تتمثل ما بعد الحداثة ميتافيزيقيا
بما يمكن أن نطلق عليه الميتافيزيقيات المضادة للحقيقية Anti-realist
metaphysics. بمعنى أنها الرأي القائل بأن وجود الأشياء،
يعتمد على التفكير والخبرة واللغة. وبعبارة أخرى، فإننا لا نواجه عالمًا معطى
ببساطة، ولكننا نواجه عالمًا نركبه بنشاط عن طريق استخدام مفاهيم نأتي بها إليه.
ويمثل هذا الرأي رفضًا لمفهوم الجوهرية الفلسفي، الذي يقول بأن هناك بعض المعاني
المثالية. وقد عرض دريدا رفضه للواقعية أو الجوهرية في سياق فكرته من الاختلاف.
فالواقعية أو الجوهرية تتطلب ـ من الناحية الفلسفية ـ مركزًا. وقد فُسر هذا المركز
في تاريخ الميتافيزيقيا بشكل مختلف من قبل أنظمة فلسفية مختلفة. ولكن دريدا، الصوت
الأبرز فكريًا في ما بعد الحداثة، يرفض فكرة وجود مركز ويلاحظ أنه "من
الضروري ـ من الآن فصاعدا ـ البدء في التفكير أنه لا يوجد أي مركز، وأنه لا يمكن
أن نفكر في المركز بوصفه شكلًا من الكينونة الحاضرة، وأنه لا يوجد للمركز أي مكان
طبيعي، وأنه ليس موضعا ثابتا ولكنه وظيفة: نوع من(اللا ـ موضع) فيه عدد لا حصر له
من تبديلات العلامات التي لا بد أن تُؤخذ في عين الاعتبار". وعلى الرغم من أن
(ضد الحقيقة) أو (ضد الواقعية) ميتافيزيقية ضرورية من حيث ارتباطها بالمذهب الكلي
أبستومولوجيا، فإن التطور في الفيزياء الكوانتية عزز برنامج (ضد الواقعية). فلم
يعد العلم قادرًا على دعم فيزياء الجسيمات النيوتونية المتركزة بوصفها كيانات ذات
جوهر ثابت، وبدلًا من ذلك فإن الحقيقة الفيزيائية ديناميكية: أي أن الكون ليس
كيانا موجودًا له تاريخ ولكنه هو تاريخ بحد ذاته (أنه أكون متعددة a
multiverse). والعالم ليس خلق منته creation بقدر ما أنه استمرارية في الخلق creating)).
ويتوافق ذلك مع فكرة التحول
في البارادايم أو النموذج المعياري (Paradigm
shift) وهو مفهوم أتى به توماس كون- ويعني حدوث
تغيّر جوهري وثوري في النموذج المعياري على مستوى المجتمع ( أو العالم) لصالح
نموذج جديد فيتراجع الأول أو يسقط بينما يصعد الثاني ويسود.
يمكن إرجاع الكثير من أدبيات
الفكر الحداثي إلى عمل البنيوية الوظيفية أو النظرية الشاملة. يبرز المنظرون مثل
دوركهايم ونيكلاس لومان وتالكوت بارسون كمثال. يعتمد جزء كبير من هذه الأدبيات على
نموذج التوازن المتجانس أو الحد من التوتر أو الاستقرار. فرويد، على سبيل المثال،
يرتكز في وجهات نظره على مفهوم الحد من التوتر كقوة عاملة في التنمية الهيكلية
الاجتماعية. ربما يمكننا تتبع الكثير في الفيزياء النيوتونية وتأثيرها. والسؤال
المركزي هنا هو مسألة نظام يُنظر إليه على أنه مرغوب فيه دون مزيد من
التوضيح. في الواقع، يحدد البعض، مثل بارسون، الانحراف من حيث البعد عن بعض
المعايير المقبولة. يركز الفكر الحداثي على النظرية التوتالية الشاملة، البحث عن
النظريات الشاملة للمجتمع والتنمية الاجتماعية. هناك بعض الأسس القابلة للاكتشاف.
كما أن هناك مركزا سواء، على سبيل المثال، في قوى ماكس ويبر للترشيد والعقلانية،
أو في توازن فرويد، أو في روح هيجل المطلق. هذه المراكز موجودة تتطلع لاكتشافها
وانتظامها في بنية سليمة.
وبالتالي لا تزال السرديات الكبرى
مليئة بافتراضات التجانس واستصواب التوافق والنظام وما إلى ذلك. وتبعا لهذا النظام
يمكن وصف المجتمع الحداثي بمفردات التوازن؛ والاستقرار؛ وخفض التوتر؛ والتجانس؛
والإجماع؛ والركود.والمعيارية؛ والأسسية، والتمركز حول اللوغوس والكلانية ؛ والغلق
؛ والدوال المتجاوزة، والهيكلية الوظيفية.
وجد فكر ما بعد الحداثة
والذي يهدف أساسًا إلى نقد الحداثة، ضالته في رؤى نظرية الفوضى، ونظرية
غودل لعدم الاكتمال، ونظرية الكارثة، وميكانيكا الكم، والنظريات الكونية، ونظرية
الطوبولوجيا، وفكر لاكان على سبيل المثال. يبدأ ما بعد الحداثيين تحليلهم بمنح
الامتياز للفوضى بدلاً من النظام. نقطة انطلاقهم هي المغالطة paralogism: امتيازات عدم الاستقرار. وفقًا لذلك، يبدأ هذا النموذج بظروف
بعيدة عن التوازن باعتبارها الحالة "الطبيعية"، ويركز على التدفق،
والتغير غير الخطي، والصدفة، والعفوية، والتكثيف، وعدم التحديد، والسخرية، والاضطراب
المنظم. لا يوجد نظام مستقر دائم ممكن أو حتى مرغوب فيه. لا يوجد مركز أو مؤسسة.
إن نظرية جودل، التي تصف استحالة الإغلاق الرسمي، تعني أن البحث عن نظرية شاملة
كلية هو محض وهم. في الواقع نظرًا لعدم وجود مركز دقيق، أو نظرًا لعدم وجود
إمكانية لتحديد الظروف الأولية بدقة، فإن عملية التكرار ستنتج تأثيرات غير متناسبة
وغير متوقعة. تقدم ما بعد الحداثة "الهياكل المبعثرة Dissipative
structures" على أنها هياكل مجتمعية مستقرة نسبيًا
تظل حساسة ومستجيبة لبيئتها. يشير هذا المفهوم إلى الاستقرار النسبي وكذلك التغيير
المستمر (أي النظام والفوضى). على عكس الوظيفية الهيكلية وتفضيلها للاستتباب
والتوازن، يستحسن ما بعد الحداثيين التدفق المستمر والتغيير المستمر الذي استولت
عليه فكرة الظروف البعيدة عن التوازن. في ظل هذه الظروف تزدهر الهياكل المشتتة. ما
يعني ضمنبا التعايش بين مواقع متعددة من المحددات التي لا يمكن التنبؤ بدقة
بمفرداتها التاريخية الفريدة. وبسبب عدم اليقين المتأصل في الظروف الأولية، تنتج
الممارسات التكرارية ما لا يمكن التنبؤ به. هنا، يتم التركيز على التسامح ودعم ما
لا يقاوم. تفترض ما بعد الحداثة وجود تجزئة دائمة وتفكيك وإعادة بناء. الأمر الذي
سهل ظهور الأصوات المهمشة، والهشة، والمحرومة، والمستبعدة. أصبحت نظرية الفوضى
عنصرا رئيسيا بشكل متزايد في تحليل ما بعد الحداثة. كما كان نيتشه،
بدلاً من هيغل، ملهم المفكرين ما بعد الحداثيين. يعيد ما بعد الحداثيين تعريف أنفسهم
باستمرار ويبحثون عن معان جديدة. إنهم مكتشفو المشاكل كما أنهم واضعي الحلول في
الوقت نفسه. لذا فانهم يميلون إلى اختزال الحياة (و لاسيما القضايا السياسية
والاجتماعية) في جملة مشاكل وحلول. كما أنهم يرغبون في الانخراط في عمليات تفكير
غير مسبوقة، ويستهينون بالمعرفة التي تطورت بشكل منتظم عبر العصور.
وهكذا فإن المفردات السائدة في
وصف ما بعد الحداثة هي:
ما بعد الحداثة: ظروف بعيدة
عن التوازن ؛ التدفق؛ التغيير ؛ الفرصة؛ العفوية، السخرية، الاضطراب المنظم، عدم
التجانس، التنوع؛ التكثيف؛ المغالطة؛ التسامح مع ما لا يقاوم ؛ الهياكل المشتتة،
معاداة الأسسية؛ والتشظي ؛ واستحالة الإغلاق الشكلي ؛ الاضطرابات الهيكلية / وعدم
اليقين ؛ ورفض السرديات الكبرى، والبنائية Constructivism .
تمثل البنائية Constructivism الركيزة الرئيسية لما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. في
الواقع، لقد ثبت أنها كعب أخيل ما بعد الحداثة أيضا. لقد تعرضت ما بعد الحداثة
لهجوم مستمر لأن العديد من المفكرين يعتقدون أن البنائية تؤدي حتمًا إلى السلبية
والحتمية. لا يعني هذا أن البنائية تحرم الفرد البشري من أي فرصة للمقاومة
والتخريب، لكنها تحط من هذه المفاهيم تمامًا. حتى التخريب والمقاومة ستكون بعناصر
بنية النظام الذي ستتوجه ضده، وبالتالي فهي أوهام لا معنى لها. ونتيجة لذلك، يحرم
الفرد من فاعليته. أنت لست ما تقرر أن تكون، أنت لا تفعل (تؤدي) ما تقرر القيام
به، لا يمكنك مقاومة أو تخريب الهيكل الذي شكلك أنت ووسطك. بدلاً من ذلك، أنت تخضع
لقوى خارجية مختلفة، لا يمكنك التعرف على معظمها. وهذا يقودنا إلى فكرة "
الذات" بين الحداثة وما بعد الحداثة. كان الفهم السائد لبنى (المجتمع، الذات،
والمعرفة الموضوعية...) يعود للذات عن قصد. وكانت هذه الفكرة مؤثرة في العقل
الغربي حيث اكتسبت عقلانيتها مع ظهور الفلسفة الديكارتية. ديكارت الذي جادل بأن
الفرد العقلاني المستقل هو أساس كل من الأنطولوجيا (الوجود) والابستمولوجيا
(نظريات المعرفة). وبعبارة أخرى، فإن الأفراد الذين يتمتعون بحرية الفكر هم الأسس
التي تدرك العمل السياسي والأخلاقي. وبمصطلحات الفلسفة، عرف هذا النهج، كما أوضحنا
سابقا، بالأُسسية التي تعتمد على علة أولى لا تقبل التشكيك والبحث عن إثبات.
وبتطبيق شكوكه المنهجية توصل ديكارت إلى ما أطلق عليه (الذات المفكرة
المستقلة Autonomous Thinking Self) ونتيجة لذلك فإن كل البديهيات المميزة والواضحة عن تلك الذات تكون
صحيحة بالضرورة. توظيف الذات للعقل، كما وصفه ديكارت، يفترض إمكانية وجود علاقة
غير مشكوك فيها بين الواقع وتمثيله الدقيق في الفكر، ما يضمن معرفة موضوعية كلية
وعالمية.
وفي حين ناقش المنظون النسويون
والماركسيون الإشكاليات السياسية للذات الحداثي، فإن نظرية ما بعد البنيوية هي
التي نظرت للذات المتشظية، وموت الذات، وتشتت أو تعدد الذاتيات، والذات التي
تخترقها الخطابات. ركزت ما بعد البنيوية على التأكيد على الطبيعة "التكوينية
للذات - وليس مجرد جوانب معينة من الذاتية (على سبيل المثال موقعها على المستوى
الفردي، استقلالها المفترض، وتكاملها، أو عقلانيتها)، ولكن تكوين الذاتية في حد
ذاته. وفي موضعة عملية التكوين هذه في مستوى بنية واكتساب اللغة، فإن ما بعد
البنيوية تشير إلى حتمية "تجريبية الذاتية" "وأيضا فراغها الذي لا
مفر منه، على حد سواء. ظهرت هذه المشكلة المزدوجة للذات في طروحات لاكان، دريدا،
(وجوليا كريستيفا بزخم أقل) حيث كانت اللغة هي نقطة انطلاق تشكيل الذات. يبتعد عمل
ميشيل فوكو قليلا عن ما بعد البنيويين الآخرين. لأن عمله ينظر لإنتاج أنواع مختلفة
من الذوات، كما أنه يناقش انتاجهم في سياقات تاريخية. وذلك نتيجة توظيفه لمفهوم
"الخطاب"، مقابل تركيز ما بعد البنيويين الآخرين على اللغة نفسها. ترتبط
ما بعد الحداثة بشكل وثيق جدا مع ما بعد البنيوية، وهذا يعني ارتباطها بكتابات
المفكرين الفرنسيين اللامعين: لاكان، ودريدا، وفوكو، ودولوز، وليوتارد وأتباعهم
الكثر. وتعد نظريات ما بعد البنيوية معقدة للغاية في واقع الأمر، بل إنها تتناقض
مع بعضها البعض في الحجج الفردية في كثير من الأحيان، ولكنها جميعا تشترك في
الافتراض نفسه عن الإشارات والأشياء. وللتبسيط، فإن هذا الافتراض هو أنه لا توجد
علاقة طبيعية موحدة بين الأشياء والعلامات، تعين العلامات للأشياء بطريقة مصطنعة
وبعد وقوعها في الخطاب، أي في اللغة الموظفة في الحالات الاجتماعية المحددة لتحقيق
أهداف معينة. وهكذا فإن العلاقة بين العلامة والشيء في التوظيف اللغوي تعبير غير
مباشر عن العلاقات السلطوية داخل المجتمع. يرى ما بعد الحداثيين وما بعد البنيويين
أن مهمتهم الأساسية هي توضيح تلك العلاقات السلطوية , والتي تظهر للقراء غير
الممحصين بوصفها أمرا بديهيًا طبيعيًا. وعلى عكس الفنانين والمثقفين الحداثيين،
الذين أصروا على أهداف طوباوية أوصلتهم إلى كوارث شمولية، انحاز ما بعد الحداثيين
إلى السخرية بوصفها أداتهم الجدلية الرئيسية. وكانت استراتيجيتهم هي انتقاد وتقويض
علاقات السلطة القائمة دون أخذ مواقف أيديولوجية واضحة تعارض تلك العلاقات. بدأت
المواقف التهكمية في الستينيات، وبحلول التسعينيات اعتمدت تلك المواقف بطريقة أو
بأخرى وعلى نطاق واسع من قبل الأكاديميين والكتاب وصناع السينما والفنانين. ولكن
مع نهاية التسعينيات أصبحت تلك المواقف مبتذلة ومتوقعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق