بعد ما بعد الحداثة: دلالة المعنى وغرابة المصطلح - نصير فليح - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 8 يونيو 2020

بعد ما بعد الحداثة: دلالة المعنى وغرابة المصطلح - نصير فليح



اذا كانت “ما بعد الحداثة” تشير الى العقود الاخيرة التي تم فيها تخطي سمات “الحداثة” ثقافيا، فما الذي يمكن ان يشير اليه مصطلح من قبيل “بعد ما بعد الحداثة”؟ هل هي عودة الى “الحداثة” مرة اخرى، ام هي عودة لبعض السمات في الحداثة دون غيرها؟ وما هي سمات هذه المرحلة التي يمكن تسميتها “بعد ما بعد الحداثة”؟
في كتابه (بعد ما بعد الحداثة)، الصادر عام 2012، يقول جيفري نيالون: ان هذا المصطلح او التعبير، أي “بعد ما بعد الحداثة”، يبدو “قبيحا” لجهة صياغته اللغوية، بل انه “قبيح بصورة جلية، فهو غير ملائم، وصعب في القراءة والنطق، كما انه فضفاض بشكل لا معنى له. فماذا يمكن ان تعني البادئة المزدوجة (بعد ما بعد) (post-post)؟ اننا بالقدر الذي افترضنا فيه ان ما بعد الحداثة كانت تشير الى نهاية عبادة مرحلة الحداثة لكل ما هو جديد، فإننا اذا تكلمنا بصرامة، لا شيء يمكن ان يأتي بعد “ما بعد الحداثة”، لأنها تشير أصلا الى النهاية التي لا نهاية لها في كل شيء (الرسم، الفلسفة، الرواية، الحب، السخرية، وكل شيء”).
وهذه وجهة نظر موفقة، وفعلا مصطلح “بعد ما بعد الحداثة” “قبيح” لفظيا في العربية ايضا لا في الانكليزية فقط، بسبب البادئة (بعد ما بعد) التي توحي بالتكلف والرطانة.
لكنه يعود بعد ذلك ليبين مسوغات اختياره لهذا المصطلح، باعتباره الاكثر ملائمة من سواه. وهو اذ يبين ان سمات المرحلة الجديدة لا تمثل سوى تطويرا داخليا لرؤى وتصورات ما بعد الحداثة، فانه يؤكد انها لا تعني بالضرورة تخطيا او تجاوزا لمفاهيمها، وهو يشير الى ان هذه التطورات الداخلية اخذت تتشكل بشكل يجعلها تختلف عما تم التعارف عليه من المفاهيم المألوفة لما بعد الحداثة.
لكن اتجاهات “بعد ما بعد الحداثة” ما تزال غير متبلورة الى حد بعيد، والمصطلح نفسه ما يزال تجريبيا، وواحدا من عدة مصطلحات تسعى لتسمية هذه المرحلة الجديدة التي اخذت بها تصورات ما بعد الحداثة بالتراجع التدريجي من المشهد الفكري والثقافي العام. ومصطلحات من قبيل “ميتا ما-بعد الحداثة” او “الحداثة الرقمية” أو “الحداثة الفائقة” متداخلة الى حد بعيد، وتسعى الى تأطير مرحلة بدأت منذ تسعينات القرن الماضي او بداية الألفية الثالثة من زوايا نظر مختلفة لكن متداخلة.
مع هذا يمكن القول بصورة عامة انها قابلة للتحديد بالتعارض مع المرحلة التي سبقتها، اي “ما بعد الحداثة”، مثلما ان الاخيرة ممكنة التحديد بوجه عام بالاستناد الى تعارضها مع “الحداثة” التي سبقتها. فمرحلة “بعد ما بعد الحداثة” تتضمن تخطي منطق ما بعد الحداثة التهكمي والمتشكك في امكان تحديد المعنى، والنافر من السرديات الكبرى، ومن “روحها العدمية” (النهلستية)، بعودتها مجددا الى قيم الثقة (وليس الوثوقية “الدغمائية”) بامكان المعنى وإمكان الحقيقة والتصورات عن الانسان والعالم، وان كان هذا لا يعني بالطبع مجرد عودة بسيطة الى هذه المفاهيم بالشكل الذي كانت عليه، بل تأسيسها على أساس معاصر متخطي لمرحلة ومنطق ما بعد الحداثة.
لعل الكثيرين يعرفون ان مرحلة الحداثة، اصلا، والتي يرجع اكثر الباحثين بداياتها الى نهايات القرن التاسع عشر (او قبل ذلك أحيانا) تجلت بصورة ملموسة في بدايات القرن العشرين عبر جملة من السمات الفكرية والفنية من قبيل الجماليات الثورية، والتخلي عن صيغة التتابع الزمني المألوف في الاعمال الفنية والادبية، والنزعة التجريدية والاتجاهات التجريبية المعروفة في الفن والعمارة والادب. هذه السمات صارت موضع تساؤل ورفض وتهكم تدريجي من جانب الافكار والمفاهيم ما بعد الحداثية التي اخذت بالظهور بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تجسدت بصورة اتجاهات تنزع الى تخطي التقسيمات والتصنيفات والتراتبيات الهرمية المألوفة، والسعي الى وضع الاساليب المختلفة جنبا الى جنب واستخدامها في آن واحد (نزعة “المجاورة”) لهذه الاساليب المتنوعة، ونزعة شكية تجسدت على المستوى الفلسفي.
وعلى المستوى الفلسفي والنظري تمثل التفكيكية ملمحا رئيسية من فكر ما بعد الحداثة. صحيح ان التفكيكية وفكر وفلسفة جاك دريدا اصبحت احد المراجع الرئيسية في الفكر النظري المعاصر (كما هو الحال مع اهمية مفكرين اخرين من امثل جاك لاكان، هايدغر، ميشيل فوكو، كارل ماركس، هيغل)، لكن من الجهة الاخرى فان الكثير من المنظرين والنظريات الفلسفية المعاصرة لا تتخذ من جاك دريدا وفلسفته عنصرا هاما في تكوينها.
ومع كل التغيرات الحاصلة في العالم، لاسيما في وسائل الاتصال والتواصل والتقنيات الرقمية ومظاهر العولمة المتعاظمة، فان متغيرات المرحلة الجديدة من الكثرة والتنوع بحيث انها قد تحتاج الى فسحة زمنية كافية لتتبلور بصيغة اكثر وضوحا.
بعض المنظرين اقترح اصلا تسمية اخرى لـ “ما بعد الحداثة” وهي “الحداثة الثانية”. ولو كانت التسمية الاخيرة هذه هي التي شاعت واستقرت في التداول والبحث النظري العالمي، ربما كان يمكن بسهولة تسميه المرحلة الجديدة قيد التشكل بـ “الحداثة الثالثة”.
مع كل هذا، يجدر التنويه هنا ان كل هذه الاتجاهات والافكار والمسميات ليست موضع اجماع مطلقا. بل ان هناك بعض المفكرين والمنظرين المعاصرين، من امثال برونو لاتور يرى ان المجتمعات الغربية اصلا لم تكن حديثة يوما، كما في كتابه  ( = لم نكن حداثويين أبدا). وهو يؤسس تحليله هذا على نفي السمات التي وضعت لتمييز الحداثة على اساس الاعمال الرائدة في هذا المجال، مثل اعمال فيبر ودوركهايم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق