ثنائية المادة والصورة ارسطو وافلوطين ومقاربات الميتامسرح - حسن عبود النخيلة - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 7 يوليو 2020

ثنائية المادة والصورة ارسطو وافلوطين ومقاربات الميتامسرح - حسن عبود النخيلة

إن الفلسفة (الأرسطية) في مهيمناتها البارزة من شأنها أن تمنح توجهاً فكرياً يعطي صورة ملامسة للممارسة الميتامسرحية  - فإن ما يلفت الانتباه - هو تلك الحرية الفنية المتمخضة عن النظرية الأرسطية ، إذ لم يكن (أرسطو) يشابه (أفلاطون) في ذهابه إلى ربط الصورة الفنية بالمُثل اللامنتمية إلى العالم الأرضي ، إن مُثل (أرسطو) هي مُثل ملموسة ، وفي متصرف الفنان ، إذ أنها   (( لا تقع في الماوراء ، بل هي موجودة في الواقع ))(1) . وتأتي الحرية الفنية المطلقة لدى (أرسطو) حصيلة لثقته بالفنان الإنسان ، ومكانته في الحياة التي تجعل منه أعلى مرتبة من المثل نفسها ، وهذا ما يتيح إليه إمكانات التصرف في إعادة إنتاج المثل إلى درجة إن يكون كمالها الصوري مقترناً به ، وبذلك فهو من ينتشلها من عالم العدم إلى عالم الوجود بخاصة ، وان مهمة الفنان عند (أرسطو) وإمكاناته المعرفية تتحدد في عثوره (( على الأشكال الدائمة التي تكمن وراء الظواهر المتبدلة للطبيعة ))(2). وبالتالي يكون الفنان مبتكراً لمثله ، خالقاً لها ، لذا ، فهو يسبقها بالوجود ولا يتأخر عليها - كما هو لدى أفلاطون – وبذلك يتجاوز (أرسطو) الثنائيــــــــة الأفلاطونية المرتبطة بالإمحاء ، والاسترجاع* ويستعيض بدلاً عنها بـثنائية  (اللاوجود – الوجود) بوصف أن الفنان لديه خالقاً لمثل جديدة ، لم يكن لها وجود سابق ، فهي تبقى في حيز اللاوجود بفعل نقص في تركيبتها ، وضياعها في سيرورة الواقع اللامتناهية ، التي تجعل منها دون ثبات أو استقرار وبلا هوية ، هذا ما يجعل (( أرسطو يحاكم بقسوة تصور المثل الثابتة والنموذجية ، التي لا تأخذ بالاعتبار تنوع الواقع وحركيته ))(3).  
إن النقطة البارزة التي من الممكن أن تشكل مرتكزاً تفيد منه الممارسة الميتامسرحية على الصعيد التأملي ، هو ذلك التمييز بين (المادة) و(الصورة) كما يرصده (برتراند رسل) في فلسفة (أرسطو) ، ولعل ما يقرب هذه المسألة بشكل اكبر ما يتمخض عن (النظرية السببية) التي تبحث في العلاقة بين المادة والصورة ، فالصورة  (( لها جانب مادي وجانب صوري . والجانب الثاني ينقسم ثلاثة أقسام ، أولها هو الجانب الصوري بالمعنى الدقيق ، الذي يمكن أن نسميه التشكيل أو التصميم ، والثاني هو الفاعل الذي يحدث التغيير بالفعل ، مثلما يؤدي الضغط على زناد البندقية إلى إطلاق الرصاص . أما الثالث فهو الهدف أو الغاية التي يسعى التغيير إلى تحقيقها . هذه الجوانب الثلاثة تسمى الأسباب أو العلل الصورية)) (4).
ومن المفيد القول أن الميتامسرح المعاصر يفيد بشكل كبير في صياغة مهيمناته التأملية من العلاقة الجامعة بين (المادة ) و(الصورة) ، من خلال طرحهما بشكل يكشف عن انفصام هذه العلاقة ، وخلق تأملية اشد ما يميزها عنصر الارتياب ألسببي ، فما يعمل عليه المسرح المعاصر هو مضاعفة الارتياب بفعل تغييبه لسببية الفعل – فالصورة على المستوى المسرح السريالي او العبثي او اللامعقول تتناقض في جانبيها ألسببي (المادي) و (الصوري) ، وفي الوقت عينه فإن حركة الفعل الذي يستثيره تنامي الصورة يتم إغفال مصادره ، وعلاوة على ذلك فان السبب الغائي من وراء هذا النمو الصوري لا يُكشف عنه أيضاً . وهكذا يقوم الميتامسرح من اجل لفت الانتباه وشحذ ملكات التأمل بخلخلة العلاقات القائمة بين المادة والصورة - باتخاذ مسار يوظف العلاقات السببية في النظرية (الأرسطية) بما يتقاطع معها، وبذلك لا تلتقي (العلة المادية) مع (العلة الصورية) ولا (العلة الديناميكية) المقترنة بـ - الفعل- مع (العلة الغائية) المرتبطة بـ - الهدف- .
وفي العصور الوسطى وعلى المسار ذاته تتمركز في فلسفة (أفلوطين) أفكار تذهب إلى التأكيد على ثنائية المادة والصورة إذ يرى (( أن الأشياء رائعة من خلال احتكاكها بالأفكار . والجمال الذي تستوعبه مشاعرنا هو أحط أنواع الجمال . وكلما تخلصت الروح من الأشياء المادية الدنيوية كلما اقتربت من الرائع. كما أنها تقترب من الجانب الروحي كلما ابتعدت عن الرواسب المادية ))(5).
ولذلك يرتهن الجمال عند (أفلوطين) بالتحول من المادي الأدنى ، إلى الصوري الأعلى ، إذ يتمخض عن الإنتاج الجديد للمادي والارتقاء به - أي خلق صورة له - عوامل فكرية تجذب إليه الانتباه وتعزز من قيمته الجمالية، (( فالجميل هو المصور والقبيح هو ما يخلو من الصور المعقولة والبرهان على ذلك أننا لو قارنا بين حجرين أحدهما قد نحت على صورة معينة كأن تكون صورة إله أو إنسان وترك الآخر بغير تشكيل أو صورة معقولة فإننا نلاحظ أن الأول سوف يتفوق على الآخر في القيمة الجمالية ))(6).
وفي فلسفة (أفلوطين) هذه ، القائمة في حكمها الجمالي على التفريق بين ثنائية المادة والصورة ما يلتقي مع جدلية هذه الثنائية في الممارسة الميتامسرحية .
  
الهوامش
(1) مارك جيمينيز ، ما الجمالية  ، ترجمة : شربل داغر ، ط1 ، ( بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، 2009) ،ص 243. 
(2)  بنيامين فارنتن ، العلم الاغريقي ، ترجمة : احمد شكري سالم ، مراجعة : حسين كامل أبو الليف ، تقديم : مصطفى لبيب ، ج1، ط1 ، ( القاهرة : المركز القومي للترجمة  ، 2011) ،  ص 134.
* يعني الباحث بالإمحاء والاسترجاع :  تفسير للنظرية الأفلاطونية التي ترى (( ان النفوس كانت توجد قبل الميلاد في عالم آخر ، عالم تسكنه الآلهة والمثل ، وفي هذا العالم تمت لها معرفة المعاني بالمعاني المجردة (المثل) ، ولكنها فقدت هذه المعرفة لحظة الميلاد . ومن ثم فإن عملية استذكار هذه المعرفة ، وهي ما نسميه تعلماً ، ما هو إلا عملية كشف الغطاء عن معرفتنا السابقة )) د. محمد عباس ، افلاطون والأسطورة ، ( بيروت : دارالتنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، 2008) ، ص 89. 
(3) ، مارك جيمينيز ، ما الجمالية؟ ، ص 244.
 (4) برتراند رسل ، حكمة الغرب : عرض تاريخي للفلسفة الغربية في اطارها الاجتماعي والسياسي ، ترجمة : د. فؤاد زكريا ، ج1 ، ط2 ، ( الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب ، 2009) ، ص 55 . 
(5) اوفسيانيكوف و. ز. سميرنوفا ، موجز تاريخ النظريات الجمالية ، تعريب : باسم السقا، ط2 ، ( بيروت : دار الفارابي ، 1979) ،   ص 35.
(6) د. اميرة حلمي ، فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها  ، ط1 ، (القاهرة :  دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ، 1998 )، ص 89- 90.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق