رغم قولنا بأنّ كتب طرابيشي ليست أكثر من نسخ مزيدة ومنقّحة
لإشكاليات الجابري فهذا من باب عدم انبثاق أو اكتشاف السّؤال النّقديّ
الخاصّ من طرف طرابيشي، السّؤال القادر على أن يشقّ طريقا أكثر عمقا في الطّرح
الإبستيمولوجيّ لقراءة آليات التّراث عوض اجترار مضامينه بالبحث في الاشكاليات
نفسها. ومع ذلك فنحن نقدر دون أي تبخيس العمل الجبّار الّذي أنجزه. فسيرورة
الكتابة عند طرابيشي يبيّن منطق تطورّها الدّاخليّ، من المجلّد الأوّل إلى المجلّد
الخامس، على أنّ القراءات الأولى للأعمال الفكريّة النّقديّة غير قادرة على تكوين
تصوّر واضح يسمح بالنّقد أو بالانتقاد بوجهيه الإيجابيّ أو السّلبيّ، كما حدث معه
في المقال التّثمين حول كتاب الجابري “تكوين العقل العربي”. لأنّ بكلّ وضوح كما
قلنا سابقا النّقد معرفة. فما قدّمه طرابيشي من صفحات رائعة في البحث والحفر
والتّنقيب في صورة مجلّدات نقديّة ثريّة وموسوعيّة، لم يكن بسبب رغبة ذاتيّة في
حبّ الظّهور، بل الضّرورة نقديّة معرفيّة بالأساس، وهي كامنة في منطق سيرورة الفكر
وهو يؤزّم نفسه في الوقت الّذي يؤزّم علاقته بإشكاليات الجابري كتحدّ أيقظ فعل
التّمرد داخله، وهو يبحث لنفسه عن موقع نقدي يسمح بالتّحرر من سطوة “الأب
المزعوم”. لذلك يمكن القول بأنّ سؤال الإبستيمولوجيا الّذي رافقه بتطوّر في
دلالاته ووظائفه النّقديّة، بشكل أو بآخر، منذ كتابه “مذبحة التّراث”
الإبستمولوجيا هي في الأساس منهج خارق لصفيح الحواجز الإيديولوجيّة، وعلى الرّغم
من أنّ ميزة الحفر الإبستمولوجيّ تكمن تحديدا في قدرته على الوصول إلى الجذور
المشتركة أو البنية التّحتيّة الأساسيّة للواجهات الإيديولوجيّة وللبنى الفوقيّة
المتنوّعة، أو حتىّ المتناقضة”. كان هذا السّؤال بمثابة الموقع النّقديّ
الّذي سمح لطرابيشي بنوع من الاستقلال النّسبيّ عن إشكاليات الجابري، إذا استثنينا
عودته إلى نقد نقد العقل العربي في الجزء المتعلّق بمناقشة نصيّة ابن حزم، وهذا ما
جسّده إلى حدّ مّا كتابه ” من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”. فالمقاربة
الإبستيمولوجية المتضافرة مع النّقد التّاريخيّ والمسنودة بالكثير من المفاهيم
النّفسيّة في التّفكيك النّقديّ لمدوّنة الحديث والفقه السّنيّ، أي هذا التّراث
المتلبس بشكل قهري قداسي لحياة النّاس، والّذي عطّل العقول وصلبها إلى درجة المنع
الإراديّ لعمليّة التّفكير، فتلك المقاربة الإبستيمولوجيّة، هي الّتي سمحت بنزع
الأسطرة والقداسة عمّا هو بشري في الرّسول والصّحابة وعلماء الدّين، الّذي سيّجوا
خطابهم بشكل إلهي مقدّس، لا يسمح بالشّك والسّؤال والنّقد، بقدر ما يفرض القبول
القهري بكلّ مضامينه. لهذا عمل طرابيشي على البحث عن الهامش والمنسيّ والمسكوت
عنه، مع الكشف عن الدّوافع في التّأويل وشروط نظام الخطاب الّتي جعلت الشّافعي في
رسالته يرفع السّنة إلى مقام الوحيّ والانتصار لأحاديث الآحاد مع القول باحتواء
الكتاب كلّ النّوازل. ممّا سهّل عمليّة ضمور وانحسار فاعليّة العقل مع التّقدّم
التّاريخيّ” الشّافعي قد وضع تاريخ هذا العقل وراءه لا أمامه وأسقط عنه صفة
التّاريخيّة ليحيطه بهالة المقدّس الّذي يحكم التّاريخ ولا يحكمه التّاريخ”. نحن
لن نسعى إلى تقديم مضامين الكتاب فصلا فصلا، ولا الإكثار من الاستشهاد بنصوص من
كتاب طرابيشي، لأنّنا نفترض أنّنا نخاطب قارئا لكتبه، بقدر ما يهمّنا الإشارة إلى
أهميّة القراءة النّقديّة الدّاخليّة للخطاب المؤسّس لمدوّنة الحديث في صورة إسلام
حديث ينسخ إسلام القرآن، وهو يحيط نفسه بسياج إلهي خوّل له الانتصار كتيّار ديني
سياسي ليس فقط على باقي التّيّارات الفكريّة الدينيّة، بل وبشكل أساسي الانتصار
على العقل بآليات منع التّفكير العقليّ والنّقديّ بشكل خاصّ. وما يلفت الانتباه في
هذا الكتاب هو قدرته النّقديّة على توجيه عمليّة إنتاج السّؤال النّقدي بشكل يحقّق
أهدافا مترابطة ومتمفصلة بشكل تفاعلي على مستوى إستراتيجيّة الكتابة، بمعنى حضور
المقاربة الإبستيمولوجيّة والمنهجيّة النّقديّة التّاريخيّة في تفكيك نصيّة العقل
السّنيّ من خلال تعرية أطره المرجعيّة وآلياته الدّاخليّة والكشف عن تاريخيّته
وبشريّته وشروط تكوّنه كخطاب “للحقيقة المنزّلة والمقدّسة” متعال مطلق. وفي هذا
النّقد انتصار للمعرفة العلميّة وللعقل والعقلانيّة النّقديّة ولجدل التّاريخ
البشريّ، الشّيء الّذي يسمح بتحرّر الدنيوي من سطوة الدينيّ السّياسيّ المتمثّل
بإسلام الحديث، والعودة إلى الدنيويّ والرّوحانيّ المتمثّل بإسلام القرآن،
بمعنى أن تحقّق كلّ هذه الأهداف هي بمثابة أرضيّة علمانيّة للفعل البشريّ
والتّاريخ الإنسانيّ. هذا ما قصدناه في إشارتنا السّابقة لكيفيّة الكتابة
النّقديّة عند طرابيشي، كأنّ هناك تكثيفا تاريخيا ونقديا وإبستمولوجيا بين جدل
الوسائل والأدوات النّقديّة والأهداف المرسومة من أجل نهضة جديدة، أو نشأة
مستأنفة. في هذا السّياق ووفق هذا الأفق النّقديّ ينبغي فهم اشتغاله النّقديّ على
مفهوم المعجزة وبشريّة الرّسول مع إسقاط أهليّته التّشريعيّة. وتعرية التّسييج
الإلهيّ لمدوّنة الحديث المفتعلة في ضخامتها إلى درجة إلغائها للعقل، حيث كانت
تضيّق دائرة العقل مع التّقدّم التّاريخيّ من الشّافعي في ميله الوسواسي القهري،
وابن حزم الّذي يعاني رهاب القياس وابن قتيبة في رهاب الاختلاف…، هذه التّعرية في
المقاربة كقراءة داخليّة كشفت عن كمّ هائل من التّناقضات والمغالطات وطرقا في
ألاعيب التّخريج الممارس في إنتاج قداسة الحديث. كما عملت آليّة النّقد الدّاخليّ
على تفجير بديهيات ومسلّمات العقل المسلم عموما، وفي قناعه السّني بشكل خاصّ، ممّا
سيدفعه إلى مراجعة جذريّة للتراث كإنتاج بشري في أطره ومضامينه وآلياته. وبناء على
هذه الممارسة النّقديّة تمّ التّأسيس لحريّة الإنسان في عيش تاريخه البشريّ
واستعمال عقله في تعامله مع النّصوص بعيدا عن قداسة الإسناد وقريبا من لغة منطق
العقل، الشّيء الّذي سمح بالتّشكيك في عدد من المرويات، بل تمّ إسقاط قناع اليقين
المتلبس وجه القداسة فظهرت جثّة الحديث الضّخمة عارية، من أسطورة قداستها، كمجرّد
إنتاج بشري، أمام مرآة النّقد التّاريخيّ والنّفسيّ والإبستيمولوجيّ. في هذا
النّقد الإبستيمولوجي تتحقّق معركة الذّات ضدّ الذّات وهي تكشف عن سرّ أفول العقل
وعن كيفيّة تمركز وانتشار التّخلف والانحطاط، كما أنّها تكشف عن الشّر الجذريّ،
القابع في الأعماق بلغة وتصوّرات ومعتقدات التّعالي والقداسة، القابل للبربريّة في
أيّة لحظة تاريخيّة مأزومة، والبعيد كلّيا عن إسلام القرآن في التّسامح، من خلال
آليات التّحكم في العقل والقلب معا إلى درجة إلغاء إنسانيّة الإنسان في صنع تاريخه
البشريّ.
– وجهة نظر: حضور الأسئلة مرّة أخرى
بعد أن قرأت بعض كتب
طرابيشي: المثقّفون العرب والتّراث، مذبحة التّراث، من النّهضة إلى الرّدة، مصائر
الفلسفة بين المسيحيّة والإسلام، و جميع مجلّدات نقد نقد العقل…، تولّد لديّ سؤال
مشاكس لكلّ هذا الكمّ الهائل من الصّفحات الموسوعيّة العلميّة المعرفيّة الّتي استحقّت
مرحلة من العمر من حياة المفكّر جورج طرابيشي، وهو يطارد الإشكاليات الزّائفة
للجابري، والمغالطات التّاريخيّة والمعرفيّة، وتهافت التّوثيق العلمي في أبسط
معانيه، والوصم بأبشع النّعوت القدحيّة في حقّ المفكّر محمد عابد الجابري :
السّذاجة، السّرقة، والسّطو على مجهود الآخرين…، كما تراوح نقده للجابري بين
نقد الإحالة ونقد الأطروحة، إلى جانب محاولته البحث العميق رغبة في التّأسيس
المعرفيّ العلميّ للممارسة النّقديّة، متخطّيا على حدّ تعبيره النّقد إلى التّفكيك
الّذي لا يهدف إلى الهدم فقط، بل يسعى أيضا إلى إعادة البناء الصّحيح والسّليم
الصّائب. ينخرط طرابيشي في ممارسة نقديّة تجعل القارئ غير الملم بالشّروط
النّظريّة والمنهجيّة لنقد النّقد يتساءل حول أهميّة هذا النّقد الصّراطي الأقرب
إلى التّحقيق البوليسي، والقريب من لغة الخطّ الصّحيح في النّبذ الحزبي لسحب
عضويّة الانتماء من قبيلة النّقاد العرب، كما لو كان يرفع شعار الحركة
التّصحيحيّة، في وجه هذا ” النّجم الثّقافي الّذي تمّت مبايعته أستاذا للتّفكير لا
بالنّسبة إلى الجيل الصّاعد من المثقفين العرب فحسب، بل بالنّسبة أيضا إلى شريحة
واسعة من الجيل المخضرم منهم”. من هنا ضرورة مواجهة التّحريفيّة في البحث
العلميّ الخاصّ بالفكر النّقديّ للتراث العربيّ الاسلاميّ، أفقا للنّهضة والحداثة.
وهكذا تناسلت كتب التّراث، من “المثقّفون العرب والتّراث” إلى خاتمة العقد “من
إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”. السّؤال الّذي تكوّن لديّ هو سؤال الرّفض لخطاب
الحقيقة، وبتعبير أدقّ لثقافة الحقيقة الأقرب لخلفيات ومنطق وآليات الفرقة
النّاجية ذات الوصمة الصّراطيّة في الإبقاء على مدوّنة واحدة وحيدة وإحراق باقي
المدوّنات، وبالخصوص مدوّنة الجابري. هكذا تورّطت الكتابة النّقديّة في لعبة
التّصفيّة ليس بالمعنى التّفكيكي ضدّ الميتافيزيقا السّاكنة في نسيج الفكر النّقدي
المتشبّه بالفلسفة مادمنا لا نملك فلسفة، بل معاودة إنتاجها – الميتافيزيقا-
بأسلوب جب أو حرق ما سبق، حيث ينطلق النّقد من الفرضيّة “الإبستيمولوجيّة الّتي
تجعل النّاقد يزن العمل بمعيار الصّواب والخطأ الّذي في حوزته، وتمكّنه من أن
ينتصب قاضيا يدافع عن الحقيقة “كلّ الحقيقة” وينزل بضرباته العنيفة على كلّ من
سوّلت له نفسه الزّيغ عن الصّواب والخطأ لسبب أو لآخر”. صحيح بأنّ النّقد
معرفة، لكن بالمعنى الّذي يجعل السّؤال النّقدي لا يكون إلّا حيث يمكن أن لا يكتمل،
إنّه نقص وسلب دائم ولا علاقة له بالإثبات والحقيقة، ومن ثمّة تختلف معركة التّمرد
الفكريّ والثّقافيّ البنّاء، كما عرفتها كلّ من الفلسفة الغربيّة والنّظريّة
النّقديّة في سيرورة تطوّرهما من عصر النّهضة مرورا بقرن الأنوار وما جاء بعده من
تحوّلات وهزّات عنيفة في الفكر والواقع ومراجعات نقديّة وصولا إلى الفترة
المعاصرة، عن منطق التّصفيّة والإبادة للتّراكم في المعرفة والخبرة والتّجربة،
لأنّ فيه- منطق التّصفيّة- إفقار للذّات والموضوع، للفكر والواقع، ولسلب السّلب.
هكذا هو النّقد، رغبة جنونيّة في تأسيس وجوده المستحيل، حيث السّؤال ينفتح على
سؤال آخر في نوع من جدليّة الاستيعاب والتّجاوز بمنطق الأزمة والصّراع الّذي يولّد
الأسئلة المنتجة للفكر، حيث لا شيء يكتمل في ثرائه وغناه إلّا كلّما ازداد فقرا
ونقصانا، فالسّؤال النّقدي يحقّق حضوره حيث يصعب وجوده كفكر جاهز، بمعنى أنّه في
صراع مستمرّ مع السّائد والنّاجز. وهذا ما جعلنا نرى قصورا وضمورا – رغم ضخامة
جثّة مجلّداته- في الأسئلة النّقديّة لطرابيشي حول نقد الخطاب المعصوب، وفي نقد
نقد العقل العربي الّتي اختزلها في تصحيح الزّائف والمحرّف والمشوّه، وفي الدّفاع
عن الحقيقة، أو في تشغيل الوجه الآخر لجدول الحضور والغياب الّذي استعمله الجابري
في قراءة العقل العربي في تكوينه وبنيته.” وما دمنا من جهتنا بصدد مشروع لنقد
النّقد، فليس أمامنا مناص من أن نضع بدورنا جدولا للحضور والغياب، ولكن بعد أن
نعكسه…إنّنا سنحضر ما يغيبه الجابري وسنغيب ما يحضره”.
نحن لا نهدف إطلاقا إلى
التّقليل من قيمة المجهود النّقدي الّذي قام به الرّجل وهو يقدّم درسا في البحث
المعرفيّ والعلميّ، وفي التّأسيس لمقاربة نقد النّقد في الفكر النّقدي العربي
المعاصر، وهي المقاربة الّتي تستلزم أسسا فلسفيّة ومعرفيّة وأدوات مفهوميّة وآليات
منهجيّة. وفي سياق هذه المقاربة نفهم نقده الصّارم لمسألة التّوثيق العلميّ في
التّعامل مع المصادر والمراجع، سواء في تكوين الإحالة أو بناء الأطروحة. أو في ما
يتعلّق بضرورة المعرفة في النّقد، وباطّلاع واسع وشامل وعميق حين يتعلّق الأمر
بنقد النّقد.
لقد كنّا نأمل ونحن نتتبّع
هذا العمل النّقدي الموسوعي أن يتحرّر طرابيشي من سطوة وقهر الأب الّذي هو
التّراث، من خلال الاشتغال النّقديّ على اجتهادات الجابري بما يسمح بالتّمرّد
البنّاء في اكتشاف السّؤال النّقدي القادر على أن يكون براديغما جديدا في محاولة
الإجابة عن الأسئلة الّتي تتطلّبها المرحلة الحضاريّة واللّحظة التّاريخيّة، بدل
أن يرى النّشأة المستأنفة في العودة إلى إسلام القرآن، وهي مرحلة ماضويّة كيف ما
كان مستوى خطابها العقلي فهي بحكم التّاريخ وتطوّراته تعتبر مرحلة ما قبل “العقل”
الّذي تأسّس في الحضارة العربيّة الاسلاميّة، كما أنّها ما دون طموح الخطاب
النّهضوي الحديث والمعاصر. لأنّه لا يمكن أن تكون أجنحتها علمانيّة وجذورها
سلفيّة، حيث لا يستقيم التّفكير بكلّ المنهجيات الحديثة في العمل على إنتاج مفهوم
إيديولوجي بامتياز: العلمانيّة السّلفيّة. ففي هذه التّمييز بين إسلام التّاريخ
وإسلام الرّسالة نوع من التّقسيم والتّشطير في قراءة أرادت لنفسها أن تكون نقديّة
إبستمولوجيّة للتّراث تتجاوز الخطاب المعصوب، كما تتخطّى نقديا مذبحة التّراث.
“ينبّه دريدا غلى مخاطر النّقد. ذلك أنّ من شأن العديد من أشكال النّقد أن تبقى أسيرة ما تنتقده، فتشكّل بذلك عنصرا في لعبة إطار يتجاوزها التّجاوز”،
فالكثير من نصوص الخطاب العربيّ المعاصر الّذي مدّده طرابيشي على سرير النّقد
النّفسيّ والمعرفيّ والتّاريخيّ والإبستمولوجي أعاد إنتاجه، ففي نقده
الشّديد للجابري ومحمد عمارة والأرسوزي… حول مسألة “الآخر” الدّاخلي الّذي
هو جزء من الذّات والشّريك في بناء الحضاريّة العربيّة الاسلاميّة، حيث حمّله
هؤلاء مسؤوليّة الفساد والتّخلف والانحطاط، وتمّت تسمية ساكنة البلدان
المفتوحة بأسماء قدحيّة : الأعاجم، الجراثيم والسّموم كما يؤثّر الأرسوزي أن يقول،
أو بالهرمسيين، والباطنيين كما كتب الجابري…هكذا تحمّلوا تهمة أفول العقل
والحضارة.” لا يتهيّب الأرسوزي من تسمية بعض كبار هؤلاء المستعربين ممّن أفسدوا
لسان العربي من “أمثال ابن المقفع والفارابي وابن سينا والغزالي” فإنّه لا يرى
للعرب من مخرج من مأزق الانحطاط والانحلال والانحراف إلّا العودة عن كلّ التّراث
الّذي خلّفه هؤلاء “الدّخلاء”، وبالتّطهر من كلّ السّموم الّتي أفرزوها والّتي
أمست بمثابة “ظلف” أو “قرمة” ميّتة تمنع تدفّق النّسغ الحّي في الجسم
العربيّ.” لذلك يدعو إلى العودة إلى الجاهليّة ” نحن إذ نعود إلى عهدنا الجاهلي
نلتقي مع الحضارة الحديثة، مع نظام قيمها ومع أمانيها.” وبمنطق التّفكير
التّبريريّ نفسه، في البحث عن مشجب وهمي خارج الذّات تعلّق عليه عذابات الجرح
النّرجسي الّذي ولّدته صدمة الحداثة ورضة حزيران، نجد ” داعية العروبة الحضاريّة –
محمد عمارة – لا يعادي الاستعراب بل يرى على العكس أن ما جلب لوثة الانحطاط هو
الامتناع عنه، أي إصرار السّلالات العرقيّة والقوميّة الأخرى، الفارسيّة
والتّركيّة في طور أوّل، والمملوكيّة والعثمانيّة في طور ثان على بقائها في حالة
عجمة، وعلى رفضها التّعريب لسانا وفكرا وحتّى دينا. ولكنّ هذا الاختلاف الجزئي في
تشخيص الدّاء يستتبع تفارقا كلّيا في تعيين الدّواء: فبدلا من “الجاهليّة
العربيّة”، وحتّى ضدّا عليها، لا يطالب مؤلّف العرب والتّحدي – الّذي لا تجمع بينه
وبين مؤلّف نظرة جديدة إلى التّراث سوى صلة النّاسخ بالمنسوخ- إلّا ببعث (الإسلام
العربيّ).”
فإذا بطرابيشي بعد الجهد
الكبير الّذي بذله في التّنقيب والتّفكيك والنّقد والحفر العميق في الكثير من
المصادر والمراجع والمظان الفقهيّة والتّاريخيّة والمنهجيّة…، يرى الحلّ، أو ما
يسمّيه الثّورة الكوبرنيكيّة ببعث (إسلام القرآن) ” ومن هذا المنظور المحدّد فإنّ
الانقلاب الكوبرنيكي المنشود في الثّقافة العربيّة الاسلاميّة يمكن أن يأخذ –ضمن
جملة أشكال أخرى- شكل عودة إلى الإسلام القرآني دون ما عداه. واليوم كما بالأمس
البعيد، فإنّ القرآنيين الخلّص يمكن أن يضلعوا بدور ريادي في هذا الانقلاب”. هكذا
يسقط في معاودة الإنتاج لما كان ينتقده حيث يخلص في الفصل الخامس المعنون بـ ”
محاولة للتّفسير” من كتابه “المعجزة أو سبات العقل في الإسلام” فيقول: ” العامل
الرّئيسي يتمثّل بلا أدنى شكّ في إسلام الفتوحات الّذي أحدث تحوّلا جذريا في طبيعة
الإسلام الأوّل، وتحديدا منه المكي…إنّ تلك الشّعوب هي الّتي فرضت بنيتها الدينيّة
القديمة على الدّين الجديد، وليس الإسلام هو الّذي فرض عليها بنيته الأولى القابلة
للوصف بأنّها رساليّة.” هكذا يحمّلهم هو أيضا مسؤوليّة سبات العقل وكلّ خرافات
استنامة العقل ومنع التّفكير من خلال تراث المعجزات في نوع من التّمييز الاستعلائي
بين أهل الفتح وساكنة البلدان المفتوحة، بل تمّ التّأسيس إبستمولوجيا ونقديا
تاريخيا لشرعيّة القول بأنّ الأعاجم أو الموالي أو أهل البلدان المفتوحة أو
ما شابه ذلك من الأسماء الشّنيعة والقدحيّة المختلفة في تحقيق هدف واحد هو أفول
العقل وسقوط الحضارة ونسخ إسلام الرّسالة. وهنا لا بدّ أن نفكّر مع طرابيشي ضدّ
طرابيشي حين يحلّل ويعمّق بحثه ونقده للجابري خاصّة عندما يقول في الفصل المعنون
بـ” التّوظيف المركزي الإثني لنظريّة العقل” : “إذا كانت تلك المركزيّة الإثنيّة،
المطوّرة إلى مركزيّة أنويّة، قد أباحت للجابري/ لطرابيشي، في سياق مغاير تماما هو
سياق إدانة الاستشراق، أن يتّهم هيجل بأنّه مارس “إمبرياليّة” على تاريخ الفكر
لأنّه تعامل مع الفكر الغربيّ ” كفكر للعالم كلهّ”، فماذا نقول عن “الإمبرياليّة”
الّتي يمارسها الجابري/طرابيشي على فكر/ديانات الحضارات الأخرى،…عندما لا يكتفي
باستبطان نظريّة هيجل واستنساخها بحرفيتها، بل يشتطّ في تطبيقها، من خلال غلوّه في
أحكامه السّلبيّة عن الحياة العقليّة/ الدينيّة لشعوب الحضارات الأخرى”.
وبعد سنوات من العمر في
البحث العلميّ والفكر النّقدي، وبعد مئات ومئات الصّفحات يصل طرابيشي في نقده
الدّاخليّ إلى الآليات الدّاخليّة، “إسلام الحديث”، المسؤولة عن إقالة العقل في
الحضارة العربيّة الاسلاميّة، لا كما حدّدها الجابري في العوامل الخارجيّة
الغنوصيّة والهرمسيّة. إنّنا إزاء الوجه والقفا لا أقلّ ولا أكثر، لقد ابتلع
طرابيشي طعم وهم الإشكاليات الّتي طرحها الآخرون وصار يكرّر ما قاله ضحاياه بقناع
آخر. حيث لا فرق بين ما يقوله الأرسوزي، محمد عمارة والجابري…، وبين ما يكرّره
طرابيشي، فلنقدّم بعض نصوصه على سبيل المثال لا الحصر لندلّل على ما نقوله في
حقّه. ففي نقده للجابري قال: ” والواقع أنّ الجابري لا يكتفي بأن ” يجغرف”
الإبستمولوجيا، بل ” يقومنها” أيضا. وعلى هذا النّحو يصطنع أساسا جغرافيا وقوميا
معا لتوزيعه الثّلاثيّ لأنظمة المعرفة:” نظام لغوي عربي الأصل، ونظام معرفي غنوصي
فارسي الأصل، ونظام عقلاني يوناني الأصل”. بينما هو/ طرابيشي / يوزّع الإسلام بين
الأصل والفرع، بين الدّين والسّحر، بين العقل والمعجزة، بين القرآن والحديث، بين
الحضارة والانحطاط…
“إنّما من منظور هذه التّركيبة السّكانيّة لبلدان الفتوحات نستطيع
أن نفهم التّحول الانقلابي في الإسلام من لاهوت الرّسالة إلى لاهوت المعجزة، مع
كلّ ما ترتّب على هذا من تحوّل من تشغيل نسبي للعقل بصدد”المعجزة العقليّة” الّتي
جسّدها القرآن إلى شلل مطلق للعقل في قبالة المعجزات الحسيّة الّتي ستنسب إلى
الرّسول بالمئات، بل بالآلاف.” وفي هامش الصّفحة نفسها يوضّح أكثر كلامه بالقول: ”
ما دمنا نتحدّث عن التّركيبة السّكانيّة للبلدان المفتوحة وبنيتها الذّهنيّة لا
بدّ أن نذكر أنّه بالإضافة إلى المأثور النّبوي التّوحيدي كانت هناك أيضا مأثورات
سحريّة جلبتها معها العناصر السّكانيّة الّتي لم يكن التّوحيد النّبوي من تقاليدها
الدينيّة مثل الديالمة والسّلاجقة، فضلا عن الرّقيق والإماء الّذين جلبوا
بالملايين وكانت ديانتهم الأصليّة سحريّة أكثر منها نبويّة. ولا شكّ أنّ هذه
البنية العقليّة السّحريّة كان لها أثر كبير في الطّابع السّحري الّذي تجلببت به
كثرة من المعجزات المنسوبة في الإسلام إلى الرّسول والأئمّة.” وهنا يتذكّر القارئ
الفصل الخاصّ بمفهوم العقليّة في مجلّده الأوّل حيث انتقد بعمق معرفي “زلاّت
وسطحيّة الجابري”.
وفي الأخير نشير إلى عدم
قبول طرابيشي من الجابري تحامله على الشّيعة وتحميلهم كلّ آفات اللّاعقل والانحطاط
وهو يتمرّد عن هذا “الأب المزعوم” باستنساخه كاملا فيما يشبه تكريس فرضيّة الجمود
والتّخلّف: قتل الآباء للأبناء بدل قتل الآبناء للآباء.” الإسلام الشّيعي تكوّن
وتبلور كديانة مضطهدة…وفي مواجهة هذا الواقع الاضطهادي والرّزوح تحت وطأة الشّعور
باختلال دائم وغير قابل للتّعديل في ميزان القوى، ما كان لمنطق آخر أن يصمد غير
منطق المعجزة. فالمعجزة هي سلاح من لا سلاح له. ولئن لم يطّور الإسلام السّني-
إلّا فيما ندر- معجزات إضافيّة على المعجزات النّبويّة فلأنّه لم يكن بحاجة إلى
إنجاز قفزة سحريّة فوق الواقع الّذي كانه واقعه، وهذا على العكس من الإسلام
الشّيعي الّذي ما كان له أن يستمرّ لولا رهانه على المعجزة الّتي من شأنها أن تقلب
ميزان القوى…وبقدر مّا أنّ المعجزة هي خرق لقوانين العقل والواقع، وبقدر ما أنّ
العقلانيّة هي قدرة على التّكيّف مع الواقع، فقد كان في مستطاع الإسلام السّني،
المتوافق مع واقعه كأكثريّة غالبة، أن يجيز لنفسه، حتّى وهو يمارس منطق المعجزة،
التّقيد بدرجة من العقلانيّة لا يستطيع أن يقيّد بها نفسه الإسلام الشّيعي غير
المتوافق مع واقعه كأقليّة مغلوبة.” لم نقدّم هذا الاستشهاد الطّويل إلّا لعمق
تعبيره الصّريح عمّا نبّه إليه دريدا من سقوط النّاقد في تكرار المنقود. وتزداد
المفارقات حين يحمل مسؤوليّة أفول العقل والحضارة، سواء في كتاب” المعجزة” للإسلام
الشّيعيّ، أو في كتابه الأخير من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” يحملها للإسلام
السّني، وبالتّدقيق الأعاجم “الآخر الإثني” (من هذا المنظور حصرا، ليس جزافا أن
نكون توقّفنا عند توصيف ابن سعد في طبقاته لهشيم بن بشير بأنّه كان ” مولى لبني
سليم”. فالغالبيّة السّاحقة من روّاة السّنة ومن مدوّني السّنة كانوا من الموالي،
أي من أعاجم البلدان المفتوحة، بدءا بمصنفي الصّحيحين: البخاري ومسلم بن
الحجاج…فالإسلام الّذي حمل إلى أعاجم البلدان المفتوحة، وفي مقدّمتهم الفرس، كان
إسلام قرآن لا يد لهم فيه، وما أنزل أصلا برسمهم. وبالمقابل، أنّ الاسلام الّذي
أعادوا تصديره إلى فاتحهم كان إسلام سنّة كانت لهم اليد الطولى في إنتاجه، وهو
الإنتاج الّذي استطاعوا أن يؤسّسوا أنفسهم من خلال اتقان صناعته.”
وماذا
بعد؟
هكذا نجد أنفسنا أمام السّؤال
النّقدي الصّعب هل تجاوز طرابيشي الاستفسارات السّائدة، واستطاع إنتاج السّؤال كما
يحدّده موريس بلانشو” إنّ ما يميّز السّؤال أساسا هو أنّه بحث. والبحث دوما بحث عن
الجذور. إنّه استقصاء وغوص حتّى الأعماق وحفر في الأسس وتقصّ للأصول. وعلى ذلك فهو
حركة وانفتاح.” نحن نعتقد رغم كلّ شيء أنّ طرابيشي أنجز خطوة بحثيّة جريئة في
التّأسيس للتّاريخيّ والنّسبيّ كأرضيّة للسّيادة البشريّة في الدّولة والمجتمع
والثّقافة بعيدا عن سطوة المطلق الدّيني كعائق ثقافي سياسي اجتماعي تاريخي
وإبستمولوجي في وجه النّهوض الحضاري والسّيادي للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة،
بما يسمح لها بامتلاك كلّ مقوّمات مجتمعات الدّولة الحديثة، خاصّة في ما يتعلّق
بسيادة الشّعب والقانون. لذلك عاد إلى الجذور قصد نزع الأسطرة والقداسة عن مدوّنة
الحديث والفقه السّني، محاولا التّأسيس البشري لمفهوم التّشريع بعيدا عن التّسييج
الإلهي للفقه السّياسيّ. ليته كان اشتغل بعمق، وطوّر هذه الأطروحة، في كتبه، خاصّة
في كتابه الأخير، وتوسّع فيها بما يكفي من الحفر والنّقد والسّؤال قصد تقديم
محاولات مقنعة لفهم سطوة المركز الفكريّ الديني المحافظ على الهامش الفكري الفلسفي
والديني المتنوّر، إلى درجة عبر التّاريخ العربيّ الإسلاميّ كان يبتلع المركز
الهامش. وأيضا لفهم جدليّة الانغلاق والانفتاح. أي نزيف انغلاق الدّوائر الفقهيّة
الدينيّة، بما يشبه نمو التّخلف “والانفتاح” النّسبي الاجتماعي السّياسي الّذي يجد
نفسه محاصرا مقيّدا بالمطلق الأعمى للانغلاق. كنّا نأمل أن يمضي طرابيشي في سؤاله
البحثي قصد تحرير مفهوم التّشريع والسّيادة البشريّة، بدل أن يرى النّشأة
المستأنفة في الانتقال من مطلق بشري إلى مشروع مطلق، أي من اسلام الحديث إلى إسلام
القرآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق