وتمتلك من ثم سلطة نقلية مستمرة ذات طابع إنشائي، هي سلطة التقليد الرسولي الموروثة التي تكافئ سلطة الكتاب. ورغم النتائج السلبية الفادحة التي نتجت عن ممارسة هذه السلطة، إلا أنها منحت الكنيسة مساحة واسعة للمناورة والتراجع المحسوب أمام ضغوط التطور «العقلي» الكاسح التي فرضتها الحداثة.
في الواقع، لم يكن الدين مجرد فكرة تعبّر عن تأمل داخلي لذات فردية، بل اتخذ من البداية وعلى الدوام صيغة جماعية ظاهرة هي صيغة «الديانة» التي فرضت نفسها في مواجهة الذوات كنسق حصري للتدين، من خلال مدونة كلانية مكتوبة، تحرسها مؤسسة ذات خصائص سلطوية. جرى تكريس المدونة كشريعة مطلقة «موضوعية» أي ذات وجه تفسيري واحد، وطغى الجانب الشمولي السلطوي للديانة على الجانب الفردي «الذاتي» الذي ينزع بطبيعته للتعدد والتغيير.
تاريخياً، حضر الدين «كواقعة» أو كظاهرة جمعية، قبل التنظير له «كمفهوم» تبرز فيه فاعلية الذات المفكرة، ونتيجة لذلك كانت نزوعات التفكير الطبيعية لدى الذات الفردية في منطقة الدين، تصطدم بسلطة المؤسسة التي كانت على الدوام جزءاً من سلطة الدولة أو قريبة منها.
كان الدين تكرس كظاهرة مدونة قبل تبلور التقاليد العقلية السقراطية التي بلغت أوجها مع أرسطو. وفي غضون الطور التدويني المبكر لم يظهر لدى الوعي الديني مشكل تناقض مع نسق عقلي معياري مفترض. بدأ هذا المشكل في الظهور بشكل واضح في القرن الأول المسيحي، بسبب الاحتكاك المباشر مع الفلسفة اليونانية السكندرية، خصوصاً عبر فيلون الذي قدم أول محاولة «تأويلية» ذات طابع كليِّ بغرض التوفيق بين العقل ومقولات الكتاب العبري الذي سيصبح العهد القديم.
بدءاً من فيلون سيلتقي العقل اليوناني مع احتياجات التأصيل الديني في السياقات التوحيدية الثلاثة؛ سيقدم العقل خدمات تنظيرية واسعة في مجال الجدل والانشقاق الداخلي (خصوصاً المسيحية الناشئة)، وسيكتسب مكانته الوظيفية «المحسوبة» داخل المدونة المدرسية من خلال اللاهوت (الكلام)، مع بقاء التحفظ التقليدي للتيارات النقلية المحافظة التي ظلت تهيمن على توجهات المؤسسة.
في السياق اليهودي لم تنتقل تأويلية فيلون إلى المدونة الكلاسيكية، (نواة اليهودية الأرثوذكسية اللاحقة) التي صارت، وقد توافرت على وعي نسبي بالمشكل، أكثر تحفزاً للدفاع عن موقفها النقلي مقابل العقل.
في المسيحية، بدا اللقاء مع العقل اليوناني طبيعياً، بنسب نشأتها كانشقاق لاهوتي في سياق هيللني مباشر. حضرت الفلسفة في المناقشات التأسيسية للآباء من خلال اللغتين اليونانية واللاتينية، ثم تكرس حضورها مع القديس أوغسطين وطوال العصور الوسطى تحت إشراف المؤسسة.
ظلت المؤسسة تحافظ على صلاحيتها النقلية (احتكار سلطة تفسير الكتاب)، إلا أنها أسبغت على النقل مفهوماً أوسع من مفهوم الكتاب. فبما هي تشتغل تحت رعاية الروح القدس، تبقى الكنيسة موصولة بالوحي، وتمتلك من ثم سلطة نقلية مستمرة ذات طابع إنشائي، هي سلطة التقليد الرسولي الموروثة التي تكافئ سلطة الكتاب. ورغم النتائج السلبية الفادحة التي نتجت عن ممارسة هذه السلطة، إلا أنها منحت الكنيسة مساحة واسعة للمناورة والتراجع المحسوب أمام ضغوط التطور «العقلي» الكاسح التي فرضتها الحداثة.
تنظيرات ونصوص
في الإسلام، جرى الالتقاء مع العقل اليوناني من خلال الكلام والفلسفة، وأيضاً من خلال التصوف الذي صار يتخذ منحى فلسفياً:
أدت تنظيرات الشافعي الأصولية إلى تثبيت مدرسة الحديث ذات الأفق النقلي الضيق، وأحرز الفقه هيمنة واضحة على الكلام داخل المدونة الرسمية، وبوجه عام ظلت المدونة تحتفظ بتوجسها المضمر تجاه العقل بما هو مقابل لسلطة النص الحرفية.
وعبرت عن ذلك من خلال موقفها المتشدد حيال الفلسفة والتصوف، من حيث إن الفلسفة لا تبدأ النظر في الإلهيات من نقطة نصية، والتصوف لا يقف فيها عند حدود السقف النصي، وأيضاً من خلال موقفها المبكر من الكلام الذي اتسعت له بالكاد في صيغته الأشعرية، بما هي صيغة توفيقية تتناغم مع وسطية الشافعي التي تنزع إلى النقلية.
في الإسلام، جرى الالتقاء مع العقل اليوناني من خلال الكلام والفلسفة، وأيضاً من خلال التصوف الذي صار يتخذ منحى فلسفياً:
أدت تنظيرات الشافعي الأصولية إلى تثبيت مدرسة الحديث ذات الأفق النقلي الضيق، وأحرز الفقه هيمنة واضحة على الكلام داخل المدونة الرسمية، وبوجه عام ظلت المدونة تحتفظ بتوجسها المضمر تجاه العقل بما هو مقابل لسلطة النص الحرفية.
وعبرت عن ذلك من خلال موقفها المتشدد حيال الفلسفة والتصوف، من حيث إن الفلسفة لا تبدأ النظر في الإلهيات من نقطة نصية، والتصوف لا يقف فيها عند حدود السقف النصي، وأيضاً من خلال موقفها المبكر من الكلام الذي اتسعت له بالكاد في صيغته الأشعرية، بما هي صيغة توفيقية تتناغم مع وسطية الشافعي التي تنزع إلى النقلية.
تقليدياً، تهيمن المدونة الرسمية على الديانة، لكنها لا تستغرق المساحة الكلية
للثقافة الدينية التي تكونت بشكل تدريجي كي تتسع لتيارات وممارسة تشتغل على هامش
المدونة أو تفكر من خارجها.
تتبلور هذه التيارات تلقائياً في الأجيال التالية على التأسيس كرد فعل طبيعي لنزوعات التفكير المتنوعة بالضرورة، والتي صار يستفزها حضور «نص» مكتوب، في مناخات سياسية اجتماعية مختلفة عن مناخات النص المبكرة: استطاع الكلام (الأشعري خصوصاً) تسكين نفسه بصعوبة داخل المدونة تحت إشراف الفقه. وهو الموقع الذي ظلت الفلسفة بعيدة عنه. أما التصوف فاختلط بسهولة مع تيارات التفكير الفلسفي القريبة من شواغل الكلام، ونجح في التسرب تدريجياً إلى شرائح التدين الشعبي (العامي) الأقرب بطبيعتها إلى منابع الوعي الروحي المباشر، حتى استطاع بأشكال من التوفيق التأويلي (نموذج الغزالي) أن يستقر قريباً من أطراف الدائرة السنية.
ما يجمع هذه التيارات الثلاثة هو نزوع نشط للتفكر من خارج النسق النقلي، أي من خارج سلطة المؤسسة التي تفرض نفسها كمفسر حصري للنص؛ الفلسفة لا تبدأ النظر في الموضوع الإلهي من نقطة نصية. والكلام، وإنْ كان يبدأ من النص ويظل تحت سقفه، إلا أن اشتغاله عليه بمنهج عقلي يفضي إلى تفسيرات مخالفة. أما التصوف فقد يبدأ من نقطة النص، ولكنه يتجاوزها إلى مسافات أبعد من الكلام، بسبب منهجه الذاتي الباطني الذي لا يستبعد العقل.
هنا يظهر الخلاف بين المدونة الرسمية والتصوف، كمشكل سلطة، فالنقل في نهاية التحليل سلطة، طالما أن المؤسسة تفرض تفسيراً أحادياً.
تتبلور هذه التيارات تلقائياً في الأجيال التالية على التأسيس كرد فعل طبيعي لنزوعات التفكير المتنوعة بالضرورة، والتي صار يستفزها حضور «نص» مكتوب، في مناخات سياسية اجتماعية مختلفة عن مناخات النص المبكرة: استطاع الكلام (الأشعري خصوصاً) تسكين نفسه بصعوبة داخل المدونة تحت إشراف الفقه. وهو الموقع الذي ظلت الفلسفة بعيدة عنه. أما التصوف فاختلط بسهولة مع تيارات التفكير الفلسفي القريبة من شواغل الكلام، ونجح في التسرب تدريجياً إلى شرائح التدين الشعبي (العامي) الأقرب بطبيعتها إلى منابع الوعي الروحي المباشر، حتى استطاع بأشكال من التوفيق التأويلي (نموذج الغزالي) أن يستقر قريباً من أطراف الدائرة السنية.
ما يجمع هذه التيارات الثلاثة هو نزوع نشط للتفكر من خارج النسق النقلي، أي من خارج سلطة المؤسسة التي تفرض نفسها كمفسر حصري للنص؛ الفلسفة لا تبدأ النظر في الموضوع الإلهي من نقطة نصية. والكلام، وإنْ كان يبدأ من النص ويظل تحت سقفه، إلا أن اشتغاله عليه بمنهج عقلي يفضي إلى تفسيرات مخالفة. أما التصوف فقد يبدأ من نقطة النص، ولكنه يتجاوزها إلى مسافات أبعد من الكلام، بسبب منهجه الذاتي الباطني الذي لا يستبعد العقل.
هنا يظهر الخلاف بين المدونة الرسمية والتصوف، كمشكل سلطة، فالنقل في نهاية التحليل سلطة، طالما أن المؤسسة تفرض تفسيراً أحادياً.
تعتيمات يهودية
جرى التعتيم عمداً من قبل المؤسسة اليهودية على أعمال فيلون الهللينية، ولم يكتب لها البقاء إلا بسبب التوسع في توظيفها في المناقشات المسيحية المبكرة. (في السياق اليهودي بوجه خاص يلزم التنبيه إلى خاصية التعقيد البالغ لبنية الديانة التي تعرضت لعمليات تغيّر عميقة عبر العصور، إلى حد استحالة الحديث عن «اليهودية ككل» من ناحية، واستحالة الحديث عن «اليهودية عينها» عند اليهود والآخرين من ناحية ثانية، كما يشرح إسرائيل شاحاك في كتابه المثير «الديانة اليهودية»).
جرى التعتيم عمداً من قبل المؤسسة اليهودية على أعمال فيلون الهللينية، ولم يكتب لها البقاء إلا بسبب التوسع في توظيفها في المناقشات المسيحية المبكرة. (في السياق اليهودي بوجه خاص يلزم التنبيه إلى خاصية التعقيد البالغ لبنية الديانة التي تعرضت لعمليات تغيّر عميقة عبر العصور، إلى حد استحالة الحديث عن «اليهودية ككل» من ناحية، واستحالة الحديث عن «اليهودية عينها» عند اليهود والآخرين من ناحية ثانية، كما يشرح إسرائيل شاحاك في كتابه المثير «الديانة اليهودية»).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق