في
كتابه تاريخ الكذب يطرح جاك دريدا سؤاله المشروع عن من يمكنه أن يروي لنا تاريخا
للكذب؟ وهل يمكننا أن نسلم بأنّ للكذب تاريخاً؟ إذا كان الكذب يفترض الابتكار
المتعمد للتخيلات فليس كل التخيلات والخرافات كاذبة. والشيء ذاته ينطبق على الأدب.
يستعين دريدا بمقالين هما: ( السياسة والحقيقة) ل(حنة آرندت) نُشر لأول مرة بالانجليزية سنة 1967 في مجلة نيويوركر بعد تغطيتها لمحاكمة ايخمان التي صدرت في كتاب (ايخمان في القدس) إذ تعرضت حنة آرندت لسيل من الادعاءات والتلفيقات والأكاذيب التي قيلت بحقها. وفي سنة 1971 أصدرت مقالتها (السياسة والكذب) والذي تطرقت فيه إلى الخداع والتصريحات السياسية الكاذبة والتي حولت فجوة المصداقية إلى هوة استدعت من حنة طرح امكانية الكذب على الذات والتدقيق في هذه الإمكانية المتطورة للكذب, لاسيما ما يتعلق بالعلاقة بين الكذب والسياسة وتاريخ هذه العلاقة والإسهام الذي قدمته في تغذية الكذب وتطوير أساليبه.
لايمكن أن يكون للكذب تاريخ مستقل وجوهري ,تلك الإشارة المهمة التي يتفق عليها كل من (حنة آرندت, وجاك دريدا ) فالتاريخ زاخر بالكذب وهذا الكذب ينتج عن تجارب مشتركة لا عن خصائص جوهرية فيه وفي التطور الذي شهده تاريخ الكذب فإن العصر الحاضر يعد عصر انتصارات الكذب وبلوغ اكتماله وحدوده المطلقة. ولا يقصد بذلك بلوغ نهاية الحدود المعرفية المطلقة للتاريخ , بل التاريخ وقد تحوّل إلى كذب مطلق.
هذة النظرة التاريخانية للكذب عند آرندت تجد لها ما يعاكسها عند كانط, فرفضه المطلق للكذب ووجوب قول الحقيقة والصدق مهما كلف الأمر, وجوبا قطعيا ومطلقا ولا وجود لما يدعى بالكذب النفعي, كما لا وجود لمحتوي تاريخي للكذب. وتوجهي بالكلام للآخرين يفترض مسبقا قول الصدق لهم. ويرتبط ذلك بالقداسة وصية العقل عند كانط: كن صادقا وفيا حسن النية في تصريحاتك دائما.
قد يتحول الكذب إلى أولوية في الأنظمة الشمولية وهو ما أشار إليه (كواري) فتلك الأنظمة لا تهتم بالحقيقة الموضوعية حتى فيما يُزعم بأنّه علمي ويقومون بتغيير الحاضر, ولا يكتفون بذلك إذ يعملون على تغيير الماضي وتحريف التاريخ وفق أهوائهم, ولكن قدرتهم على التغيير في الماضي تلك تجعلهم وكأنهم الأقدر من الإله غير القادر على تغيير الماضي..! وقدرتهم تلك يمكن أن نرى تجلياتها في كتب التاريخ المدرسية فهي المكان المناسب لإشباع الأجيال بالأكاذيب.
فالكاذب هو الذي يدعي قول الحقيقة الموعودة وبقدر ما تلجأ المؤسسات والأجهزة السياسية للكذب فإن محبة الحقيقة الموعودة تصبح شعارا لبلاغيتها, ومما يساعدهم على إخفاء هذه الأكاذيب هو إمكانيتهم في إنتاج (علم السر أو التشفير السياسي) الذي يمنحهم القدرة على تجاوز التناقضات وتفاديها إلى الدرجة التي لا يظهر معها أية تناقضات فيما يسوقوه من أكاذيب في واضحة النهار.
مما يجب الاهتمام والتركيز عليه هو قدرة الإعلام والتطورات البنيوية التي شهدها إذ أصبح من المقدور إعادة إنتاج الحدث والتاريخ خلال ثوان معدودة من البث, و تحولت الصورة والإيقونة من تمثيل الشيء إلى الحلول مكان الشيء نفسه.
ويمكننا أن نضيف مع جاك دريدا ما يمكننا تسميته ب(إعادة اللعب بالماضي و الإرشيف) إذ يحترف الإعلام والتكنولوجية المتقدمة جدا عملية مونتاج الأحداث وتقطيعها ودمجها بما يتلاءم والحكاية أو السردية المراد تصديرها للمتلقي, التاريخ وقد تحوّل إلى صناعة, ينتجون التاريخ الذي يريدونه ثم نستهلكه بدورنا..
ينتهي دريدا في ختام كتابه إلى الاعتقاد بأن تاريخا للكذب كما أرادته حنة آرندت لا يمكن له أن يكون بتلك الجدية التي طرحتها أو فكرتها آرندت لأربع أسباب:
1.تصرّف حنة آرندت وكواري في مناقشتهما فعل الكذب يأتي وكأنهما يتحدثان عن شيء محدد وثابت اكتملت معرفتهما به بشكل لا يدفعهما إلى تفصيل تحليلي لهذا الفعل أي فعل الكذب. فمثلا لا تفرق ارندت بين (الشهود) و(الشهادة) ولا بالفروق الدقيقة بينهما وبين البرهان والإرشيف, ومن ثم لا تميز بين (حقيقة الوقائع) و(الحقيقة العقلانية) مما يضفي مزيدا من الغموض على الحدود الفاصلة بين تلك المفاهيم وتوظيفها في خطاب الكذب أو تأريخه.
2.إن الكذب يفترض وجود الآخر المكذوب عليه عن وعي وقصد(الآخر المستغل أو العدو), وهو ما يتطابق والتحديد المنطقي الكلاسيكي الصارم للمفاهيم, ومن ثم فلا يوجد وفق هذا المنطق ما أسمته حنة آرندت (الكذب على الذات) .
3.مما يحول دون ظهور تاريخ للكذب هو( التفاؤل الدائم) إذ أكدت حنة آرندت على بنية الاستقرار للحقيقة التي تبقى بعد أن يزول الكذب والتخيلات, لذا يعتقد دريدا أن إقصاء إمكانية الاستمرارية للكذب لا تعبر عن تجربتنا للكذب التي تختبر إمكانية بقاء الكذب واستمراريته. يعني ذلك أن حنة ارندت قد جعلت من تاريخ الكذب الحدوث السطحي العارض لتجلي الحقيقة ومما يجب أخذه في الاعتبار التأثير المسيحي الديني لتمسيح كثير من المفاهيم اليونانية, والأثر ذاته في عصر الأنوار ولكن بطابع دنيوي كإدانة كانط للكذب واعتباره انحطاط مطلق.
4.إن تاريخا للكذب أو نظرية له إنما ذلك في طور النشأة وليسا أمرا ثانويا أو طارئا فلا يمكن الركون إلى ما أوردته آرندت بالانتصار النهائي للحقيقة.
ومما يجب التأكيد عليه أنه لولا وجود هذا الانحراف وبقائه, وبعض التحولات في تاريخ الوعي واللاوعي لولا ذلك لكان من الصعب الحديث عن تاريخ للكذب أو نظرية له ملاصقة لخصائصه الداخلية ولكن يبقى من الصعب البرهنة الدقيقة على وجود تاريخ للكذب أو ضرورته في حال كان وجوده ممكنا.
يستعين دريدا بمقالين هما: ( السياسة والحقيقة) ل(حنة آرندت) نُشر لأول مرة بالانجليزية سنة 1967 في مجلة نيويوركر بعد تغطيتها لمحاكمة ايخمان التي صدرت في كتاب (ايخمان في القدس) إذ تعرضت حنة آرندت لسيل من الادعاءات والتلفيقات والأكاذيب التي قيلت بحقها. وفي سنة 1971 أصدرت مقالتها (السياسة والكذب) والذي تطرقت فيه إلى الخداع والتصريحات السياسية الكاذبة والتي حولت فجوة المصداقية إلى هوة استدعت من حنة طرح امكانية الكذب على الذات والتدقيق في هذه الإمكانية المتطورة للكذب, لاسيما ما يتعلق بالعلاقة بين الكذب والسياسة وتاريخ هذه العلاقة والإسهام الذي قدمته في تغذية الكذب وتطوير أساليبه.
لايمكن أن يكون للكذب تاريخ مستقل وجوهري ,تلك الإشارة المهمة التي يتفق عليها كل من (حنة آرندت, وجاك دريدا ) فالتاريخ زاخر بالكذب وهذا الكذب ينتج عن تجارب مشتركة لا عن خصائص جوهرية فيه وفي التطور الذي شهده تاريخ الكذب فإن العصر الحاضر يعد عصر انتصارات الكذب وبلوغ اكتماله وحدوده المطلقة. ولا يقصد بذلك بلوغ نهاية الحدود المعرفية المطلقة للتاريخ , بل التاريخ وقد تحوّل إلى كذب مطلق.
هذة النظرة التاريخانية للكذب عند آرندت تجد لها ما يعاكسها عند كانط, فرفضه المطلق للكذب ووجوب قول الحقيقة والصدق مهما كلف الأمر, وجوبا قطعيا ومطلقا ولا وجود لما يدعى بالكذب النفعي, كما لا وجود لمحتوي تاريخي للكذب. وتوجهي بالكلام للآخرين يفترض مسبقا قول الصدق لهم. ويرتبط ذلك بالقداسة وصية العقل عند كانط: كن صادقا وفيا حسن النية في تصريحاتك دائما.
قد يتحول الكذب إلى أولوية في الأنظمة الشمولية وهو ما أشار إليه (كواري) فتلك الأنظمة لا تهتم بالحقيقة الموضوعية حتى فيما يُزعم بأنّه علمي ويقومون بتغيير الحاضر, ولا يكتفون بذلك إذ يعملون على تغيير الماضي وتحريف التاريخ وفق أهوائهم, ولكن قدرتهم على التغيير في الماضي تلك تجعلهم وكأنهم الأقدر من الإله غير القادر على تغيير الماضي..! وقدرتهم تلك يمكن أن نرى تجلياتها في كتب التاريخ المدرسية فهي المكان المناسب لإشباع الأجيال بالأكاذيب.
فالكاذب هو الذي يدعي قول الحقيقة الموعودة وبقدر ما تلجأ المؤسسات والأجهزة السياسية للكذب فإن محبة الحقيقة الموعودة تصبح شعارا لبلاغيتها, ومما يساعدهم على إخفاء هذه الأكاذيب هو إمكانيتهم في إنتاج (علم السر أو التشفير السياسي) الذي يمنحهم القدرة على تجاوز التناقضات وتفاديها إلى الدرجة التي لا يظهر معها أية تناقضات فيما يسوقوه من أكاذيب في واضحة النهار.
مما يجب الاهتمام والتركيز عليه هو قدرة الإعلام والتطورات البنيوية التي شهدها إذ أصبح من المقدور إعادة إنتاج الحدث والتاريخ خلال ثوان معدودة من البث, و تحولت الصورة والإيقونة من تمثيل الشيء إلى الحلول مكان الشيء نفسه.
ويمكننا أن نضيف مع جاك دريدا ما يمكننا تسميته ب(إعادة اللعب بالماضي و الإرشيف) إذ يحترف الإعلام والتكنولوجية المتقدمة جدا عملية مونتاج الأحداث وتقطيعها ودمجها بما يتلاءم والحكاية أو السردية المراد تصديرها للمتلقي, التاريخ وقد تحوّل إلى صناعة, ينتجون التاريخ الذي يريدونه ثم نستهلكه بدورنا..
ينتهي دريدا في ختام كتابه إلى الاعتقاد بأن تاريخا للكذب كما أرادته حنة آرندت لا يمكن له أن يكون بتلك الجدية التي طرحتها أو فكرتها آرندت لأربع أسباب:
1.تصرّف حنة آرندت وكواري في مناقشتهما فعل الكذب يأتي وكأنهما يتحدثان عن شيء محدد وثابت اكتملت معرفتهما به بشكل لا يدفعهما إلى تفصيل تحليلي لهذا الفعل أي فعل الكذب. فمثلا لا تفرق ارندت بين (الشهود) و(الشهادة) ولا بالفروق الدقيقة بينهما وبين البرهان والإرشيف, ومن ثم لا تميز بين (حقيقة الوقائع) و(الحقيقة العقلانية) مما يضفي مزيدا من الغموض على الحدود الفاصلة بين تلك المفاهيم وتوظيفها في خطاب الكذب أو تأريخه.
2.إن الكذب يفترض وجود الآخر المكذوب عليه عن وعي وقصد(الآخر المستغل أو العدو), وهو ما يتطابق والتحديد المنطقي الكلاسيكي الصارم للمفاهيم, ومن ثم فلا يوجد وفق هذا المنطق ما أسمته حنة آرندت (الكذب على الذات) .
3.مما يحول دون ظهور تاريخ للكذب هو( التفاؤل الدائم) إذ أكدت حنة آرندت على بنية الاستقرار للحقيقة التي تبقى بعد أن يزول الكذب والتخيلات, لذا يعتقد دريدا أن إقصاء إمكانية الاستمرارية للكذب لا تعبر عن تجربتنا للكذب التي تختبر إمكانية بقاء الكذب واستمراريته. يعني ذلك أن حنة ارندت قد جعلت من تاريخ الكذب الحدوث السطحي العارض لتجلي الحقيقة ومما يجب أخذه في الاعتبار التأثير المسيحي الديني لتمسيح كثير من المفاهيم اليونانية, والأثر ذاته في عصر الأنوار ولكن بطابع دنيوي كإدانة كانط للكذب واعتباره انحطاط مطلق.
4.إن تاريخا للكذب أو نظرية له إنما ذلك في طور النشأة وليسا أمرا ثانويا أو طارئا فلا يمكن الركون إلى ما أوردته آرندت بالانتصار النهائي للحقيقة.
ومما يجب التأكيد عليه أنه لولا وجود هذا الانحراف وبقائه, وبعض التحولات في تاريخ الوعي واللاوعي لولا ذلك لكان من الصعب الحديث عن تاريخ للكذب أو نظرية له ملاصقة لخصائصه الداخلية ولكن يبقى من الصعب البرهنة الدقيقة على وجود تاريخ للكذب أو ضرورته في حال كان وجوده ممكنا.
——————————————————–
المصادر:
تاريخ الكذب جاك دريدا, تر: رشيد بازي, المركز الثقافي(بيروت), ط1, 2016.
المصادر:
تاريخ الكذب جاك دريدا, تر: رشيد بازي, المركز الثقافي(بيروت), ط1, 2016.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق