الحياة الخاصة للأحجار – جون دافيد - ترجمة ناصر الحلواني - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 30 أكتوبر 2020

الحياة الخاصة للأحجار – جون دافيد - ترجمة ناصر الحلواني


هل تملك الأحجار عقولاً؟ قليل من الفلاسفة المعاصرون، على استعداد (ربما فقط بعد إلحاح) على الاعتراف بأنهم يرون أن الإجابة:”نعم”، أو على الأقل: “نوعا ما”. ففي العقد الماضي، برز بعض الأكاديميين الحقيقيين، مثل الأسترالي فرييا ماتيوس، والأمريكي دافيد سكربينا، والبريطاني جالن ستروسن، كأبطال لمذهب المادة الواعية([1])Panpsychism، الذي يرى أن كل شيء في الكون، بمعنى ما وبدرجة ما، يتصف بالوعي.

جذور الوعي الكوني

إن فكرة اشتمال الجمادات على نوع ما من الوعي، ليس جديدة تماما، فقد دعا لها ألفريد وايتهد([2]) في بدايات القرن العشرين. وبالرجوع إلى ما قبل ذلك بكثير؛ فسنجد واضحاً أن المجتمعات البدائية كان لديها اعتقاد بأن الطبيعة مسكونة بأرواح عاقلة، في مقدورها التحكم في البيئة ونذكر -على سبيل المثال-: حوريات الماء العذب naiads ، وحوريات الأشجار dryads ، في الأساطير اليونانية.

خلال فترة تاريخية؛ اضمحل مثل هذا الاعتقاد بأن لكل شيء في الكون روح، ولكنه لم يندثر. في القرن السادس قبل الميلاد، كتب طاليس، أول فيلسوف يوناني، عبارته الشهيرة: “كل الأشياء تذخر بالآلهة”، وذكر ارسطو أن مرجع هذا القول عند طاليس هو ملاحظته أن نوعاً معيناً من الأحجار ، حجر المغناطيس له قوة غامضة في جذب الحديد، بناء على ذلك، ذهب إلى القول بوجود روح إلهية في كل حجر منها، وأنها قادرة على الوصول إلى المسامير الحديدية وجذبها، وإذا كانت هذه الأرواح تعيش في أحجار المغناطيس، فكَّر طاليس: لم لا تكون موجودة في سائر الأشياء؟

لم ينتهي الأمر عند طاليس، فقد كتب أفلاطون، في القرن الرابع قبل الميلاد، معتقداً أن الكون هو في جوهره وعي، وكيان حي، ينطوي على روح العالم ) anima mundi anima كلمة لاتينية بمعنى “روح”، وقد استخدمها الكُتَّاب المتأخرون لترجمة الكلمة اليونانية التي استخدمها أفلاطون، “النفسpsyche ، والتي يمكن أن تتضمن كلاً من معنى”الروح” و”العقل”)، وقد ذهب أتباع أفلاطون المتأخرين، الذين نحوا بمذهبه نحواً صوفياً باطنياً، وهم أتباع الأفلاطونية المحدثة Newplatonism، إلى ما هو أبعد من ذلك؛ ففي القرن الثالث الميلادي؛ زعم أفلاطون أنه باشر تجربة الإتحاد بالروح الكونية، عبر أحوال الوجد التأملي. واعتقد يامبليخوس، هوتابع آخر للأفلاطونية المحدثة، أن العالم ليس وعياً فحسب، بل أنه يحتشد بالأرواح، على غرار روح آريل في مسرحية العاصفة لشكسبير، وأنه يمكننا استدعاء هذه الأرواح، بواسطة طقوس معينة، لتنفذ تعليماتنا، ومن بين ذلك: إكساب التماثيل الحجرية الحركة (حرفيا: “منحها روحاً”(

حاولت الكنيسة القضاء على تلك النزعة الوثنية، لكنها لم تفلح أبداً في إتمام ذلك، فما إن حلَّ القرن السادس عشر حتى كان اهتمام عصر النهضة بالنزعات الروحانية القديمة منتشراً في أرجاء أوروبا، فعلى سبيل المثال، اعتقد الكيميائي باراسيلسوس، بالإضافة إلى تأسيسه لنظرية الأصل البكتيري للأمراض، أن كل عنصر من العناصر الأربعة: التراب، والهواء، والنار، والماء، يملك روحا محركة له، قوى سحرية [3] elementals، يمكن استحضارها لأداء بعض الطقوس السحرية. وبالنسبة لعنصر التراب ـ وفيما يخص موضوعنا: الأحجارـ فإن قواها السحرية هي كائنات قزمة[4]  gnomes. في الوقت نفسه، يقول الفيلسوف الهرمسي[5] جيوردانو برونو(1548-1600): “كل شيء يملك روحا”، وحتى فيلسوف الطبيعة الإنجليزي  المحنك وليام جيلبرت، زعم في أطروحته “عن المغناطيس[6] عام 1600 أن للمغناطيس روحاً، وأن البوصلة تشير إلى جهة الشمال بفعل انجذابها إلى روح الأرض، وهذا مما قد يوميء طاليس وأفلاطون بالموافقة عليه.

المادة والعقول الحديثة

لكن؛ لماذا تراود الفلاسفة المعاصرين، الذين نشئوا على نمط الأفكار الموروثة عن نيوتن، والتي ترى أن الكون في جوهره آلية هائلة، فكرة أن الجمادات واعية؟ إجابة ذلك نجدها في السؤال نفسه؛ فالقول أن الكون آلة هو مجاز أثير لدى العلماء المعاصرين الأوائل، وهو يتضمن أن الكون يتركب من أجزاء متمايزة، وأن في مقدورنا التمرس على توقع سلوكه الشبيه بآلية الساعة. لكن قد ينبري البعض قائلا: الساعات ليس لها عقول، أما الكون فيشتمل على عقول، نحن نعرف ذلك؛ إذ أننا كبشر نملك بعض هذه العقول. لكن كيف يمكن لعقولنا أن ترتبط بتلك المادة التي تشكل أجسادنا الشبيهة بالآلة، وبسائر الكون، الذي يتحرك في اتجاه عقارب الساعة؟ كيف على سبيل المثال، يمكن لعقلي ـوليس مخي- أن يؤثر في حركة يدي بواسطة التفكير؟

شغلت هذه المشكلة الفلاسفة لقرون؛ ففي القرن الثامن عشر، حاول الكاهن الأنجلوأيرلندي جورج بيركلي تطهير هذه الفكرة، بفسخ العلاقة الغامضة بين العقل والمادة، بإدعائه الجريء بأن ليس ثم وجود لذلك الشيء المسمى مادة. ما يوجد هو عقول وأفكار في عقول، وما يُزعم أنه أشياء مادية؛ كالأحجار ـ أو حتى الأمخاخ ـ  فليست إلا  أفكار في عقول من أدركوها بأبصارهم، أو هي أفكار في عقل الإله؛ إذا لم يكن هناك من يراها. غير أن هذا الحل العقلاني المحض، لمشكلة التفاعل بين العقل والمادة، والذي يُدعىالمثالية، لم يلق قبولا. فمن المؤكد أن صامويل جونسون لم يرق له هذا الرأي، إذ قال: “أنا أنكر ذلك الرأي هكذا”، وركل حجراً. من وجهة نظره، فقد حسب أن بإمكانه البرهنة على أن الحجر هو كتلة من المادة، بركله إياها.

 في القرن العشرين، أتجه الفيلسوف الإنجليزي جيلبرت رايل وجهة مغايرة؛ فقد أصر على عدم وجود ذلك الشيء المسمى عقل، حيث أننا نعني بكلمة “عقل” كيان منفصل شبحي، يسكن الجسد، إلى أن يقطع الموت تلك الصلة. وذهب إلى أن العقل لا يزيد عن كونه قابلية في الجسد للاستجابة، بطرق محددة، لمحفزات محددة، فلا يوجد، بنص عبارته: “شبح في الآلة”. غير أن هذا الحل، المنتمي إلى المذهب الفيزيائي[7]، كان صعب القبول أيضا. كيف يمكن أن نفكر إن لم يوجد ذلك الشيء المسمى عقل؟ ما الذي يمكن أن نفكر به؟

هناك أيضا؛ مسألة أخرى تتعلق بمصدر العقل والوعي. فإذا كان سائر الكون مجرد مادة لا تتصف بالتفكير أو الشعور، فما الذي حدث إذاً ومنح أسلافنا شرارة الإدراك الأولى؟ ربما يقتنع البعض بالقول أن واقعة التفاعل بين العقل والمادة، وواقعة وجود عقول بخلاف ذلك الكون المادي، هي معجزات، ويتركوا الأمر هكذا. غير أن ذلك، بالنسبة للملحدين، واللاأدريين، وبالمثل بالنسبة للمؤمنين، الذين لا يرغبون في التغاضي عن هذه الأمور الغامضة، غير مقبول.

العالم المتصف بالوعي  The Panpsychic World

ما انتهى إليه مذهب  المادة الواعية، أنه إذا كان العقل مادة في هيئة مخ، إذاً بالمثل، فإن المادة المشكولة في هيئة مخ هي عقل. لكن هذا المذهب لا يحصر تلك النظرة في المخ فقط. فلماذا نفترض أن هناك نوعين مختلفين للمادة في الكون؛ نوع لا يملك حساً، ومنه يتكون معظم الأشياء، ونوع خاص آخر، صار بشكل ما، داخل رؤوسنا؟ يقول جالن ستروسن: “أراهن بقوة على عدم وجود مثل ذلك التباين (الاختلاف) الجوهري في قلب الأشياء”. بالنسبة له، يسهل الاعتقاد بكون الوعي مكوناً أساسياً في طبيعة المادة ـوفي كل ما هو مادة- بالتالي، فبالنسبة للمنتمين إلى مذهب المادة الواعية، فإن أفضل تفسير للكيفية التي تطور بها الطين الأولي إلى مادة رمادية [المخ]، هو أن المادة الطينية الأولية كانت تتصف بالوعي، وإن بدرجة طينية دنيا. بعبارة أخرى يرى المنتمون لمذهب المادة الواعية أن أفضل تفسير لكيفية عمل العقل والمادة معاً، هو أن كل مادة تتصف، بدرجة ما، بالوعي. هكذا يصبح الوعي أكثر تعقيدا، كلما صار تركيب المادة أكثر تعقيداً.

إذاً، كيف يكون الحال إذا كنت حجرا؟ ما لم يكن لدينا معلومات من الحجر ذاته (ربما يمكن ذلك إذا كان تمثالا مسحورا) فلا فكرة لدينا. لكن معتنقو المذهب يرون أن عدم توفر معرفة بالأمر لا يعد مشكلة، وأشاروا إلى أننا لا نعرف كيف يكون الحال إن كنَّا خفافيش (كيف يكون الحال وأنت تبصر بواسطة سونار؟) لكننا راضون باعتقاد أن الخفافيش لديها نوع من الوعي. لكن بخلاف الخفافيش، فالحجر لا يملك مخاً، أو أعضاء حس. لكن مذهب المادة الواعية لا يذهب إلى أن الجمادات لديها أفكار أو إدراكات بذات الكيفية التي يجعلنا بها المخ قادرين على امتلاك أفكار أو إدراكات، فهي لا تزيد عن كونها واعية. ربما كان وعيا هينا وبسيطا بنحو لا يمكن تصوره، مقارنة بوعي الكائنات الحية معقدة التركيب، لكنه، مع ذلك، يبقى وعيا.

الحقيقة أن ستروسن يمتنع عن قول أن الأحجار واعية “كأحجار”؛ بل بالأحرى، فإن جزيئاتها الأصلية، والتي تتكون الأحجار منها، هي ما تستمتع “بهمهمة الشعور بالوجود”. لكن بالنسبة لدافيد سكربينا فإن هذا الزعم العبثي بسيكولوجية الأحجار قد انتهى إلى نوع من الإنحياز لتشخيص وأنسنة المادة. لماذا لا يجب أن تكون الأحجار واعية؟

يحرص المنتمون إلى مذهب المادة الواعية على عدم الحديث عن الصوفية الباطنية، أو بحسب اصطلاح ستروسن: “woo woo “جلا جلا، فيما يتعلق بأفكارهم، وعلى الرغم من أن موقفهم قد يكون مفهوما من جهة رغبتهم في تحقيق الموثوقية الأكاديمية، إلا أنه أمر معيب؛ إذ يتسق مذهب المادة الواعية مع التراث الروحي والفلسفي، الذي يتجاوز الثقافات والقرون ـ بداية من فكرة روح العالم عند أفلاطون، وصولا إلى القول أن طبيعة بوذا تحل في كل شيئ. كما أن فكرة أن كل شيئ يملك وعيا أوليا، هي فكرة أساسية في المذهب الرومانسي ـ أنظر عبادة الطبيعة عند ووردزورث([8]) ـ  وقد وجدت هذه الفكرة موضعا لها في اللاهوت المسيحي، من خلال أعمال الأب بيير تيلار  دي شاردان، عالم الحفريات والفيلسوف. وكذلك، مثل أفلوطين، فقد كان للناس، عبر التاريخ، تجارب خاطفة ومتكررة بالوعي الكوني، لمحات للواقع يرونه فيها ككل منتظم يتصف بالحياة ـ وتلك من متتمات مزاعم المنتمي لمذهب المادة الواعية. مثل هذه الخبرات قد لا تُعد دليلا، ولكنها تبقى كشواهد، ومن المؤكد أنها لعبت دورا في حالة مذهب المادة الواعية.

مقصد مذهب المادة الواعية

إن التكهن بالحياة الخاصة للكيانات الجيولوجية الجامدة قد يبدو كلعبة ذهنية عقيمة، غير أنها ذات مضامين عميقة. إن فكرة النظر إلى العالم كآلية، والموروثة من عصر التنوير، تشوه صورتنا عن ذواتنا؛ فطالما أن هناك عقول في كون أهوج، فإننا لن نشعر بالراحة. كما أن هذا يعني أننا معرضون للنظر إلى جميع الأشياء من حولنا ـ المعادن، والنباتات، والحيوانات، وحتى البشر ـ باعتبارها مجرد مواد خام نقوم باستغلالها، فهناك رابط مباشر بين المذهب المادي الميتافيزيقي (وفكرته أن كل ما هو موجود مادة)، وبين المذهب المادي الأقتصادي (والذي يفترض أن الممتلكات المادية هي الأمر الأهم)، وبين الأزمة البيئية الملتهبة، غير أن المادية الاقتصادية ليست حتمية. ويمكن لمذهب المادة الواعية أن يساعدنا بتوجيه أنظارنا إلى واقع الاهتمامات البيئية الملحة. يقول فرييا ماتيوس: “إذا نظرنا إلى العالم بحسب مفاهيم مذهب المادة الواعية، فسوف تتعرض الثقافة الغربية بأكملها لتحول عميق، يأخذ بها بعيدا عن المنحى الذي انجرفت إليه منذ الثورة العلمية”.

إذن، فمذهب المادة الواعية يطرح تصورا عن كيفية فهم العلاقة بين العقل والجسد، فهو يضعنا في تماس مع تراث روحي غني، ويدل إلى طريق أخلاق بيئية أكثر صحة، طالما أننا مستعدون لحك  أكتافنا بصخرات واعية. بالنسبة للبعض، يعد هذا ثمنا كبيرا، ولكنه، بالنسبة للبعض الآخر، لن يكون أكثر شططا من افتراض أن تلك النفاية، القابعة داخل جماجمنا، واعية. فقد تكون الأحجار الواعية أفضل من ذلك المكان القاسي للعالم المادي.

المصدر

هوامش:

([1]) مذهب المادة الواعية Panpsychism: هذه ترجمتي للمصطلح، ويترجمه البعض: “الروحانية الشاملة” وأراها ترجمة تبعد عن المقصود. وهو مذهب فلسفي، يرى إن الأشياء جميعها تنطوي على وعي، أو عقل، أو روح، كخصائص أولية لها. وتعود هذه النظرة، ربما، إلى ماقبل التفكير الفلسفي، في الديانات القديمة، أما كنظرية فلسفية فهي قديمة قدم التفكير الفلسفي، بداية من طاليس وأفلاطون.

([2]) ألفرد وايتهد (1861-1947): عالم رياضيات، ومنطقي، وفيلسوف إنجليزي، في فلسفته يقول بالتمازج بين العقل والمادة والزمان والمكان، وذلك أساس لحقيقة الصيرورة الطبيعية .

 ([3]) بمفهومها العام: كيان سحري تتجسد فيه قوى الطبيعة، وبحسب مفاهيم باراسيلسوس: هو وجود سحري.

 ([4]) يرجع استخدام هذا المصطلح إلى باراسيلسوس، وربما يعود أصله إلى كلمة gēnomos اللاتينية، وتعني: سكان باطن الأرض، ثم استخدم المصطلح في الحكايات الخرافية ليصور كائنات أسطورية قزمة، مهمتها حماية كنوز باطن الأرض  .

([5]) هرمسي Hermetic: الهرمسية: مذهب ديني فلسفي، ينظر إلى العالم نظرة فلسفية دينية علمية معا .

([6]) عنوان الكتاب “عن المغناطيس، والأجسام المغناطيسية، وعن المغناطيس الأعظم: الأرض” لفيلسوف الطبيعة والفيزيائي الإنجليزي وليام جيلبرت، وهو كتاب علمي، وكان له كبير تأثير في كتاب عصره.

([7]) المذهب الفيزيائي أو النظرية الفيزيائية Physicalism: فرع  من المذهب المادي، وإن بنحو علمي، يذهب إلى أن كل ماهو موجود فيزيائي، ولاشيئ فيما وراء أو بعد الوجود الفيزيائي، وأن كل شيئ يعود إلى مادة فيزيائية واحدة .

([8])  ووردزورث Wordsworth(1770-1850): شاعر إنجليزي، أسس للعصر الرومانسي في الأدب الإنجليزي، خصص الكثير من قصائده في وصف الطبيعة محاولا سبر أغوارها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق