الموقف الابستيمولوجي والميثودولوجي للعلم الاجتماعي في فترة ما بعد الحداثة - أ.رحاب مختار - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 6 أغسطس 2020

الموقف الابستيمولوجي والميثودولوجي للعلم الاجتماعي في فترة ما بعد الحداثة - أ.رحاب مختار

علم الأنتربولوجيا كحالة

الملخص :

لقد شهد العالم  في شتى مناحي الحياة سواء أكانت اجتماعية أم فكرية أو سياسية أو اقتصادية فترة سميت بفترة الحداثة، وسادت ردحا من الزمن خصوصا في مجال الاجتماع والسياسة والأدب، ثم تلتها مرحلة أطلق عليها فترة ما بعد الحداثة، حيث سيطرت في هذه المرحلة فوضى الاتصال، والتنوع الإعلامي، والانترنت، والاتصالات اللاسلكية.

وتخلل خطاب ما بعد الحداثة مختلف أوجه الحياة الفكرية كعلم الاجتماع، الأدب، الفنون، الفلسفة، كما أثار هذا الخطاب دعاوى موت العلم الاجتماعي الحديث والأنتربولوجيا الحديثة، حيث يمكننا القول أن الاتجاه الابستيمولوجي ما بعد الحداثي في مجال العلم الاجتماعي  قد أصبح يشكل مؤشرا هاما في مناقشات الخطاب النقدي والنظرية الاجتماعية.

وسنعمل من خلال المداخلة كشف وتحليل ومناقشة الموقف الابستيمولوجي والميثودولوجي للعلم الاجتماعي في فترة ما بعد الحداثة.

الملخص باللغة الأجنبية

The world has witnessed in the various walks of life, whether social or intellectual, political or economic period called the period of modernity, and prevailed for so long, especially in the field of sociology, political literature, and then followed by a phase called post-modernity, which dominated at this stage, chaos communication, The Media Diversity, and the Internet, and wireless communications.
And included a letter of postmodern various aspects of intellectual life as a science meeting, literature, arts, philosophy, also raised this letter claims the death of social science talk and Anthropology modern, where we can say that the trend Alabstimologi postmodern in the field of social science has become an important indicator in the discussions critical discourse and social theory.
We will work through the intervention of the detection and analysis and discuss the situation and bstimologi la mithodologi of social science in the post-modern

المقـــدمة

بعدما مرت المجتمعات الإنسانية خاصة منها الأوربية بعد عصر النهضة بفترات زمنية اصطبغت بموجات فكرية اصطلح على تسمية بعضها بمرحلة الحداثة، ثم فترة ما بعد الحداثة، وكان من أبرز دعاواها الفكرية هي الوصول إلى عالم يتساوى فيه كل البشر، عالم يصبح فيه الفرد يشبه غيره من الأفراد في المأكل والملبس، في طرائق التفكير، عالم تغيب فيه الخصوصية ويعلو مكانها التماثل.

لقد أحدثت فترة ما بعد الحداثة من حيث كونها منظومة فكرية ارتباكا في الوسط العلمي والثقافي والفني، وجاء خطاب ما بعد الحداثة ببدائل في مجال الفن والفلسفة حيث أعلن عن نهاية التقاليد الحديثة المستندة على كانط وهيجل وماركس، لتحل محلها فلسفة ما بعد الحداثة، وتعلوا أفكار نيتشه، دريدا، ليوتار،كما أثار هذا الخطاب أفكارا في مجال العلم الاجتماعي الحديث.

حيث يرى فوكو وبودريلارد  Boudrillard أن مكانة بل وجود العلوم الاجتماعية والإنسانية بات غير مستقر، بل أصبح يشوبه القلق، فهناك إعلان عن نهاية " الاجتماعي" والواقعي، والنظرية، وبروز " اللامعنى" ويشير أنتوني جيدنز الى أن العلم الاجتماعي أصبح يواجه مشكلات أساسية، وفي هذه المداخلة سأتطرق بنوع من التفصيل إلى الموقف الابستيمولوجي والميثودولوجي للعلم الاجتماعي في فترة ما بعد الحداثة. مع التركيز على علم الأنتربولوجيا كحالة.

أولا:- ما بعد الحداثة المصطلح والاتجاه الفكري:

مع نهاية عقد الثمانينيات وبداية العقد الأخير من القرن الماضي واجه المفكرون صعوبة في إعطاء مدلول دقيق لمصطلح " ما بعد الحداثة" ذلك أن أمل الوصول إلى إعطاء تعريف جامع مانع " لما بعد الحداثة" يتنافى هذا الطرح ويتناقض مع جوهر وفكر ما بعد الحداثة، الأمر الذي يزيد هذا المصطلح غموضا وضبابية، مما يجعل منه مفهوما يستعصي عن الفهم والإدراك.

ويعزو بعض الباحثين أن افتقار هذا المصطلح إلى الوضوح في التنوع الهائل من الظواهر التي يعبر عنها هذا المصطلح، والتي يمكن إدراجها ضمن فئتين، أما الأولى فتتمثل في الأعمال الفنية والثقافية التي تتميز بالمعارضة والتناص والاندماج المختلط واللامتجانس بين الاتجاهات الأسلوبية العليا والشعبية، وتتمثل الفئة الثانية في ممارسات القراءة والتأويل الفلسفية التي تتميز بإنكار واضح لأي ادعاء بتمثيل الواقع بصورة حقيقية(1)  

ويمكننا القول وفقا لوجهات نظر بعض الباحثين ومقاربات بعض الابستيمولوجيين لمفهوم مصطلح ما بعد الحداثة، أن مصطلح ما بعد الحداثة يعبر من مفهوم " المفكرين العضويين" Organic intellectuals عند أنطونيو غرامشي A.Gramsci حيث يمثل ما بعد الحداثيون مجموعة نخبوية من المفكرين ينتمون إلى طبقة معينة ويمثلون جزءا من النخبة المثقفة التي تشكل الهوية الذاتية لهذه الطبقة، وتمتلك أيديولوجية معينة، ويسعى هؤلاء المفكرون إلى تحقيق الاستقلالية والهيمنة انطلاقا من إدراكهم لأزمة مشروعية الحداثة الغربية وتآكلها(2)

ثانيا:ما بعد الحداثة المقولات والرؤى الرئيسية:

إن من أبرز المقولات الأساسية التي تقوم عليها" ما بعد الحداثة" هو النقد الجذري والعنيف الموجه للتصورات ومقولات" الحداثة" فترى ما بعد الحداثة أن الحداثة مقولة عامة وشاملة لا بد من إخضاعها للنقد، وأن يسلط على المحاور والسرديات الكبرى للحداثة مجهر الشك.

وكان ليوتار قد استهل كتابه المعنون ب" الوضع ما بعد الحداثي" بقوله":" بداية يقوم هذا الكتاب على افتراض أن حال المعرفة يتغير بتغير المجتمعات ودخولها إلى ما يعرف بعصر ما بعد التصنيع ودخول الثقافة إلى مرحلة تعرف بمرحلة ما بعد الحديث، ويرجع هذا التغير في رأي ليوتار إلى الخمسينيات من القرن العشرين أو اكتمال إعادة البناء في أوربا"(3)

فالخاصية الأساسية لما بعد الحداثة هي التعددية غير القابلة للاختزال: تعددية الثقافات، التقاليد المجتمعية، الأيديولوجيات، صور الحياة، ألعاب اللغة، النظريات، الأنساق الفكرية، المعايير...الخ أي أن الأشياء في عالم ما بعد الحداثة تتسم بطبيعة تعددية، ولا يمكن ترتيبها في تسلسل زمني تطوري، يظهر بعضها على أنه متفوق عن بعض آخر أدنى،كذلك لا يمكن تصنيف بعض الأشياء باعتبارها صحيحة أو خاطئة، أو باعتبارها حلولا صحيحة أو خاطئة لمشكلات معينة، أي بمعنى أنه لا يمكننا بل يستحيل تقييم أي معرفة خارج سياق الثقافة، والتقليد، وألعاب اللغة، والتي تعطي لهذه المعرفة معنى، ومن ثمة ليس ثمة محاكاة ومعايير للصحة والصدق تصلح للتطبيق خارج سياقها الأصلي، وفي غياب معايير عامة تصبح مشكلة عالم ما بعد الحداثة ليست كيفية عولمة الثقافة الأرقى ولكن كيفية تأمين أو تحقيق الاتصال والفهم المتبادل بين الثقافات، إذن يخلو عالم ما بعد الحداثة من أية معايير للذوق، ويؤكد على النسبية ويبدد أحلام العمومية الحداثية(04)

وباختصار يمكننا القول أن ما بعد الحداثة ترفض التأويلات والتفسيرات المنبثقة من نظريات التي توصف بالشمولية من خلال دراسة الظواهر الاجتماعية عموما، وإقرار مكانها بديلا آخر يقوم على فكرة التفاعل بين التجمعات أو المجتمعات آخذين بعين الاعتبار بعد التعدد والتنوع الثقافي والسياسي والاجتماعي، بمعنى أن ما بعد الحداثة تتحدى كل الرؤى الكونية الشاملة سواء أكانت اجتماعية كالماركسية أو اقتصادية كالرأسمالية أو سياسية أو دينية كالإسلام والمسيحية، أو علم حديث، وتقوم بنبذها باعتبارها سرديات ونظريات كبرى شاملة تدعي الكمال واليقين وبالتالي ضرورة قبول ما يسمى بالنسبية الفلسفية الجديدة.

ثالثا:ما بعد الحداثة في ميدان علم الاجتماع والأنثربولوجيا:

قد أكد وأثبت العديد من رواد علم الاجتماع أن من أبرز مدلولات" الحداثة" هي ذلك العصر الذي سيطر فيه العقل والعلم وصارا من الوسائل الضرورية التي يستند إليها الإنسان في محاولة فهمه للعالم، والسعي لإيجاد حلول للمشكلات المطروحة.

ويمكننا القول أن علم الاجتماع والحداثة يكادان يمثلان وجهين لعملة واحدة، فعلم الاجتماع كان نتاجا للحداثة وانعكاسا لها، كما كان من أبرز الموضوعات التي اشتغل عليها علم الاجتماع، وتوسيع مناهجه وأدواته في ذلك والمجتمع الحديث والعمل على وصفه وتفسيره. وكان من أبرز الأفكار التي جاء بها علم الاجتماع في فترة الحداثة هو الاعتماد على العقلانية، واتخاذها كمدخلا والإيمان بفكرة التقدم والعمل من أجل اكتشاف قوانين التاريخ"أنصار الوضعية"، وإعطاء تصنيف عام للمجتمعات " بسيطة، تقليدية، حديثة" والثقة في تجسيد القوانين والنظريات المتوصل إليها في إطار الحياة الاجتماعية من خلال عمليتي السياسة والتخطيط، ويمكن الاعتماد على نتائج علم الاجتماع في فهم المشكلات الاجتماعية وإيجاد حلول لها.

أما ما بعد الحداثة من منظور سوسيولوجي ما بعد الحداثة فتتصل بكل ما أتى بعد الحداثة، وتعني التلاشي الأولي أو الحالي لتلك الصور الاجتماعية المرتبطة بالحداثة، يفترض بعض المفكرين أن ما بعد الحداثة حركة في اتجاه عصر ما بعد الصناعة وفي مقابل الإيمان الحداثي بثنائية " العلم ، العقل تتميز ما بعد الحداثة "أو الحداثة المتأخرة" بالانعكاسية أي الاهتمام بالآثار المدمرة للعلم التطبيق والبيئة الإنسانية، وفي مقابل الإيمان الحداثي بالتقدم الاجتماعي، تتميز ما بعد الحداثة بوعي متنامي بالمخاطر والآثار العكسية غير المقصودة لمسيرة التقدم، وكبديل عن القومية والنظر الى الدولة القومية باعتبارها هي حدود " المجتمع" حدثت عملية العولمة وتزايد تصدع الدولة القومية " المجتمع" بفعل العوامل الكونية: الاقتصادية والثقافية والسياسية وفي مقابل تأكيد علم اجتماع الحداثة على الإنتاج والتنمية الاقتصادية تؤكد ما بعد الحداثة على تزايد أهمية ما هو ثقافي:

-      تبادل المعلومات، وهي عملية ثقافية تتم من خلال وسائل الإعلام هو الملمح المميز لمجتمع ما بعد الصناعة.

-      الثقافة في صورة الاستهلاك وأسلوب الحياة هي التي تحدد الهوية بدلا عن العمل وفي الحداثة كانت السياسة والحكومة والدولة هي أساس المجتمع، وفي ما بعد الحداثة بات ثمة شك في السياسة ، الحكومة التقليدية، تنامي " سياسة الحياة" أي ربط الشخصي والعام كما في الحركات الاجتماعية كالنزعة النسوية الاجتماعية والنزعة البيئية، وفي مقابل  اتجاه نزوع الحداثة إلى رؤية العالم في سياق ثنائيات أو شيئين متعارضين، تتميز ما بعد الحداثة بالاتجاه إلى رؤية الترابط والتشابه والتوحد مثلا : الذاتي والموضوعي لا ينفصلان.(05)

-       أما بالنسبة للأنثربولوجيا فقد كان تيار ما بعد الحداثة مزلزلا إذا ما قارناه بميادين أخرى، كعلم الاجتماع، وعلم النفس والاقتصاد مثلا، ولعل السبب الرئيسي والجوهري في ذلك أن هذه الفروع العلمية قد اشتغلت على موضوعات كانت وليدة البيئة الغربية مما يسر لها بل أتاح لها الاعتماد على مداخل ديمقراطية، عكس الأنثربولوجيا تماما التي اتجهت إلى دراسة مجتمعات وثقافات الآخر، الأمر الذي طرح وبإلحاح مسائل التمثيل والسلطة الاثنوغرافية، وكان  توصل أنثربولوجيو المدرسة الثقافية الأمريكية إلى ما يسمى بالنظرية النسبية، قد أدى إلى تمرد الآخر وتحرره من المركزية والأنا الغربيين خاصة في فترة تداعي الهيمنة الاستعمارية، كل هذا جعل من الأنثربولوجيا أكثر ميادين العلوم الاجتماعية مسايرة لتيار ما بعد الحداثة، وتركز أنثربولوجيا ما بعد الحداثة على حماية الثقافات المحلية التقليدية، ومناهضة الامبريالية الغربية الساعية إلى تغييرها.

وتقوم أنثربولوجيا ما بعد الحداثة على رفض التصورات الحديثة في الأنثربولوجيا، والمقولات العامة الشاملة، والنظرية الكبرى، وفكرة اكتمال الوصف الاثنوغرافي، والسلطة الاثنوغرافية للأنثربولوجي، ونقد أو الأخذ من المصادر التي تنتقد الكتابات الاستشراقية خصوصا ما تعلق بفكرة خلق أو إيجاد " آخر" حتى يمكن رؤية معالم الذات من خلاله كل هذا شكل المنطلق الرئيسي للتطورات المعاصرة في الأنثربولوجيا.

ويرى بعض النقاد أن أنثربولوجيا ما بعد الحداثة تنتمي إلى الحداثة المتأخرة لا إلى ما بعد الحداثة على أساس أنها تتضمن كثيرا من مقولات ما بعد البنائية، ويقرر آخرون أن الأنثربولوجيا كانت دائما ما بعد حداثية على اعتبار أن دعامة الممارسة والنظرية الأنثربولوجية هي أفكار النسبية خاصة نموذج فرانس بواس، كذلك ما كشفت عنه الدراسات الحقلية في مطلع القرن العشرين من تنوع وتعددية الثقافات، بالإضافة إلى العلاقة الخاصة بين الباحث الأنثربولوجي والمبحوث في ممارسة الاثنوغرافيا. (06)

وقد كان المجهود الذي قام به أنثربولوجيو العالم الثالث وتحديدا الأفريقيين، قد ساهم ولو بطريقة غير مباشرة في ظهور تيار ما بعد الحداثة، وذلك من خلال النقد الذي وجهوه للبحوث الأنثربولوجية الغربية من خلال التركيز على تناول مجتمعا معينا من أجل صياغة اتجاهات البحث الأنثربولوجي وموضوعاته، ومن خلال هذه العملية النقدية أكدوا وأثبتوا الطبيعة المتغيرة للمعرفة الأنثربولوجية ونتائجها، كما كانت الأبحاث الأنثربولوجية الجديدة التي قاموا بها قد قدمت معرفة مهمة ساعدت على تصحيح مفاهيم وتصورات أساسية وتوجيه النقد للنظريات الكبرى، والإسهام في صياغة المعرفة الأنثربولوجية، وإعادة بلورت نظرية أنثربولوجية جديدة.

ويرى بعض المفكرين أن ما تعنيه ما بعد الحداثة للأنثربولوجيا تحديدا رخصة تحول لما بعد الحداثة خلق نوع من الانشغال بالأساليب المعرفية للحداثات الطليعية avant garde الجمالية والتي تعتبر كلاسيكية الآن ومنها على سبيل المثال الحداثة الأدبية التي تجلت في مطلع القرن العشرين، أو الشكلية الروسية Formalism أو تحديدا الطليعيين المتأخرين لعقدي العشرينات والثلاثينات مثل السرياليين، إذن ليس ثمة منحى جديد أو تجديدي فيما يعرف" بالاثنوغرافيا التجريبية" وذلك لأنها ترتبط بالتاريخ الحداثي، بيد أن الشيء الجديد والمثير للفزع هنا هو الاستخدام الصريح للحساسيات والتقنيات الحداثية وعلاقتها بالانعكاسية والكولاج collage، والمونتاج Montage والحوارية dialogism وذلك من خلال استخدام نوع أدبي أمبيريقي يدعي القدرة على إنتاج معرفة موثوقة صادقة عن طرائق أو أساليب الحياة الأخرى، ويتوزع النضال في الكتابات المعاصرة لأنثربولوجيا ما بعد الحداثة بين التقنيات والظروف التي تتسم بالتحرر والانفتاح للحساسية الحداثية، والرغبة المستمرة في كتابة تقرير عن واقع آخر غير الواقع الذي يعيشه الأنثربولوجي وتلتزم أنثربولوجيا ما بعد الحداثة بأساليب راديكالية للكتابة تتميز بالمحاكاة التهكمية.(07) 

وعموما فان تيار أنثربولوجيا ما بعد الحداثة هو فرع من مجرى حركة ما بعد الحداثة عند ليوتار وبودريلارد، وهابوماس وايهاب حسن، ومن أبرز مقومات تيار ما بعد الحداثة في الأنثربولوجيا هو الإيمان بضعف بل انتهاء وزوال النظريات الكبرى، إضافة إلى اعتماد تقنية التشويش ما بين جوهر الشيء والنصوص التي تقدم وصفا لهذا الشيء الحقيقي مثلما نراه عند كليفورد غيرتز، بالاضافة الى رفض نظرية التمثيل أي لا دعوى ولا ضرورة حسب أنصار ما بعد الحداثة إلى تمثيل الواقع بطريقة صادقة ومضبوطة، -هذا حسب رأيهم دوما- إن لم نقل أنه ثمة عالم حقيقي واقعي يمكن على ضوء اختبار صحة بعض النظريات، كما يجب حسب أنصار ما بعد الحداثة عدم وضع حاجز بين ما يحدث وتفسيره، بالإضافة إلى عدم سكونية المعاني، كما أن المعرفة هي تركيب مصطنع، والمعنى يتم إنتاجه وليس موجودا فيتم اكتشافه وتمثيله.

وعموما فقد تمثل تيار ما بعد الحداثة في اتجاهات متعددة كالأنثربولوجيا الرمزية، والتأويلية، والمعرفية، والنقدية، والماركسية والنسوية.

رابعا:الرؤى ما بعد الحداثية وتأثيراتها في العلوم الاجتماعية:

لقد كان من أبرز نتائج ومؤثرات رؤى ما بعد الحداثة للنظرية والحقيقة في العلوم الاجتماعية كثيرة لا تحصى، ومع أن دعاوى الحقيقة الصارمة قد فقدت مكانتها ومصداقيتها في العلوم الاجتماعية فان الحاجة إلى النظرية لا زالت-حتى يومنا هذا- حاجة مركزية ملحة بالنسبة للعلم الاجتماعي، في حين أن تيار ما بعد الحداثة يهتم بالجزئي واليومي وبالصور المباشرة، والحضور المباشر الذي ينطوي على غياب أية حقائق وراءه، وبالممارسات الحسية عموما، ويؤكد على الاختلاف ورفضهم كذلك للنظرية والتعميم والتجريد، وكما تركز أنثربولوجيا ما بعد الحداثة على كشف التناقض وتعتمد العرض والتذكير، والتلميح والتصوير المتليء بعناصر حياة، والإشارة كآليات للإقناع بدلا من العمل على التوصل إلى نظريات أملا في الاقتراب من الحقيقة.

إن نظرية ما بعد الحداثة ليست نظرية شاملة أي أنها لا تحاول تفسير كل شيء يتعلق بالحياة الاجتماعية وهي – في هذا الجانب- ليست مثل النظريات الكلية " الماركسية، والوظيفية" التي قدمت نماذج للعالم الاجتماعي باعتباره نسقا كليا يجدد نفسه، إذ يرى منظور ما بعد الحداثة أن العالم الاجتماعي يتكون من أفراد وجماعات وثقافات عديدة ومختلفة يكون سلوكها وهويتها متغيرة، ولا يمكن التنبؤ بها على نحو دقيق، كما أن ما بعد الحداثة النظرية لا ترفض النظرية رفضا مطلقا ولكنها ترفض النظرية الشاملة العامة.

لقد وجد العلماء الاجتماعيون الذين ينتمون إلى اتجاهات مختلفة أنه من الصعب التخلي عن النظرية كما طالب المتشككون من أنصار ما بعد الحداثة، أن عالما يخلو من النظرية يعني المساواة المطلقة لكل الخطابات ونهاية لكل المقولات المرجعية، وهو ما قد يفضي إلى تغير وتحول المناخ الفكري العام للعلوم الاجتماعية، فالحقيقة سوف تستبدل بأشكال جديدة من " الوضوح" ما بعد الحداثية والتهكم وذلك في إطار من الإرادة الفردية للهيمنة أو السيطرة، واكتشاف القوة من خلال الاعتدال وإعادة تقييم جميع القيم على أساس مختلف وهنا يقول ايهاب حسن يمكن أن يتحدث تيار العصر الجديد ما بعد الحداثي عن حركة من أجل الحقيقة من خلال وحدة كونية وسلام عالمي وعن قيم تحولية موجهة بشذا روحي ولكن كل ذلك من الصعب أن يتكامل أو يندمج في العلم الاجتماعي الحديث.

ويرى بعض الباحثين أن الجدل ما بعد الحداثي حول الحقيقة والنظرية لا يمثل سوى بعد واحد في تحديه الصارخ للعلم الاجتماعي الحديث فهو جدل عنيف يتميز بالشمولية، ويزداد عنف هذا الجدل الفكري ووطـأته إذا كان الأمر يتعلق بالابستيمولوجيا والميثودولوجيا.

خامسا:الابستيمولوجيا في مجال الأنتربولوجيا  

1- الابستيمولوجيا حداثية وما بعد حداثية في مجال الأنثربولوجيا:

            يمكننا القول أن الابستيمولوجيا مفهوم فلسفي يشير إلى ما يعرف ب"نظرية المعرفة" ذلك أن من المعروف أن المنهج في العلم الاجتماعي يتحدد من خلال افتراضات ابستيمولوجية، وفي مجال الأنثربولوجيا يمكننا القول – رغم غرابة الابستيمولوجيا لدى رؤى العالم الأنثربولوجية- أن أعمال ايدموندليتش، وكلود ليفي ستروس وبعض الأنثربولوجيين الأمريكان الذين حللوا الأنساق المعرفية يمكن تصنيفها من الاهتمامات الابستيمولوجية. 

            ويشكل النقد ما بعد الحداثي قطيعة ابستيمولوجية عن نموذج العلم الاجتماعي القياسي، والوضعية، والعلم الامبريقي، وهذا الذي جعل من النقد ما بعد الحداثي يكون عنيفا تجاه الأنثربولوجيا الحديثة، والعلم الاجتماعي الحديث أيضا، مما أدى إلى تحطيم أسس الأنثربولوجيا وحدوث اهتزاز في مشروعية هذا العلم ومصداقية أبحاثه أو ما يعرف بدراسة الآخر.

وقد أكد أنصار أنثربولوجيا ما بعد الحداثة أن النظريات الكبرى يمكننا الحكم عليها أنها عبارة عن أوهام وآراء مشكوك فيها، وحري بالأنثربولوجيا أن تعي مضامينها الابستيمولوجية مع التركيز على " الذاتية" و" الانعكاسية" التي يمكن من خلالها فتح آفاق جديدة للنظرية الأنثربولوجية والنظرة الأنثربولوجية للعالم.

والواقع أن الابستيمولوجيا والأنثربولوجيا لديهما الكثير من الأفكار التي يمكن تبادلها، والكثير من التفاعلات التي يمكن تحفيزها وتنشيطها، والفكر الأنثربولوجي ككل الذي تدعمه البحوث التجريبية يتحكم فيه استبعاد للنقد الذاتي فيما يتعلق بالممارسة العملية، ولكن أي أنثربولوجيا لكي تصبح راسخة ودقيقة للغاية  ينبغي أن تكون انعكاسية أو مرتدة على ذاتها أو متأملة للذات، بمعنى أن تتخذ الأنثربولوجيا من ظروف تواجدها الخاصة موضوعا للدراسة تماما مثل الثقافة واللغة، وابستيمولوجيا الأنثربولوجيا التفكير في النظام وظروف" حقائق النظام" –جزء لا يتجزأ وأحيانا جزء واضح من الممارسة الأنثربولوجية في حد ذاتها، إن الهدف الرئيسي للابستيمولوجيا في معناها الواسع يكمن في "شرح" أو على الأقل يكمن في تحليل كافة الأنظمة الخاصة بتوضيح وتفسير الحقيقة، أو توضيح مناطق معينة من الحقيقة- وباختصار كافة طرائق المعرفة التي ترسخت عن العالم من خلال ثقافات معروفة، وتوصف أنثربولوجيا ما بعد الحداثة بأنها أنثربولوجيا انعكاسية تتأمل مرتكزاتها الابستيمولوجية والمنهجية الخاصة، وكافة أساليب وطرائق المعرفة، ومن ثمة تعد أنثربولوجيا ما بعد الحداثة من أقوى الابستيمولوجيات.(08)

ويرى بعض المفكرين أن أنثربولوجيا ما بعد الحداثة قد خلقت "أزمة ابستيمولوجية" حادة تنبع من إدراك مؤداه: أن الأنثربولوجيين لا ينتجون " الحقيقة" وأن كل ما ينتجونه هو " النصوص" والنصوص حتما تكون خيالية" تصورية" أي أنها أشياء مصطنعة، وتكون هذه النصوص قابلة للتفكيك، ومن ثم تسقط فكرة الأنثربولوجيا ونظرتها إلى ذاتها باعتبارها علما موضوعيا، يتناول بالدراسة عالما يمكن معرفته وقادرا على إنتاج رصيد وتفسير دقيق ومتكامل للناس قيد الدراسة، وتلك فكرة منحت المشروعية والمبرر للعمل والممارسة الأنثربولوجية، ونتيجة للتشكيك في علميتها وما وجه إليها من اتهامات اتخذت الأنثربولوجيا وسيلتين دفاعيتين فإما أن تكون أكثر علمية، أو أن تتبنى أسلوبا للمعرفة الأنثربولوجية يرتكز على التأويل.

2-النقد ما بعد الحداثي لخطاب الأنثربولوجيا العلمية:

إن من أبرز الركائز التي قام عليها النقد ما بعد الحداثي لخطاب الأنثربولوجيا العلمية هو أن الاثنوغرافيا غير موثوقة وأن ما أنتجه أغلب الأثنوغرافيين لا يرقى أن يكون مجرد روايات خيالية.

وتواصل أنثربولوجيا ما بعد الحداثة مسيرة نقد الأنثربولوجيا العلمية، ولكن بصورة أكثر تطرفا وعنفا، وهي مسيرة الصراع بين الاتجاهات التأويلية والوضعية العلمية، بين الأنثربولوجيا العلمية والإنسانية، وربما ينتج الرفض ما بعد الحداثي المعاصر للخطاب العلمي في الأنثربولوجيا عن اخفاقاته المتواصلة التي أفضت الى أزمة " التمثيل الأنثربولوجي" ويرى كل من ماركوس وفيشر أن أزمة التمثيل الراهنة هي نتيجة للتفاعل المتوتر القلق بين مشروعين في الأنثربولوجيا، يمثل الأول التزام الاثنوغرافيا بالوصف المنظم" حتى وان كان جزئيا" للوحدات الاجتماعية والثقافية، والثاني يجسد حلم الأنثربولوجيا المستديم، الذي تحطم أخيرا بالتوصل إلى نوع من " الكلية الشاملة" أو بمعنى آخر حلمها بتحقيق مكانة علمية، لذلك وجه أنثربولوجيو ما بعد الحداثة، وعلى رأسهم تايلر انتقادات عنيفة للخطاب العلمي في الأنثربولوجيا، على سبيل المثال ارتأى تايلر أن العلم أسلوب عتيق " عفا عليه الدهر" وسعى الى ايجاد منهج أو أسلوب جديد للتمثيل الأنثربولوجي يبتعد كلية عن " الكلية" و" التعميم" ومع ذلك يرى عدد غير محدود من النقاد أن الأسلوب التأويلي ما بعد الحداثي يعد طريقة لاعادة بناء وصياغة " الكلية" " المعرفة التعميمية" في قالب نسبي عام، وفي الأنثربولوجيا يؤكد الديالكتيك اللانهائي المستمر بين الذات والموضوع الواقع غير القابل للتفنيد الامبريقي على استحالة تحقيق المعرفة العلمية التعميمية. (09) 

إن أبرز ما يطبع مرحلة ما بعد الحداثة هو الشك والارتياب فيما يتعلق بالسرديات الكبرى، ومن أبرز مقولاتها أنه يمكن القول أن العلم عبارة عن سردية ابستيمولوجية كبرى، وبالتالي استنادا إلى هذا يمكن رفضه، ويرى بعض المنظرين أن العلم كان حتى وقت قريب يقوم على مقولات حكائية " سردية" كبرى تحدد له غاياته فهو في غمرة عصر التنوير قد تبنى مقولة التقدم وقابلية الإنسانية للارتقاء اللامحدود، وامكانية تحقيق السعادة للجميع، وهو في عصر الوضعية قد اتخذ من النزعة العلمية نموذجا للتفكير ومعيارا لبناء مستقبل الإنسان على أسس موضوعية خالية من الخرافات والتراهات والميتافيزيقا.(10

3-النقد مابعد الحداثي للأنثربولوجيا باعتبارها علما امبريقيا:

يرى رواد تيار ما بعد الحداثة أنه من الاستحالة القول بوجود علم أمبريقي لدراسة الشؤون الإنسانية ودراسة المجتمع والثقافة، ولعل السبب الجوهري في ذلك هو الحضور القوي والمكثف للذاتية في الدراسات الإنسانية، ذلك أن من خصائص العلم الامبريقي هو الوصول إلى المعرفة الموضوعية، إضافة إلى القدرة على تطبيق البحث الكمي والقابلية للاختبار ولعل هذين الشرطين إضافة إلى شروط أخرى تغيب وتنتفي في علوم دراسة الثقافة، فالكائن الاجتماعي والثقافي ليس كائنا فيزيقيا، كما أن الظاهرة الثقافية أو الاجتماعية من أبرز خواصها أنها علاقتية وليست سببية ميكانيكية، هذا بالإضافة إلى استحالة الفصل بين ذات الباحث والذات محل البحث وهذا ما يؤدي إلى غياب الموضوعية، وبالتالي انعدام إمكانية وجود علم أمبريقي لدراسة الثقافة وبالتالي ضرورة اعتماد التأويل الذي يبقى ممكنا.  

ويرتبط هذا الموقف ما بعد الحداثي متعدد التفسيرات والأصوات بموقفهم من فكرة اليقين، إذ يقررون استحالة الوصول إلى ما العلوم الطبيعية من يقين، وهنا يتساءل ما بعد الحداثيون: هل هناك أمل في أن تصل إلى معرفة يقينية؟ ويجيب جان فرانسوا ليوتار بالإيجاب على شرط يكاد يكون مستحيلا- على الأقل في المدى المنظور- هو أن تستطيع البشرية انتزاع المعارف والمعلومات من سيطرة واحتكار المحترفين والمتخصصين لتصبح ملكا للناس جميعا(11)  

إن ترويج أنصار الامبريقية المنطقية منذ عدة عقود للامبريقية المتطرفة قد أتى بآراء ناقدة ومتطرفة من قبل أنصار ما بعد الحداثة لا سيما بخصوص الرؤى الوضعية، واقترحوا علم تأويلي لدراسة الإنسان يكون بديلا للامبريقية المنطقية التي تعاني قصورا ونقصا في بعض جوانبها، ومن أبرز ذلك حاجاتها لنوع من التحقق غير العشوائي إضافة إلى حاجاتها غير الواقعية لبيانات موضوعية خام، وكذا عدم استنادها إلى منهج استقرائي مؤثر لاستنتاج مقولات موضوعية من البيانات الخام.

سادسا: الميثودولوجيا والبدائل ما بعد الحداثية في مجال الأنثروبولوجيا

1-      المنهج الحديث أو ما بعد الحداثة:

يرى العديد من المفكرين أن المنهج العلمي ليس مجموعة محددة من الخطوات التي تلتزم ترتيبا معينا ليس لها أن تتجاوزه أو تعدله، وكأنه طائفة من الوصفات الناجحة، وليس هو مجرد منهج استقرائي أو استنباطي كالذي ألفنا ترديده لدى بيكون وجون ستيوارت ميل أوديكارت بحيث أوشكنا على تصوره لائحة أو قائمة بالتعليمات والإرشادات لا ينبغي الانحراف عن تطبيقها، فكل تلك التصورات إنما تنتمي إلى مراحل معينة من تطور العلم، وما دام العلم يتطور فلا بد أن منهجه أيضا يتطور فهو مركب مؤتلف مما نسميه بالاستقراء والاستنباط، وهو لا يقتصر على الاكتشاف فحسب بل يفضي إلى الإبداع أيضا، ويتميز العلم بمنهجه، فهو يتضمن مبادئ ومسلمات ويعالج الوقائع، ويقيم الفروض التي تربط بين الوقائع بواسطة مفهومات خاصة، لينتهي من ذلك إذا ما تحققت الفروض إلى صوغ القوانين والنظريات وهو في كل ذلك يصطنع الملاحظة والتجربة أداة له، متخذا من الرياضيات لغة لنتائجه كلما كان تكميم ظواهره المدروسة ممكنا(12)

غير أن أنصار ما بعد الحداثة لا يحبذون استخدام كلمة "منهج" رغم أنهم يخوضون فيما يسمى باستراتيجيات الحقيقة والمعرفة، والميثودولوجيا في أبرز معانيها هي الكيفية التي بمقتضاها يمكننا الولوج إلى دراسة موضوع ما حاز اهتمام الباحث.

وعموما يمكننا القول أن الميثودولوجيا هي مجموع الطرائق المنطقية والأدوات التي يستعين بها الباحث للوصول إلى اكتشاف الحقيقة من خلال دراسة الظواهر والوقائع، والكشف عن القوانين التي تتحكم في سير الظواهر،والميثودولوجيا الأنثربولوجية تعمل داخل عديد من الأطر النظرية في حالات مختلفة فقد يسودها التكامل والتناغم، كما يمكن أن تكون متناقضة ومتنافرة، غير أنها تتوحد في الغاية والهدف من خلال تقديم نماذج ارشادية.

إن ما بعد الحداثة ترفض الأرصاد والتفسيرات التي تقدم للثقافة والمجتمع، والتي تنتج عن المنهج والبحث العقلاني الموضوعي، وتقرر أنه لا توجد تفسيرات أو أرصاد متميزة للعالم، وهكذا لا تفتت حركة ما بعد الحداثة اليقين في مجال معرفي بعينه، ولكنها تفتت وتمزق التقاليد المعرفية والمنهجية التقليدية، ومع ذلك لا تقدم مناهج جديدة يعتد بها، وكل ما تقدمه هي مجموعة لا محدودة من التفسيرات الممكنة للعالم المحيط، وفي حين يرى البعض أن ما بعد الحداثة تقدم بديلا ميثودولوجيا يرى البعض الآخر أنها تسحب البساط من تحت أقدام كل المنهجيات، إن البحث الاجتماعي بعامة يرتكز على قناعة محورية بالمنهج.(13)

2-      المناهج ما بعد الحداثية: 

وتشتمل ما بعد الحداثة على أسلوبين منهجيين رئيسيين إضافة إلى استراتيجية بحثية يمكننا حصرها فيما يلي:

1- التفكــيك:

  يرتبط مصطلح التفكيك باسم جاك دريدا وان كان المفهوم ذاته موجودا في كتابات عدد من الفلاسفة والمفكرين المحدثين، ويعتبر المفهوم من أصعب المفهومات في كتابات وأعمال ما بعد البنائيين وأكثرها غموضا، ومع أنه يعتبر مفهوما مركزيا في أعمال دريدا إلا أنه لم يحاول أن يضع له تعريفا جامعا مانعا، وقد أدرك بعض أتباع دريدا هذه الصعوبة، ويقول جوناثان كللر   Cullerفي كتابه " عن التفكيك" " النظرية" " والنقد بعد البنائية" أنه يمكن أن ننظر إلى التفكيك من عدة زوايا: إما أنه موقف فلسفي أو إستراتيجية سياسية أو عقلية، وإما على أنه أسلوب أو طريقة للقراءة، وأن المهتمين بدراسة الأدب يأخذون التفكيك على أنه منهج للقراءة والتفسير(14)

ويشير ليتش Vincent;B,Leitch في دراسته عن  النقد التفكيكي إلى الفوضى الشاملة التي تنتج عن التفكيك بقوله" إن التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرب كل شيء في التقاليد تقريبا، وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلاقة،واللغة، والنص، والسياق والمواقف والقاريء ودور التاريخ في عملية التفسير، وقد حاول كريستوفر نوريس تقريب المفهوم إلى الأذهان حيث يذهب إلى أن المفهوم يعني ضمنا إغفال أو التعاضي عن كل ما يعتبر قضية مسلما بها في اللغة، وفي تجربة الحياة اليومية على السواء بل وفي كل الإمكانات المتاحة، وبالتالي تعتبر مقبولة وسوية في مجال الاتصال والتواصل الإنساني. (15)

2- التأويل الحدسي:   

إن التأويل عكس التفكيك فإذا كان هذا الأخير يؤكد على القدرة النقدية الهدامة والسلبية، فان الأول يعبر عن وجهة نظر ايجابية، ومن أبرز خصائصه هو ابتعاده عن التفسير السببي، كما يمتاز بأنه:" تأويل ما بعد حداثي" تأويل " بين نصي" يزرع شكوكا حول العقل والعلانية، وينفذ قضية " الحقيقة" كما ينكر نظرية التمثيل الحديثة ويعتبرها أمرا مستحيلا واقعيا.

كما يختلف التأويل ما بعد الحداثي عن التفسير في العلم الاجتماعي الحديث، والتفسير التقليدي في العلم الاجتماعي الحديث هو محاولة العثور على الأسباب التي بتأثيرها تقع الحوادث، أو هو البحث عن الشروط والظروف المحددة التي تعين وقوع الحوادث(16)

ومن أبرز المعاني التي يعبر عنها التأويل ما بعد الحداثي هو فهم الثقافات كما لو كانت مثل " اللغة" وتندرج هذه الرؤية ضمن الاتجاه التأويلي في الأنثربولوجيا الذي يبتعد عن الأبنية الشكلية ويركز على تأويل الثقافات، كما أنه تأويل استبطاني أي ضد موضوعي: كما أنه نوع من البصيرة غير مستبطن من البيانات يسعى إلى تبديد الذاتية الحديثة، والتمييز بين الحقيقة والقيمة، وقد تولد عن هذه الرؤية في الأنثربولوجيا التمركز حول الآخر والإنصات له ومحاورته، مما أنتج ما يسمى بالسرد.

ويرى البعض أن النقد ما بعد الحداثي يلقي بظلاله على المعنى الذي وصل إليه البنائيون أو التفكيكيون، ويقرر أن المعنى لا يمكن أن يتحدد وأن هناك دائما وأبدا لا معنى، أي أنه ليس ثمة معنى حقيقي في أي نص من النصوص.(17)

3- الاثنوغرافيا متعددة المواقع:

            تتشكل فكرة الاثنوغرافيا متعدد المواقع في اطار فكرة" النسق العالمي" وتحوي استراتيجيات فرعية تتحدى الافتراضات والتوقعات الكامنة في المنهج الاثنوغرافي ذاته، وقد أفرز رأس المال الفكري ما بعد الحداثي عدة أفكار ومفاهيم ساهمت في بلورة الاثنوغرافيا متعددة المواقع، والتي جاء ظهورها رد فعل للتغيرات الامبريقية التي تجتاح العالم، لسياقات الإنتاج الثقافي المتحولة وبتأثير ما بعد الحداثة، لم يعد ينظر إلى النسق العالمي على أنه إطار شامل متشكل نظريا يوفر سياقا للدراسة المعاصرة التي تتناول الشعوب والموضوعات المحلية التي يلاحظها الاثنوغرافيون ملاحظة لصيقة وعن كثب، ولكن أصبح هذا النسق متكاملا مع موضوعات الدراسة متعددة المواقع والمنفصلة وكامنا فيها.(18)

لقد أثارت إستراتيجية الاثنوغرافيا متعددة المواقع بعض الهواجس المنهجية، حيث يقرر النقاد أن الاثنوغرافيا تركز بؤرة الاهتمام على " اليومي" والمعرفة الحميمة " الوجه للوجه" بالمجتمعات المحلية الصغيرة والجماعات، وأن فكرة أن الاثنوغرافي ينبغي أن تمتد خارج نطاق المحلية لتمثيل نسق يمكن فهمه بعمق عن طريق النماذج المجردة وحشود الإحصاءات تبدو متناقضة مع طبيعة الاثنوغرافيا وتخرج بها عن حدودها المعروفة والاثنوغرافيا متعددة المواقع في رأي النقاد تؤدي إلى ضعف ناتج الدراسة الحقلية من معارف ومشاهدات ومعطيات.(19)    

سابعا:مشكلة المناهج ما بعد الحداثية

رغم هالة القداسة العلمية والدقة فوق المنطقية التي أضفاها أصحاب وأنصار ما بعد الحداثة على مناهجهم ما بعد الحداثية كالتفكيك مثلا الذي عبروا عنه أن يمتلك مناعة ضد النقد، من خلال استحالة تطبيق العقل الحديث والتحليل المنطقي في تحليل التفكيك، ورغم محاولة أنصار ما بعد الحداثة الهروب وتفادي النقد، نجد أن المناهج ما بعد الحداثية تعاني جملة من المشكلات التي يمكن حصرها فيما يلي:

-      أن تناول المناهج ما بعد الحداثية للظواهر الاجتماعية والثقافية في ارتباطها بمحيطها السياسي والاجتماعي والاقتصادي يعرض جملة هذه المناهج بتأويلاتها إلى شبكة من التأثيرات والضغوط.

-      بعثرة السلطة الاثنوغرافية وتوزيعها في الكتابة والنص الاثنوغرافي.

-      التقليل من الذاتية وإتاحة الفرصة للآخر الثقافي ليتحدث عن نفسه، غير أن هذه القيمة مرتبطة بمدى قدرة الإخباري على فهم وإدراك بيئته الثقافية وواقعه المعيش بصورة صحيحة.

-      نقد ما بعد الحداثيون المناهج السابقة عنهم بسبب اعتمادها النظام، غير أن هؤلاء نجد ممارساتهم لا تخلو من " نظام" و" صرامة".

-      يرى بعض النقاد أن التفكيك الذي اعتمده كثيرا ما بعد الحداثيون أصبح يبدو أكثر ضعفا وأكثر بعثا على الملل و النقص، فهو لا يقدم إسهاما منهجيا ايجابيا وفعالا.

-      انصب النقد ما بعد الحداثي على " المركب" و" التعميم" وقد نتج عن ذلك تقييد لمقولة" الكل سائر" لأن ما بعد الحداثة تستثني المركب والتعميم بين أشياء أخرى.

-      تميز التفكيك بالعدمية وفوضى التأويل، فيرى البعض أن التفكيك يؤكد على لا نهائية المعنى أو الدلالة، فقد انتقل المعسكر التفكيكي من رفض صريح لقصور البنائية بأنساقها وأنظمتها في تحقيق المعنى، إلى حق القارئ. كل قارئ في تحقيق المعنى الذي يراه ثم إن القول بلا نهائية المعنى ارتبط بالقول بأنه لا توجد قراءة صحيحة وقراءة خاطئة، ولكن توجد قراءات لا نهائية حتى القول بأن كل قراءة إساءة قراءة كان يشير ولو بصورة ضمنية إلى أن كل قراءة إساءة قراءة هي قراءة صحيحة أو مناسبة على الأقل إلى أن تجئ قراءة\ إساءة قراءة أخرى تفككها، إذن كل إساءات القراءة، باستخدام قواعد المنطق البسيط، قراءات صحيحة إلى حين، والربط بين المقولتين السابقتين يؤدي في نهاية الأمر- كما يرى بعض معارضي إستراتيجية التفكيك إلى اللامعنى، أي أن التفكيك من ناحية انتقل من نقيض إلى نقيض حينما رفض قصور النموذج البنائي في تحقيق المعنى وتحول إلى المعنى اللانهائي.(20)

الخـــــاتمة:

في خاتمة هذا المقال يمكننا القول أنه إذا كان تيار ما بعد الحداثة، قد أثار العديد من القضايا الجدلية في أوساط العلم الاجتماعي عموما، والأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية بوجه خاص، فنرى أن أغلبية الأنثربولوجين يدافعون عن كينونة الأنثربولوجيا باعتبارها علما أمبريقيا، وإذا كان في زاوية من زوايا الدراسة الحقلية تحضر الذاتية من قبل الباحث فهذا لا يلغي إمكانية التفكير في ايجاد أنثربولوجيا موضوعية امبريقية.

      كما يؤكد بعض النقاد أن الموقف ما بعد الحداثي مآله إلى العدمية، وفي المقابل يقر تيار ما بعد الحداثي أن الانتقادات ما بعد الحداثية التي امتازت بعنف تجاه الابستيمولوجيا والمنهج الأنثربولوجي أملها هو إعادة بناء علم أنثربولوجي جديد، وليس إعلان موت علم الأنثربولوجي، والعلم الاجتماعي فالفكر النقدي في أي مجال من مجالات العلم هو ثورة على التسليم بالوصول إلى اليقين، ومراجعة الثوابت وزعزعة المناهج المسلم برسوخها.

 

الهوامش والمراجع

1-  جان فرانسوا ليوتار: الوضع ما بعد الحداثي، تقرير عن المعرفة، ترجمة أحمد حسن، دار شرقيات، القاهرة، 1994، ص27.

2- مصطفى خلف عبد الجواد: قراءات معاصرة في نظرية علم الاجتماع،"مترجم" مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، القاهرة، 2002، ص180.

3- مصطفى خلف عبد الجواد: قراءات معاصرة في نظرية علم الاجتماع، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، القاهرة، 2002،ص126.

4- مارغريت روز: ما بعد الحداثة، ترجمة أحمد الشامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994، ص102.

5- باتريك قورت، جين لوك جامارد: من الابستيمولوجيا الى الأنثربولوجيا وبالعكس، أفكار متبادلة ومتعارضة، ترجمة، عبد الحميد فهمي، مجلة ديوجين، 180، ص117.

6- محمد علي الكردي:الحداثة وما بعد الحداثة في الفكر الغربي، مجلة ابداع، ع07، يوليو 1996، ص27.  

7- أحمد عبد المعطي حجازي: الحداثة لا ما بعدها، ابداع، ع11، نوفمبر، 1992،ص08.

8- صلاح قنصوه: فلسفة العلم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002، ص145.

9- أحمد أبوزيد: البنائية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة، 1995، ص290.

10- عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة- من البنيوية الى التفكيك، عالم المعرفة232،أبريل 1998،  ص291.

11- صلاح قنصوه: مرجع سابق، ص149.

12- عابد خزندار: عن الحداثة وما بعدها، إبداع، ع 11، نوفمبر، 1992، ص76.

19- Ibid,p83

13- عبد العزيز حمودة: مرجع سابق، ص397.

-14  Edrain Ardener,Social Anthropology,America Ethnologist,vol,16,1989,p137

15- Zygmunt Bauman,Is there apostmodern sociology? Theory culture and society,vol  05,1988,p218.

16- Marcus, G,E,Marcus,Ethnography through thick and thin Princeton university press.newjersey , 1998.p184

17- Paul Smith, writing general knowledge and postmodern Anthropology, unpublished internet.

18- Rosenau,P,M,postmodernism and the social sciences,Insights,Princeton university press.1992,p117

19- Marcus,G,E,Ethnography through thick and thin,Princeton university press.newjersey , 1998,p81

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق