تعد نظرية "الاعتراف" من أهم النظريات
الفلسفية والاجتماعية المعاصرة، باعتبارها أسست براديغما أساسيا للعلوم الإنسانية
في الفكر المعاصر، خاصة في مجال الحق والسياسة والإقتصاد والأخلاق والتربية
وغيرها، حيث عرفت هذه المجالات تحولات وجدلا واسعا، وتعود جذور فكرة
"الاعتراف" إلى نصوص الفلسفة الحديثة عند هيغل وماركس وأعيد إحياءها
وفتح النقاش حولها خاصة من طرف أكسيل هونيث وهانس كريستوف شميث (Hans-christoph
Schmidt) في ألمانيا
ونانسي فرازر (Nancy Frazer) وجوديث بتلر (Judith Butler) في الولايات المتحدة وشارل تايلور(Charls Taylor) في كندا وغيرهم*، ولابد من الإشارة هنا إلى اختلاف استعمال
وتحليل هذا المفهوم، وفي هذا الإطار « يمكننا أن نذكر ثلاثة اتجاهات أساسية،
الاتجاه الأول يمثله الفيلسوف الكندي تايلور الذي يعطى لهذا المفهوم دلالة ثقافية
ويوظفه لتحقيق مطالب سياسية [...] كالاعتراف بما يسمى الأقليات الثقافية والإثنية
[...]، والاتجاه الثاني تمثله الفيلسوفة الأمريكية فرازر والتي وظفته في تحليل
مشكلة العدالة الاجتماعية وآليات تطبيقها، أما الاتجاه الثالث فيمثله رائد الجيل
الثالث لمدرسـة فرانكفـورت هونيث الذي أصبح معه هذا المفهـوم مبـدأ أسـاسيـا في
النظـريـة النقدية وأعطاه دلالة وبعدا آخر"أخلاقيا"...»[1]، وسنقتصر على الحديث في هذا الموضوع على
مفهوم الاعتراف عند هونيث لتوظيفه في تجاوز فلسفة التواصل عند آبل وهابرماس
(باعتباره يمثل براديغما في مدرسة فرانكفورت)، ولكن قبل ذلك لابد من التوقف أولا
عند دلالة هذا المفهوم في اللغة .
مفهوم الاعتراف (Reconnaissance) في اللغة:
إذا انطلقنا أولا من اللغة العربية فإننا نجد كما ورد
في معجم اللغة العربية المعاصرة: « الاعتراف مشتق من الفعل اعترف، يعترف، اعترافا،
واعترافات، فنقول: اعترف إلي، أخبرني باسمه وشأنه، واعترف بذنبه، أقر به على نفسه
[فاعترفنا بذنوبنا]، واعترف بالجميل، أقر به وأعرب عن امتنانه، اعترفت دولة بدولة
أخرى، اعتبرتها دولة شرعية وأقامت معها علاقات دبلوماسية، والاعتراف في القانون،
هو إقرار المدعى عليه أو المتهم صراحة أو ضمنا بصحة الوقائع المنسوبة إليه »[2].
أما
في اللغة الفرنسية فإنه إذا رجعنا إلى معجم لاروس الصغير فإننا نجد أن لمفهوم
الاعتراف عدة معاني أيضا منها: « الاعتراف بالخطأ (reconnaissance d’une
faute) واستطلاع المكان (reconnaissance de lieu) والاعتراف بالدينreconnaissance) de
dette) والاعتراف بالجميل (gratitude d’un bien
fait reçu) والفعل الذي بموجبه نقبل بالالتزام (acte par lequel on
admit l’exstence d’une obligation) والاعتراف بشرعية الحكومة acte par lequel on
reconnait un gouvernement) comme légal) »[3].
مفهوم الاعتراف عند أكسيل
هونيث:
قبل أن يحلل هونيث نظريته الفلسفية الأخلاقية
للاعتراف قام بدراسة جينيالوجية لهذا المفهوم بحثا عن جذوره في تاريخ الفلسفة،
فماهي أهم المحطات التاريخية التي مر بها هذا المفهوم حسب أكسيل هونيث؟
يرى هونيث أن مفهوم الاعتراف، في جميع صيغه،
لعب دورا أساسيا في مجال الفلسفة العملية، حيث كان عموم فلاسفة الأخلاق، ومنذ
العصور القديمة، مقتنعين بأن الشخص الوحيد الذي بإمكانه أن يحيا حياة طيبة هو ذلك
الذي يستطيع أن يثير التقدير داخل المدينة، وعلى سبيل المثال فإن الفلسفة
الأخلاقية الأسكتلندية (écossaise)* استرشدت بالفكرة القائلة بأن وحده
الاعتراف أو عدم الاعتراف العموميين هما ما يشكلان الآلية الاجتماعية التي تجبر
الفرد على اكتساب الفضائل المطلوبة، كما كان مفهوم الاحترام مع "كانط"
المبدأ الأسمى لكل فلسفة أخلاقية والذي تضمنه الأمر القطعي القائل: عامل الشخص
الإنساني كما لو كان غاية في ذاته[4].
غير أنه مع "هيغل" تحديدا اكتسى مفهوم
الاعتراف مكانته الإيتيقية الجوهرية، ولم يتغير الأمر إلا في غضون العقدين
الأخيرين، حيث أخذ مفهوم الاعتراف يجذب الانتباه جراء سلسلة من النقاشات السياسية
والحركات الاجتماعية، و سواء قسنا ذلك على مستوى النقاشات حول "التعددية
الثقافية" أو على مستوى "الحركات النسوية" فإن الفكرة المعيارية
واحدة: هي ضرورة الاعتراف بالفروق أو الاختلافات بين الأفراد والجماعات، ومن هنا
صار القول بمجرد التوزيع العادل للثروة المادية أمرا غير كاف ما لم تدمج ضمن مفهوم
العدالة تصوراتنا حول الكيفية التي يجب أن يعترف بها كل واحد منا بالآخر، ومن ثم
حول هوية هذا الاعتراف المتبادل ذاته، كما أن النقاشات السياسية شكلت بدورها مادة
للتفكير الفلسفي الأخلاقي حول موضوع الاعتراف، خاصة بشأن مسألة المضمون المعياري
للأخلاق الذي لا يمكن تفسيره إلا بالقياس إلى بعض أشكال الاعتراف المتبادلة، وهذا
ما جعل الكلام عن ما صار يدعى بـ: "وجهة النظر الأخلاقية" (point de vue moral) يرتبط تحديدا بالخصوصيات (المقبولة أو غير المقبولة) التي تنتظم
وفقها العلاقات بين الذوات بعضها ببعض[5].
مع ذلك لم تكن هذه المرحلة إلا محاولة أولى في
الاستخراج المباشر للمبادئ الأخلاقية للتضمينات المعيارية الخاصة بمفهوم الاعتراف،
فمن بين أهداف النقاش الأساسية اليوم حول أخلاق الاعتراف حصر هذه الصعوبات بصورة
نسقية، إن المشكل الأول يتعلق بتعددية المعنى للمقولة المفتاحية المستعملة، ذلك
أنه بخلاف مفهوم "الاحترام" الذي اكتسب معنى دقيقا نسبيا في فاسفة كانط
الأخلاقية، لم يحظ مفهوم الاعتراف بأي تثبيت، لا على مستوى اللغة اليومية ولا على
مستوى القبول الفلسفي[6].
ففي سياق أخلاقيات النقاش يشير هذا المفهوم إلى ذلك
الضرب من الاحترام المتبادل والذي يتعلق في ذات الوقت بالفرادة Singularité)) والمساواة بين كل الاشخاص الآخرين من حيث كونهم يحملون القدرة
على المحاجة في نقاش ما، كما يؤكد ذلك هابرماس، بل إن الذين يحاولون تطوير النزعة
الجماعانية(Communautarisme) يستخدمون
اليوم مقولة "الاعتراف" للدلالة على أشكال التقدير الممنوحة لأنماط
غريبة في الحياة، وهذا الأمر من شأنه أن يضعنا أمام صعوبة ثانية وهي تغير معنى
الاعتراف بتغير نمط الاستعمال والغرض المقصود، مما يفترض أن القيم الدلالية
المختلفة للفظ "الاعتراف" ترتبط في كل مرة بمنظورات أخلاقية
خاصة، إن هذه التعددية في المعاني تطرح مشكل إمكانية إيجاد مرجع مشترك لوجهات
النظر المختلفة بحيث تصير قابلة للتبرير بصورة معيارية، وهذا ما يحيلنا على مشكلة
التضمينات الأخلاقية لكل شكل من أشكال الاعتراف[7].
وبعد أن حدد هونيث الارهاصات الأولى لظهور مفهوم "الاعتراف" وتطوره
عبر تاريخ الفكر الفلسفي إلى الآن يعود إلى الحديث عن التأسيس الحقيقي لهذا
المفهوم مع هيغل.
المفهوم الهيغلي للاعتراف:
إن التمييزات الدقيقة التي قام بها هيغل الشاب بشأن
مفهوم الاعتراف تفتح مجالا حقيقيا لبلوغ هده الإشكالية في عمومها [...][8]. لقد استوعب هيغل الشاب كل لحظات التفكير
الأساسية حول مفهوم الاعتراف كما تمثلها الفلاسفة السابقون عليه، على غرار هوبس،
وروسو، وفيخته. ذلك أن هوبس، وبتأثير من ميكيافيللي، انطلق من المبدأ الأنتربولوجي
الذي ينص على أن الأفراد كانوا واقعين أولا وقبل كل شيئ تحت سيطرة الحاجة إلى
امتلاك أكبر قدر من "التقدير" و"الشرف"، بينما دافع
"روسو"، في إطار عرضه النقدي للحضارة، عن فكرة كون الانسان في اللحظة
التي بدأ يبحث فيها عن التقدير الاجتماعي بدأ بالموازاة يفقد الطمأنينة التي كانت
تضمنها له الحياة الطبيعية، وأخيرا، وفي معارضة جذرية لهذه السلبية، ذهب
"فيخته" في كتابه "أصل الحق الطبيعي" إلى أن الأفراد لا
يمكنهم الحصول على الوعي بحريتهم إلاإذا تشجعوا في استعمال استقلاليتهم الذاتية
واعترفوا ببعضهم البعض بصورة تبادلية، ومن ثم اعتبروا أنفسهم مخلوقات حرة. إن
بالرغم من تناقض وتباين وجهات النظر هذه إلا أنها، في مجموعها، أثمرت لدى هيغل
الشاب فكرة مفادها أن الوعي الذاتي للإنسان يتوقف على تجربة الاعتراف الاجتماعية[9].
لقد ركز هيغل على أشكال الاعتراف انطلاقا من مفهوم
"الصراع" أو "الكفاح"، فعلى مستوى العلاقة بالذات (Relation
à soi)أضاف هيغل على شكل الاحترام الأخلاقي كما تصوره كانط
شكلين للاعتراف المتبادل: من جهة أولى الاعتراف في الحب، ويعني هيغل بالحب أن
الأفراد يعترف بعضهم ببعض بتأثير الطبيعة الفريدة لحاجتهم، حيث يجدون أمنهم
العاطفي في التعبير عن ميولهم الفطرية، من جهة ثانية يوجد شكل الاعتراف الاجتماعي
بواسطة الدولة، حيث تتشكل الحلقة الأخلاقية الحقيقية، إن الانتقال بين مختلف هده
الأشكال هو الذي يسم الاعتراف بالسمة الصراعية أو الكفاحية حيث تسعى الذات في كل
مرة إلى بناء شكل جديد للاعتراف[10] .
وبعد أن أوضح هونيث مفهوم هيغل للاعتراف ينتقل إلى
الحديث عن البعد الفينومينولوجي لهذا المفهوم.
الحقل الظاهراتي للأخلاقي:
لقد صار واضحا اليوم أن هناك علاقة بين الجرح أو
الألم الأخلاقي وبين طبيعة الاعتراف وذلك على مستوى العلاقة الإيجابية بالذات
والتي أمكن تحليلها فينومينولوجيا، حيث يمكن الوقوف على المبادئ التالية:
ا/ الكائنات
التي ترتبط بحياتها الخاصة بصورة تفكرية هي الوحيدة الكائنات الأخلاقية، ومن ثم هي
التي تنشغل بكمال وجودها الشخصي، فإذا لم تتخذ كمرجع لها المعايير الكيفية لحياتها
الخاصة لما أمكن القول أن هذه الذوات تعاني ألما
أخلاقيا.
ب/ هـذه
الذوات المعنيـة بكمـال وجـودها الشخصي بحاجة إلى ذوات أخرى تمكنها مـن الارتباط
الإيجابي بالذات حيث يمكن تقييم موضوع الألم الأخلاقي، ومن ثم الإحالة إلى الشروط
البين ذاتية.
ج/ علاقة الألم
الأخلاقي بهوية الذات: فالهوية الذاتيـة تتعرض إلى ضرب مـن الانشـقاق في
الشخصية جراء عدم الاعتراف، من قبل الذوات الأخرى بالمفترض القبلي
لقدرة الفرد على التصرف[11].
إذا كانت هذه المبادئ تفسر إجمالا العلاقة بين الألم
الأخلاقي وبين إنكار أو سحب الاعتراف، فإن إجراء التبرير السلبي الذي تبنيناه يسمح
من هنا فصاعدا بالقيام بخطوة إضافية في المحاججة: إذ في هذا الإطار يمكننا تمييز
أشكال مختلفة للاعدالة (L’injustice)، حيث الشكل الأكثر اقترابا هو الشكل الخاص
بالتجربة الفردية، ذلك أن كل مستوى من العلاقة العملية بالذات عينها تتناسب مع ضرب
معين من اللاعدالة حيث يتشكل جرح نفساني، وعلى هذا من الضروري الاستعانة بعلم
النفس لتحديد المعايير الأخلاقية التي تحكم علاقة الذات بذاتها منذ الطفولة،
وباختصار صار هناك اتفاق على وجود ثلاثة مستويات للعلاقة العملية للذات نحو ذاتها،
ونقصد بهذه العلاقة الوعي الذي يمتلكه الشخص بذاته فيما يتعلق بالملكات والحقوق
التي تعود إليه، بإمكاننا الإشارة إلى المستوى الأول من العلاقة بالذات بما يعرف
عادة "بالثقة في النفس"، فهو ضرب من اليقين الأولي المؤسس على قيمة
الضرورات الخاصة بالذات، وفي المستوى الثاني هناك الوعي بكوني ذاتا قادرة على
التمييز الاخلاقي، وهنا تظهر الإحالة على التراث الكانطي القائم على فكرة
"احترام الذات" وهو ضرب اليقين المؤسس على قيمة ملكة الحكم الخاصة
بالذات، وأخيرا هناك مستوى من العلاقة بالذات الذي يمكن قبوله بإجماع وهو ما يظهر
في الوعي بامتلاك قدرات أو ملكات خيّرة أو ثمينة، وهو ما يمكن التعبير عنه بمفهوم
"الشعور بالقيمة الذاتية"[12].
واضح إذن أن في كل مستوى من هذه المستويات الخاصة
بضروب اللاعدالة تتناسب حالة أو ضرب من ضروب الاحتقار أو الاعتراف [...][13].
يمكن إذن، بناء على ما سبق، تشييد أخلاق الاعتراف على
أساس بنية هذه العلاقة العملية التي تحدثها الذات نحو ذاتها (Relation
pratique à soi) حيث تصير الهوية الذاتية مدينة في
وجودها الأخلاقي إلى بنية هذه العلاقة ذاتها، ومنه يمكن تصور مفهوم إيجابي
للأخلاق، أي ما صار يدعى بوجهة النظر الأخلاقية حيث
نعني بها شبكة المواقف التي نتبناها لحماية المخلوقات الإنسانية من مخاطر الألم
الأخلاقي[14].
وبعد تحديد المفهوم الفينومينولوجي
للاعتراف ينتقل هونيث إلى تحديد هذا المفهوم حسب وجهة نظره الفلسفية الأخلاقية
الجديدة.
"أخلاق" للاعتراف:
يرى هونيث أنه من خلال هذا الملخص السريع يتضح أن
النظرية الأخلاقية المعروضة هنا تنتهي إلى فكرة مختلفة عن جميع التصورات التقليدية
بخاصة حول نقطة أساسية وهي: أنه لا يوجد بين كل أنماط الاعتراف التي تشكل في
مجموعها "وجهة النظر الأخلاقية" أية علاقة انسجام، بل بالعكس هناك علاقة
توتر دائم [...] إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحدد بصورة مسبقة أي شكل من
أشكال الاعتراف السابقة تكون هي الأفضل بالقياس إلى وضعية ما، وذلك حين تبث جميعها
و في نفس الوقت مزاعم غير متوافقة، وفي هذه الحالة فإن المجال الأخلاقي كله موسوم
بالتوتر الذي لا يمكن أن يزول إلا بالقياس إلى مبدأ المسؤولية الفردية حيث يتوجب
علينا، في حالة الصراع بين هذه الأشكال، اختيار معايير أخرى من أجل تحديد نوع
العلاقة الذي يكتسي طابع الأولوية، ولا شك أن المعيار الكوني المرتبط بشكل
الاعتراف المتمثل في الاحترام يضع هنا حدا معياريا لجميع قراراتنا، فنظرا لأننا
مطالبون بالاعتراف بأن كل المخلوقات الإنسانية باعتبارهم أشخاصا يتمتعون بنفس الحق
في الاستقلالية، فإننا لا نستطيع، ولأسباب أخلاقية، أن نحسم الأمر لصالح العلاقات
الاجتماعية في الوقت الذي يتطلب تفعيل هذه العلاقات خرق المزاعم الخاصة بهذا
الاعتراف[15].
إن هذه الإشارة الأخيرة تفصح عن أن أخلاق الاعتراف
ذاتها تتبع، في جانبها الأساسي، الملامح المهيمنة في التراث الكانطي للفلسفة
الأخلاقية حيث تعطى الأولوية المطلقة، في حالة الصراع، دائما إلى مبدأ الاحترام
المتساوي للاستقلالية الفردية بالنسبة لجميع الأشخاص، غير أن الوصف الذي نقدمه هنا
لبنية صراع من هذا النوع يتميز عن مقدمات الطرح الأخلاقي الكانطي، إذ
بصورة عامة ليس الواجبات الأخلاقية فقط، ولكن كل الإلزامات، على تنوعها، تمتلك
طابعا أخلاقيا من حيث أنها تعبر في مجموعها عن علاقة اعتراف أخرى تنحدر من تراث
إيتيقي مغاير على غرار إيتيقا اللطف أو أخلاقيات الطيــــبة (Ethique
de la bienveillance)والمقاربات الخاصة بالنزعة
الجماعانية (Communautariennes) والتي من حقها أن تطالب بمكانها
بجانب التراث الكانطي، ففي كل واحدة من هذه التراثات يتم التعبير عن واحد من
المواقف الأخلاقية التي تتناسب مع الأشكال الثلاثة للاعتراف والتي بواسطتها نحمي
مع بعض كمالنا الشخصي[16].
واضح إذا على ضوء ما سبق، أن هونيث استوحى مفهوم "الاعتراف" من
فلسفة هيغل الذي يعتبره المؤسس الحقيقي لهذا المفهوم فلسفيا، وذلك لأن « هيغل هو
أول فيلسوف حاول دراسة العلاقات الاجتماعية بوصفها علاقات بين ذوات تبحث عن
الاعتراف المتبادل، وهذا على النقيض من التقليد الفلسفي الغربي الذي كان سائدا في
الحقل السياسي والمجال الأخلاقي، وخاصة لدى ميكيافيلي وهوبس، وهو تقليد قام على
فكرة الصراع والحرب بين البشر »[17]،
ولكن هذا لا يعني أن مفهوم الاعتراف عند هونيث هو استمرار وامتداد لمفهومه عند
هيغل بل هناك مسافة فلسفية تفصل بين الطرفين: « استند هونيث على هيغل لتأسيس نظرية
الاعتراف ولكن من دون الانخراط في الطابع النسقي للفلسفة الهيغيلية والمقولات
الميتافيزيقية والأنطولوجية التي أطرت هذه الفلسفة كمفهوم الروح المطلق وغيرها من
المفاهيم »[18]،
أي أن هونيث استند على هيغل لا ليكرره بل ليتجاوزه من خلال قيامه بإعادة النظر في
هذا المفهوم ومراجعته بغرض تحيينه بما يتماشى مع الظروف الاجتماعية والسياسية
والثقافية الراهنة.
هذه معاني الاعتراف ودلالاته وأبعاده (الفينومينولوجية والأخلاقية)، فماهي
أشكاله وشروط وعوائق تطبيقاته في الحياة الاجتماعية والسياسية حسب هونيث؟، أو
بعبارة أخرى: ماهي أهم المحطات الفكرية في المشروع الفلسفي الجديد لأكسيل هونيث؟
ارتأينا أن ننطلق في تحليل أهم المحطات الفكرية في مشروع هونيث الفلسفي الجديد
من مقولته الهامة التالية: «إن العالم المعاش الأولي الخاص بالوجود الإنساني هو
عالم الاعتراف لا التفاهم، والأولوية للاعتراف لا للتفاهم، وهو أمر يمكن إثباته
بكل سهولة، وذلك لأن الاعتراف العاطفي يسبق دوما - من الناحية التكوينية - عملية
اكتساب اللغة»[19]،
وذلك لأن هذه المقولة تعتبر إعلانا صريحا من طرف هونيث على انتهاء حقبة سيطرة
"فلسفة التواصل" في مدرسة فرانكفورت وميلاد فلسفة جديدة عنوانها
"فلسفة الاعتراف".
بدأ أكسيل هونيث تأسيس المشروع الفلسفي الجديد ابتداء
من سنة 1992 تاريخ صدور عمله الأساسي "الصراع من أجل الاعتراف" (La lutte pour la
reconnissance)، ثم تعمق هذا المشروع وترسخ في الأوساط
الفلسفية حين صدر عمله الهام الآخر "مجتمع الإزدراء: نحو نظرية نقدية
جديدة" (La sociéte du mépris) سنة 2002، وأخيرا عمله
"التشيؤ" La Réification))، وسنركز
في هذا المقام على تحليل أهم الأفكار الواردة حول "الاعتراف" في
هذه الأعمال الأساسية الثلاث التي توفرت لدينا.
في عمله الهام "الصراع من أجل الاعتراف"
تحدث هونيث عن الكثير من القضايا الفلسفية والنفسية والاجتماعية المرتبطة بإشكالية
"الاعتراف" منطلقا في ذلك من المرجعية الهيغيلية ومستندا على الأبحاث
الاجتماعية والنفسية لعدد من العلماء في هذا المجال خاصة على أبحاث عالم النفس
الاجتماعي الأمريكي جورج هربرت ميد والعالم النفساني الانجليزي دونالد
وينيكوث*Donald Winicotte( 1896-1971) .
وقد توصل من خلال ذلك إلى تحديد ثلاثة أشكال معيارية للاعتراف « الحب-
الحق-التضامن، متناسبة مع ثلاثة مستويات من تحقيق الذات هي الثقة في الذات،
واحترام الذات، وتقدير الذات »[20]،
تقابلها ثلاثة أشكال للإزدراء « العنف والإهانات الجسدية- حرمان المرء من حقوقه
الاجتماعية- الاحتقار الاجتماعي للفرد »[21].
وفي هذا الإطار قام هونيث بتحليل الأشكال الثلاثة للاعتراف:
1-الحب (L’ amour): «
وهو مجموعة العلاقات الأولية العاطفية والأسرية والصداقة التي تربط بين الناس،
وهذا المفهوم يتفق مع المفهوم الهيغيلي الذي يعطي للحب معنى أوسع يتجاوز مجال
العلاقة بين زوجين (رجل وامرأة) [...] حيث يعتبر هيغل أن علاقة الطفل بأمه هي أولى
مستويات الاعتراف المتبادل (Reconnaissance mutuelle) [...] ثم يتسع فضاء علاقات الطفل الاجتماعية لتشمل أفرادا آخرين
»[22].
وحاول هونيث إثبات صحة هذا المفهوم وهذا الشكل من
أشكال الاعتراف مستندا على الدراسات النفسية التي قام بها الباحث النفساني
الانجليزي وينيكوث في دراسته للعلاقة التي تربط بين الأم وابنها[23].
2-الحق (Le droit) أو الاعتراف
القانوني (Reconnaissance juridique): « هو الذي
يضمن حرية الأفراد واستقلالهم الذاتي في إطار الاعتراف المتبادل الذي يقتضي
المسؤولية الأخلاقية من طرف كل أفراد المجتمع »[24].
وهنا أيضا حاول هونيث إثبات صحة هذا المفهوم وهذا
الشكل من الاعتراف مستندا في ذلك إلى الأبحاث التي قام بها خاصة عالم النفس
الاجتماعي الأمريكي ج. هربرت ميد[25].
3-التضامن (La solidarité): «
إلى جانب الحب، والحق، أضاف هيغل وميد شكلا ثالثا للاعتراف المتبادل، يتمثل في
العلاقات الاجتماعية التي يضمنها (التضامن)، يختلف عن الشكلين السابقين ويكملهما،
وهو أوسع من الاعتراف القانوني، فالإنسان ليس مقيدا فقط بالقانون بل أن الحياة
الاجتماعية تفرض عليه واجبات اتجاه أفراد مجتمعه، وقد حدد هيغل هذا الشكل من
الاعتراف بمفهوم الحياة الأخلاقية "vie éthique"،
أما ميد فإنه نظر إليه من زاوية أخرى، فهو لم يدرجه في الإطار الشكلي المحض، بل
أضفى عليه طابعا مؤسسيا يدخل في إطار التقسيم التعاوني للعمل »[26].
هذه إذن، هي الأشكال المعيارية "الأخلاقية"
الثلاثة للاعتراف التي حددها هونيث في مؤلفه الهام "الصراع من أجل الاعتراف"،
فماهي العوائق التي تحول دون تحقيق هذا الاعتراف كليا أو جزئيا في الواقع الإنساني
حسب هونيث؟
يرى هونيث أنه مقابل كل شكل من أشكال الاعتراف
السابقة الذكر يوجد شكل من أشكال الإزدراء يحول دون تحقيق هذا الاعتراف، وقد لخص
هونيث هذه العلاقة في جدول (خطاطة) بعنوان "نظام علاقات الاعتراف
الاجتماعي" يمكننا التعبير عنها كما يلي: « إن العلاقات العاطفية تحقق الشكل
الأول للاعتراف الذي يتمثل في الحب من خلال منحها للفرد الثقة بالنفس (Confiance en soi) وشكل الإزدراء الذي يقابلها هو العنف والإهانة الجسدية (Violence
et intégrité physique)، بينما العلاقات القانونية تحقق الشكل
الثاني للاعتراف الذي يتمثل في الحق من خلال منحها للفرد احترام الذات (Respect de soi) وشكل الإزدراء الذي يقابلها هو الحرمان من الحقوق والتهميش (Privation de droits et
exclusion)، في حين أن العلاقات الاجتماعية تحقق الشكل
الثالث للاعتراف الذي يتمثل في التضامن من خلال منحها الفرد تقدير الذات (Estime de soi) وشكل الإزدراء الذي يقابلها هو الإذلال والإهانة الاجتماعية (Humiliation et offense) »[27].
ثم
قام هونيث بتحليل الأشكال الثلاثة للإزدراء[28]:
1- العنف
والإهانة الجسدية: وتتمثل في « أشكال سوء
المعاملة التي يحرم فيها المرء من التصرف الحر في جسده تمثل المستوى الأول للذل
الذي قد يعانيه المرء فمحاولة السيطرة على جسد شخص ما [...] عن طريق الإكراه تمثل
إهانة لهذا الشخص ومساسا بكرامته [...] وهو الأمر الذي يقوض علاقته العملية بذاته
»[29]، ومعنى
ذلك أن العنف الجسدي لا يهدد فقط سلامة الجسم بل يلحق بالمرء جرحا نفسيا عميقا
يصبح عائقا أمام الإندماج الاجتماعي.
2- الحرمان
من الحقوق والتهميش: « ويتعلق الأمر هنا بنمط
الإزدراء التي تكون فيها الذات ضحية، وهذا عندما تجد نفسها [...] محرومة من بعض
الحقوق داخل المجتمع الذي تنتمي إليه »[30]، والتي
يترتب عليها حسب هونيث « عندما يدرك المرء أنه محروم من حاجاته ومطالبه القانونية
المقبولة اجتماعيا ينتابه شعور بالإهانة [...] وفي هذا الصدد تكون تجربة الحرمان
غير منفصلة عن فقدان احترام الذات »[31]، ومعنى
ذلك أن التهميش الاجتماعي يلحق بالمرء أيضا جرحا وألما نفسيا عميقا يجعله يفقد
احترام ذاته.
3- الإذلال
والإهانة الاجتماعية: « وتتمثل في نمط
آخر من الإهانة التي قد يتعرض لها المرء، والمتمثلة في ما يسمى بالحكم السلبي على
القيمة الاجتماعية لبعض الأفراد أو الجماعات »[32]، والتي يترتب عليها في نظر هونيث المساس بالشرف والكرامة التي
تعبر عن "التقدير الاجتماعي للمرء" وتؤدي إلى "اهتزاز مكانة الشخص
ووضعه الاجتماعي"، فيلحق المرء من جراء ذلك جرحا وألما مزدوجا (نفسيا
واجتماعيا في آن واحد).
و يرى هونيث أنه إذا تحقق الاعتراف
المتبادل بين الأفراد والمجموعات نالت الذات التقدير على ثلاث مستويات هي:
الثقة
بالذات: « شعور الفرد بمكانته وقيمته الاجتماعية تجعله
يثق في نفسه ويحقق حاجاته العاطفية والمادية »[33]
احترام
الذات: « من خلال الاعتراف المتبادل يحقق الأفراد
حقوقهم المدنية والسياسية والأخلاقية المشروعة [...] وهذا ما يجعلهم مؤهلين لتقاسم
أدوار الفاعلين الأخلاقيين المسؤولين عن أفعالهم »[34].
تقدير
الذات:« إن الأفراد لا يمكن أن يكتفوا بالتجارب العاطفية
وبالاعتراف القانوني وإنما هم في حاجة أيضا إلى تحقيق ما يسمى بالتقدير الاجتماعي
الذي يسمح بإبراز قدراتهم وإمكاناتهم المتعددة »[35].
هذه هي إذن، أشكال الاعتراف ومستويات تحقيق الذات ومايقابلها
من أشكال الاحتقار عند أكسيل هونيث، فماذا عن ظاهرة التشيؤ التي اكتسحت العلاقات
الإنسانية؟.
في عمله التشيؤ (La Réification) ناقش أكسيل هونيث أطروحة جورج لوكاتش *Gearg Lukàcs المتعلقة بالتقنية التي ميزت هذا العصر كقوة استلاب واغتراب
حوّلت الإنسان إلى شيئ « يعني التشيؤ تحول العلاقات الإنسانية في ظل النظام
الاقتصادي الليبرالي إلى اشياء جامدة وخاضعة لمنطق التبادل التجاري [...] تحول
فيها البشر إلى سلع وبضائع يخضعون لقوى خارجة عن إرادتهم »[36]، وكان هدف هونيث من هذا العمل « تجاوز التفسير الأحادي الذي قدمه
لوكاتش لمفهوم التشيؤ »[37]، وذلك
لأن « لوكاتش ربط بين تعميم النموذج الاقتصادي الليبرالي ونشأة ظاهرة التشيؤ على
المستوى الاجتماعي »[38].
وفي هذا الصدد قام هونيث بمراجعة لهذه الأطروحة باحثا عن الأبعاد الأنطولوجية
والاجتماعية والأخلاقية للتشيؤ وصل من خلالها إلى تحديد ثلاثة أشكال للتشيؤ هي:
« التشيؤ الذاتي "العلاقة مع الذات"، والتشيؤ الموضوعي
"العلاقة مع العالم"، والتشيؤ التذاواتي "العلاقة مع
الغير"»[39].
وبدأ هونيث عمله هذا بعرض مفهوم التشيؤ عند لوكاتش من
أجل مناقشته، وفي هذا الإطار يرى هونيث أن المفهوم الذي قدمه لوكاتش للتشيؤ في
كتابه "التاريخ والوعي الطبقي": « التشيؤ لا يعني شيئا آخر سوى تلك
العلاقة القائمة بين الأشخاص والتي تتخذ طابعا شيئيا »[40]، هو مفهوم ركز على البعد الأنطولوجي للتشيؤ وأهمل الأبعاد الأخرى،
استلهمه لوكاتش من كارل ماركس Karl Marx (1818-1883)،
ومن المعلوم أن ماركس في نقده للنظام الرأسمالي ركز على مفهوم الاغتراب والاستلاب.
ثم ينتقل هونيث إلى نقد ومناقشة هذا المفهوم من كل جوانبه المعرفية والأخلاقية
والاجتماعية مبينا غرضه من ذلك: « غرضي هنا يتمثل في إعادة صياغة المفهوم
اللوكاتشي للتشيؤ- ضمن نظرية الفعل - قصد استخلاص منظور جديد بقيت فيه هذه المسائل
إلى حد الآن من دون حلول، وهذا حتى تفقد ذلك الطابع المأساوي، ولتحل محلها أفكار
واضحة، ولكن ضمن نظام آخر »[41].
وقد استند هونيث في تحليله النقدي لمفهوم التشيؤ إلى
موقفي كل من هيدغر وجون ديوي John Dewey(1859-1952) من مشكلة تأثير التقنية على الحياة الإنسانية، ومن
المعلوم هنا أن هيدغر بحث مشكلة التقنية التي ميزت هذا العصر خاصة في كتابه
"الوجود والزمان" الذي صدر سنة 1927، والذي رأى فيه أن التطور العلمي
والتقني حوّل العالم إلى حساب وبرامج قابلة للتنبؤ، وهنا يرى هونيث أن هناك «
تقارب فكري بين لوكاتش وهيدغر [...] ولكي نستطيع أن نؤكد ذلك يجب أن نشير إلى أن
غرض لوكاتش لم يكن في حقيقة الأمر مجرد نقد للنتائج "المشيئة" التي ميزت
الشكل الاقتصادي المتمثل في النظام الرأسمالي، وإنما كان غرضه أيضا أن يبين كيف
أصبح محكوما على الفلسفة الحديثة أن تصطدم بنقائض يتعذر حلها لأنها بقيت سجينة
لذلك التقابل القائم بين مفهومي الذات والموضوع [...] كما أن منطلق هيدغر كان
بدوره قائما على نقد الفلسفة الحديثة من خلال تتبع مسار ارتباطها بثنائية الذات
والموضوع »[42]، كما
لاحظ هونيث وجود تقارب فكري آخر بين لوكاتش وديوي، وقال في هذا الصدد: « على غرار
لوكاتش وهيدغر شك ديوي إلى أبعد حد في التصور التقليدي الذي قام على اعتقاد مفاده
القول بأن علاقتنا الأساسية بالعالم يجب أن تكون ضمن مواجهة محايدة مع الموضوع
القابل للمعرفة [...] فهو يتفق في الجوهر مع لوكاتش وهيدغر فيما يخص أهمية أو
مكانة نموذج الذات-الموضوع [...] وهكذا فإن الطريقة التي سوغ بها ديوي نقده تبدو
أكثر وضوحا وصراحة من طريقة لوكاتش وهيدغر فيما يتعلق بنقد الحضارة الحديثة »[43].
ثم تحدث هونيث في عمله هذا عن « أسبقية الاعتراف على
المعرفة »[44] موظفا
في ذلك « الأبحاث السوسيولوجية والسيكولوجية الميدانية لكل من جان بياجيه وجورج
هربرت ميد وسيجموند فرويد S.Freud (1856-1939)
وغيرهم »[45].
وبعد أن أثبت هونيث "الأطروحة القائلة بأن السلوك الاجتماعي للإنسان
يتضمن أسبقية تكوينية ومقولاتية للاعتراف على المعرفة" انتقل إلى تحليل فكرة
"التشيؤ كنسيان للاعتراف" التي تمثل صلب موضوع عمله هذا وغايته
منطلقا في ذلك من سؤال أساسي مفاده: «كيف يمكننا اليوم إعادة صياغة مفهوم التشيؤ
مع الأخذ بعين الاعتبار "الحدوس" الأصلية التي توصل إليها لوكاتش؟
»[46]، وبعد تحليل معمق لهذه الفكرة وصل إلى الجواب عن هذا السؤال والقول: « إن
تشيؤ الإنسان معناه ضياع أو انكار الاعتراف الذي يكون سابقا عنه »[47].
ثم قام هونيث بتحليل مختلف أنواع التشيؤ "الذاتي، الموضوعي،
البنذواتي" متجاوزا في ذلك أطروحة لوكاتش متوصلا في الأخير إلى القول: « إن
محاولتي إعادة صياغة التشيؤ الذي أخذته من لوكاتش - ولكن من منظور الاعتراف -
[...] وقد بلورت موقفي هذا وأنا أشعر بنوع من القلق حينما أدرك بأن مجتمعاتنا
الحالية أصبحت تتجه نحو ما كان يتوقعه لوكاتش، ولكن الملاحظ أن هذا الأخير قد
اعتمد في ذلك - وهذا منذ ثمانين سنة مرت -على وسائل لم تعد اليوم كافية »[48].
وخلاصة القول في هذه المشكلة أن تشيؤ الإنسان - وبإجماع غالبية الفلاسفة -
سببه السيطرة التي فرضها العلم وإفرازاته التقنية على الحياة الإنسانية، وأنه كلما
ازداد الإنسان تطورا على الصعيد العلمي والتقني ازداد تشيئا واغترابا واستلابا،
والحل لهذه المشكلة كما يرى هونيث هو تجسيد وتطبيق أفكار "فلسفة
الاعتراف" في كل مجالات الحياة الإنسانية.
وعلى ضوء ما سبق يمكن القول أن أكسيل هونيث استطاع أن
يتجاوز نظرية التواصل عند هابرماس وآبل، فإذا كان محور الخلاف بين هابرماس
وآبل هو التأسيس النهائي، حيث دافع آبل طوال مساره الفلسفي على تأسيس
مرجعية معيارية مشتركة (كونية) للأخلاقية، بينما رفض هابرماس ذلك واعتمد على
مرجعيات العالم المعيش، وكان محور الخلاف بين هونيث وهابرماس هو
اختزال هذا الأخير التواصل في التواصل اللغوي، بينما وسع هونيث هذا المفهوم إلى
التواصل الجسدي والحركي والانفعالي والرمزي (أنواع التواصل التي لا تعتمد على
اللغة العادية بل على شيفرات أخرى كالأصوات والإيماءات والنظر والانفعال)،
فإن محور الخلاف بين آبل وهونيث هو إيمان آبل بإمكانية إيجاد
مرجعية معيارية مشتركة وموحدة وكونية للأخلاقية، بينما يرى هونيث أن طابع التعدد
لأشكال الاعتراف يحول دون تأسيس معيار مشترك على غرار المعيار الكانطي كما كان
يطمح إلى ذلك آبل.
وهكذا طوت النظرية النقدية مرحلتها الثانية التي
اشتهرت فيها بفلسفة التواصل التي لم تعمر سوى ثلث قرن لتحل محلها المرحلة الثالثة
الجديدة بعنوان فلسفة الاعتراف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق