نهايات الإنسان: رفعة النزعة الإنسانية - جاك دريدا - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 20 يوليو 2020

نهايات الإنسان: رفعة النزعة الإنسانية - جاك دريدا

اقتطعنا هذا النص من محاضرة (نهايات الإنسان) لجاك دريدا ألقاها في نيويورك 1968 في مؤتمر دولي عقد لمناقشة موضوعة (الفلسفة والأنثروبولوجيا(

 وقد ترجمت مؤخرا من قبل: منى طلبة


كانت القراءة الأنثروبولوجية لهيجل وهوسرل وهيدجر بمثابة تفسيراً معکوسا، بل ربما كانت التفسير الأكثر خطورة، لأنها القراءة التي زودت الفكر الفرنسي فيما بعد الحرب بأفضل موارده المفاهيمية بيد أنه :
أولا: لم يول كتاب فينومينولوجيا الروح، Phenomenologie de ' Esprit - الذي لم يقرأ إلا منذ وقت قريب في فرنسا - اهتماما لما يمكن أن تنميه ببساطة "الإنسان". يتميز كل من علم اختبار الوعي وعلم أبنية ظاهراتية الروح المحالة إلى الذات، تماما، عن الأنثروبولوجيا. في موسوعة هيجل Encyclopedie des sciences philosophiques en abrege. يأتي القسم المعنون ب فينومينولوجيا الروح بعد الأنثروبولوجيا ويتجاوز بوضوح الحدود. فما هو حقيقي بالنسبة لكتاب الفينومينولوجيا هو بالاولى حقيقي بالنسبة لنظام کتاب المنطق Science de la Logique La.

كذلك ثانيا: يشكل النقد الموجه إلى النزعة الأنثروبولوجية أحد المحفزات المفتتحة للظاهراتية المتعالية Phenomenologie transcendantale - لدى هوسرل. هذا النقد واضح، وهو يسمى النزعة الأنثروبولوجية باسمها منذ ظهور کتاب هوسرل مقدمات المنطق الخالص  (Les Proletgomemes a la logique pure)، بعد ذلك، لن يستهدف النقد النزعة الأنثروبولوجية التجريبية فحسب، وإنما سیستهدف النزعة الأنثروبولوجية المتعالية أيضًا.
    ليست الأبنية المتعالية - الموصوفة بعد الاختزال الظاهراتي لها - مثل ابنية هذا الموجود داخل – الدنيوي intra - mondain étant المسمى بال «إنسان». كما أن هذه الأبنية لا ترتبط أساسا بالمجتمع ولا بالثقافة ولا باللغة ولا حتى بالنفس، أو حتى النفسية الإنسان. ومثلما نستطيع - بحسب هوسرل - أن نتخيل وعيا بدون روح  نستطيع بالأولى أن نتخيل وعيا بدون إنسان.
     من المدهش، والدال أيضا بقوة، أنه في ذات اللحظة التي تتقدم فيها سلطة الفكر الهوسرلي وتستقر في فرنسا بعد الحرب لتصبح نوعا من الموضة الفلسفية، في ذات هذه اللحظة يظل نقد النزعة الأنثروبولوجية غير ملحوظ بالمرة أو بلا أثر على اية حال. أحد الأسباب الأكثر تناقضا لهذا التجاهل الانتهازي يتمثل في القراءة المختزلة لهيدجر. ذلك لأننا قد فسرنا تحليلية كتاب الوجود والزمان بمصطلحات أنثروبولوجية ضيقة قد قمنا نحن بتحديدها، أو أحيانا لأننا نقدنا هوسرل انطلاقا من هيدجر والصقنا بالظاهراتية كل ما لا يخدم الوصف الأنثربولوجي، يبدو مثل هذا المنحى شديد التناقض لأنه يتخذ نهجا للقراءة أشبه بنهج هوسرل في قراءة هيدجر. في الواقع، لقد قام هوسرل، على عجلة، بتفسیر کتاب الوجود والزمان لهيدجر بوصفه انحرافا أنثروبولوجيا للظاهراتية المتعالية.
  بيد أنه ثالثا: عقب الحرب وبعد ظهور کتاب الوجود والزمان مباشرة، راح هيدجر في رسالته عن النزعة الإنسانية بذكر كل من لم يستطع الإحاطة بكتابه الوجود والزمان وتقدير الفقرات الأولى منه، بأن الأنثروبولوجيا والنزعة الإنسانية لم يشغلا تفكيره ولا أفق أسئلته في هذا الكتاب، بل أن (تدميره) للميتافيزيقا أو الأنطولوجيا الكلاسيكية موجه أساساً ضد النزعة الإنسانية.
     بعد انتشار الموجة الإنسانية والأنثروبولوجية التي استغرقت الفلسفة الفرنسية، كان لنا أن نظن أن ما أعقبها من انحسار التيار المعادي للنزعة الإنسانية anti- humaniste وللنزعة الأنثروبولوجية anti - anthropologiste وهو الحال الذي نعيشه اليوم - سوف يدفعها لإماطة اللثام عن تراث الأفكار التي تم مسخها، أو بالأحرى، التي سرعان ما تعرفنا على وجه الإنسان من خلالها. هنا يفرض سؤال نفسه علينا: ألا ينبغي أن نعود مرة ثانية إلى هيجل وهوسرل وهيدجر؟ ألا ينبغي أن نشرع في قراءة أكثر دقة لنصوصهم لننتزع منها تفسيرا ما لصيغتي النزعة الإنسانية والأنثروبولوجية؟
لا شيء من هذا قد حدث؟ ودلالة هذه الظاهرة هو بالضبط ما أريد أن استفهم عنه الآن. إذ يبدو، وعلى عكس ما نتصور، أن نقد النزعة الإنسانية والانثروبولوجية الذي كان أحد الموضوعات المهيمنة بل والهادية للفكر الفرنسي الحالي، قد تحاشی البحث عن منابعه و مواثيقه في النقد الهيجلي والهوسرلي أو الهيدجري للنزعة الإنسانية والأنثروبولوجية ذاتها. بل راح الفكر الفرنسي، أحيانا، يخلط بطريقة ضمنية أكثر مما هي صريحة بين هيجل وهوسرل منهجيا، كما خلط بطريقة أكثر شيوعا وغموضا بين هيدجر والميتافيزيقا الفلسفية العتيقة ذات النزعة الإنسانية، وأنا استخدم كلمة اخلط، amalgarne هنا عن عمد، إذ يجمع استخدام هذه الكلمة بين مرجعية الكيمياء القديمة - وهي مرجعية أولية هنا - وبين مرجعية استراتيجية أو تكتيكية تتعلق بمجال الأيديولوجيا السياسية.
قبل أن نحاول تفسير هذه الظاهرة المتناقضة التوجه، علينا أن نتخذ بعض الاحترازات.
 أولا: مثل هذا الخلط المغلوط لا ينفي أننا قد أحرزنا بعض التقدم في قراءتنا لهيجل وهوسرل أو هيدجر في فرنسا، كما لا ينفي أيضا أن مثل هذا التقدم قد قادنا إلى إعادة التساؤل عن معنى هذا الإلحاح على النزعة الإنسانية، ومع ذلك لم يتصدر هذا التقدم وهذا التساؤل الساحة، وهو ما ينبغي أيضا أن يكون أمرا ذا دلالة. في حين أنه بالعكس وبالتوازي، مازالت صيغ سوء التفسير هذه فعّالة. وهي تعود إلى هؤلاء الذين مارسوا هذا الخلط منذ عصر سارتر. وقد أدت هذه الصيغ، أحيانا، إلى الإلقاء بهيجل وهوسرل وهيدجر في غياهب ميتافيزيقا النزعة الإنسانية. في الواقع، غالبا ما ظل هؤلاء الذين ينقضون على النزعة الإنسانية كما ينقضون على الميتافيزيقا في ذات الوقت، مرابطين عند مشارف هذه القراءة الأولى لهيجل وهوسرل وهيدجر. ويمكن لنا أن نستخرج أكثر من دليل على ذلك من نصوص عديدة قريبة العهد بنا. وهو ما يدعو إلى الظن، من بعض الوجوه أو على الأقل في هذا الإطار، أننا لم نبارح ذات الشاطيء منذ أمد.
ولكن كل هذا لا طائل منه بالنظر للسؤال الذي أريد أن أطرحه على هذا المؤلف أو ذاك ممن أساءوا القراءة، أو ببساطة شديدة، على من لم يقرأ هذا النص أو ذاك، أو مازال يبقى له ما يقرأه ليتعرف على الأفكار التي ظن، في سذاجة مفرطة، أنه قد تجاوزها او حتى قلبها رأسا على عقب. من أجل هذا لن يتعلق الأمر هنا باسم هذا المؤلف أو ذاك أوعنوان هذا الكتاب أو ذاك.

فما ينبغي أن يشغلنا هنا، فيما وراء المبررات غير الكافية غالبا وواقعيا، هو هذا التبرير العميق أو هذه الضرورة التحتية الخفية التي قد تظهر لنا حقيقة انتماء النقاد إلى النطاق الميتافيزيقي نفسه الذي انتقدوه وحددوه من خلال تحديداتهم الهيجلية والهوسرلية والهيدجرية للنزعة الإنسانية الميتافيزيقية. باختصار، سواء كانت حقيقة هذه الانتماءات قد تم توضيحها أو لا، بيانها أم لا (ولدينا أكثر من مؤشر يدعو إلى الظن بانه لم يتم توضيحها أو بيانها) فالسؤال هو ما الذي يسمح لنا اليوم أن نعتبر كل من اعتقد أنه قادر - من خلال الميتافيزيقا أو ما في حدود الميتافيزيقا - على أن ينتقد النزعة الأنثروبولوجية أو يحد منها، مؤسسا لمذهب مركزية البشرية التي تعتبر أن الإنسان هو حقيقة الكون المركزية anthropocentrique؟ ثم ما هو محل رفعة الإنسان في فكر هيجل وهوسرل وهيدجر؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق