ثورة البارادايم - شادي عبد الحافظ - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 18 أكتوبر 2020

ثورة البارادايم - شادي عبد الحافظ


لنتخيّل أنك تعيش في دولة ديمقراطية، ظلّت مئة سنة على هذه الحال، لكن -في مرحلة ما- تمكّن ديكتاتور لبق، أنيق، له تأثير في الشعب، من السيطرة عليها، في تلك النقطة من تاريخها انقلب كل شيء. لم تتمكن المعارضة من استمالة الشعب فانسحقت في أولى مراحل توطيد حكم هذا الديكتاتور، ثم استمرت الدولة هكذا مئة سنة إضافية، ثم بعد ذلك -بطريقة ما تتضمن سفرا في الزمن- تمكّنت، كمواطن عاش في كنف الحكم الديمقراطي طوال مئة سنة، من الالتقاء بآخر عاش طوال مئة سنة في كنف الحكم المستبد، وبدأ الحوار بينكما.

حينما تتحدث عن مفهوم المعارضة، على سبيل المثال، وكيف أن هناك الكثير من الأسئلة المطروحة حول دورها في إقامة دولة رشيدة فإن الآخر سوف يتحيّر قليلا ثم يسأل: "ما المعارضة يا صديقي؟"، حيث في منظومة مستبدة لا يوجد شيء يُدعى "المعارضة"، هذا الاصطلاح يختفي تماما من الكتب والتلفاز وحكايات الأطفال، كذلك اصطلاحات أخرى، كالانتخابات مثلا، أو مجلس النوّاب، كل هذه الأشياء ستبدو للصديق الذي عاش مئة سنة في دولة مستبدة كأنها شيء غريب، موضوعات لا تُطرح ولا يتناقش فيها أحد ولا يُسأل عنها من الأساس، بينما في دولة ديمقراطية هي مجموعة من المسلّمات.

ثورات العلم

هكذا يرى توماس كون، فيلسوف العلم الأميركي الأشهر، الكيفية التي يتطور بها العلم، كما أوضح بكتابه "بنية الثورات العلمية". فهو لا يتقدم ببطء شديد عبر تراكم النظريات فوق بعضها البعض كما ظن فلاسفة العلم قبله، ولكن في صورة انقلابات شاملة، يسميها كون بالثورات العلمية (Scientific Revolutions)، أو "تحول البارادايم" (Paradigm Shift)، إنه ما حدث لدولتنا البائسة قبل قليل، فتلك الانقلابات لا تغير فقط من اهتمامات العلماء أو نطاقاتهم البحثية، لكنها تغير وجهات نظرهم كذلك، فتصبح الموضوعات التي كان يمكن السؤال عنها في مرحلة ما، وكذلك المفردات النظرية المكتوبة في المراجع، والتي يعتمد عليها العلماء في أثناء بحثهم، ونوعية الأسئلة التي يجب أن يسألها الباحث، وكيفية فحص تلك الأسئلة، وكيفية تفسير النتائج المترتبة على كل ما سبق، غير موجودة من الأساس في مرحلة أخرى.

   على سبيل المثال، لنحاول تصفح مرجع يدرسه طلبة الفيزياء في أيّام سيطرت فيها أفكار نيوتن، سوف يعرّفهم المرجع بالضوء على أنه يتكون من وحدات مادية (Corpuscles)، في تلك الفترة سوف يعتبر الطلبة أن ذلك هو الفرض الرئيسي الأساسي الذي يمكن أن يبدأوا به أبحاثهم، هذا ما يحدث في ما يسميه كون بفترات "العلم القياسي" (Normal Science)، حيث توجد قواعد لا يحتاج الباحثون إلى التساؤل عنها، ومفردات محددة يتحدثون بها، ومراجع يتعلم كل الوسط العلمي منها.  لكننا نعرف أنه، بعد ذلك، أتى كل من يونج وفيرنل ليغيّروا تلك الوجهة، بعد ذلك بدأ الطلاب في علم قياسي جديد باعتبارات جديدة تقول إن الضوء عبارة عن موجات وليس جسيمات، وعلى إثر هذا التغير في المفهوم، تتغير مراجع الطلبة وحصصهم الدراسية وأفكارهم وأشكال أبحاثهم، لكن حينما تقارن ما سبق بالوضع المعاصر ستجد اختلافا واضحا لا شك، يدرس الطلبة الضوء على أنه فوتونات، وأن تلك الفوتونات تخضع لقواعد ميكانيكا الكم التي تقول بازدواجية الموجة-جسيم.

في كل من تلك الحالات الثلاث كان على الباحثين اعتبار أن الأمر غير ممكن أن نسأل عنه، فهو قاعدة تم اختبارها مرارا وتأكدنا منها، كل حالة هنا هي ما يسميه كون "نموذجا إرشاديا" أو "بارادايم" (Paradigm) كاملا مختلفا ذا قواعد مختلفة، يشبه الأمر أن يكون العلماء هم لاعبو "الكلمات المتقاطعة" في صحيفة معينة، سوف تكون وظيفتك خلال فترات العلم القياسي أن تقوم باستخدام مجموعة المعلومات المعطاة بجانب مربع اللعبة، والربط فيما بينها، واستغلال البعض لمساعدتك على فهم الآخر، فتتسبب كلمة أفقية مثلا في تعرفك على أحد حروف أخرى رأسية كانت القاعدة التي تشير إليها تحمل أكثر من معنى، كأن تكون الرأسية مثلا تعني "ملل" أو "ضجر" وكلاهما يصلح فهو مكون من ثلاثة أحرف، لكنك بمساعدة الكلمة الأفقية "حوائج" وجدت أن الثاني في الرأسية هو "ج"، فالكلمة إذن هي "ضجر"، الآن ماذا يحدث لو قررت حل الكلمات المتقاطعة في صحيفة أخرى؟

العلماء والكلمات المتقاطعة

إنها اللعبة نفسها، المربعات البيضاء والسوداء نفسها، القوائم نفسها، لكن القواعد الخاصة بها تختلف، بالتالي يختلف تفكيرك على أثرها، وتختلف آليات بحثك، فلا تبحث فقط إلا عمّا تتيح لك المنظومة (البارادايم) أن تبحث عنه، لكن في أثناء ممارسة العلماء لعملهم اليومي قد يحدث أن تظهر حالة شاذة ما، نتيجة تجريبية تختلف مع ما يُفترض حدوثه، هنا -في البداية- يظن الباحث أن هناك خطأ ما في التجربة، أو في فهمه لها، أو ربما لأسباب عدم تخصصه الكافي في جزئية ما، فإنه يقرر أن يخوض فيها لأنها مرتبطة ببحثه، سوف يحاول تغطية تلك الحالة الشاذة بوضع فرض إضافي ما، أو بتعديل التجارب، أو الاستعانة بوجهات نظر من علوم أخرى، قد ينجح في ذلك وقد لا ينجح.

حينما تتطور تلك الأزمة، وتتراكم الحالات الشاذة، تحدث "الكارثة" (Crisis) بتعبير توماس كون، نحن أمام مشكلة حقيقية لم يكن من الممكن حلها أبدا مهما كررنا التجارب أو أضفنا فروضا مساعدة، هنا يفقد المجتمع العلمي الثقة في مفرداته التي يعتمد عليها، يضطر بعض العلماء لتغيير طريقة تفكيرهم جذريا بحيث يقومون بالخروج بشكل ما عن الفروض الأساسية المكتوبة في مراجعهم والتي يعتمدون عليها كل يوم في ممارسة مناهجهم العلمية.   

لكي نتعلم أكثر عن تلك الفترة الفاصلة، تسمى بـ "علم الثورة" (Revolutionary science)، دعنا نراقب تلك النقطة الزمنية التي ظهرت عندها النسبية على يد أينشتاين، في البداية كان المجتمع العلمي متفقا على عدة قواعد يمارس بها عمليته العلمية بشكل يومي متزن وهادئ كجريان نهر، إحدى الفرضيات التي اتفق عليها الجميع كانت فكرة "الأثير"، هذا الوسط الذي يسمح بانتقال الضوء في الفراغ، لكن ذلك استدعى أن تكون سرعة الضوء في اتجاه الأثير مختلفة عن سرعته عكس اتجاه الأثير، يشبه الأمر أن تمشي بقارب مع أو ضد اتجاه تيار الماء، في الحالة الأولى سوف تكون أسرع لأنك تمشي مع التيّار، لكن مشكلة ما ظهرت حينما حاول كل من مايكلسون ومورلي قياس ذلك الاختلاف في السرعة عبر جهاز حديث قاما بتطويره، فسرعة الضوء تظل ثابتة مهما تغير اتجاه قياسنا لها.

تكررت التجربة أكثر من مرة، وقام بعض الفيزيائيين بوضع حلول مكملة أو مساعدة، لكنّ أحدا لم ينجح، هنا ظهرت مشكلة لا يمكن تجاوزها، نحن في مرحلة الكارثة، ومع الحيرة التي حلّقت فوق عقول الفيزيائيين النظريين جاء أينشتاين بنظريته النسبية الخاصة، لم يعتمد أينشتاين على مسلّمات البارادايم السابق التي تقول إن الزمن والمكان هما نطاقات ثابتة كديكور مسرح بينما يتحرك الممثلون ويؤدون أدوارهم، بل قرر اختراقها لصنع ثورة، لذلك لن نتعجب حينما نعرف أن أينشتاين نشر بحثه الأول في النسبية الخاصة بلا مراجع، لأنه بالأساس كان يحطم أشياء دأب الفيزيائيون لمئات السنين على اعتبارها مسلّمات، الآن يولد بارادايم جديد يقول إن الزمن والمكان هي أشياء نسبية تتعلق بسرعتك.

بالتالي، يمكن أن نستنتج مما سبق أن إحدى أهم نتائج أفكار توماس كون هي تعذر مقارنة أو قياس مفاهيم نموذج إرشادي قديم في مقابل آخر جديد، فكل نموذج له قواعد مختلفة تماما متجذرة في عقول أفراده من الباحثين، دعنا نستدعي مثال الدولة الديمقراطية التي تحوّلت إلى مستبدة، هنا لا يمكن لكل منهما قراءة الآخر أو حتى رؤيته، فالدولة المستبدة لا تفهم ما يعنيه اصطلاح الانتخابات، والدولة الديمقراطية لا تفهم مثلا ما يعنيه اصطلاح "توريث السلطة"، لكل دولة منهما قواعد مختلفة تسير الحياة بها.

اللامقايسة

ربما، في تلك النقطة، قد تتساءل قائلا إن هناك اصطلاحات عامة في الدولتين المستبدة والديمقراطية، العدل مثلا، أو الحرية، إلخ. هنا يتطور الأمر أيضا ليصبح أكثر عمقا من ذلك، دعنا نحاول الجلوس مع مفكر سياسي يدعم الدولة الديمقراطية وآخر يدعم الدولة المستبدة، سوف نسأل كلًّا منهما عما يعنيه "العدل"، فيقول الأول إن العدل هو أن تُطبّق المساواة في القانون بين البشر، وإنه إذا كانت الدولة طرفا في صراع ما فيجب تطبيق القانون على الدولة أيضا، أما الآخر فربما سوف يدّعي أن قوة الدولة هي ما يسمح للمواطنين بحياة سعيدة، إذا سقطت الحكومة دخلت الدولة في الفوضى، لذلك قد يكون ليّ عنق الحقائق لتحقيق الانتصار للدولة أكثر حفاظا على الأمن العام، ذلك هو العدل من وجهة نظره.

في تلك النقطة يتضح لنا معنى اللامقايسة (Incommensurability) التي يقصدها توماس كون من فلسفته، فحينما يجلس نيوتن وأينشتاين ليتحدثا عما تعنيه الكتلة فإن كلًّا منهما يتحدث عن شيء مختلف تماما، ما يحدث فقط أنه يحمل الاسم نفسه لدى الطرف الآخر، فالكتلة النيوتنية هي قيمة ثابتة تعبر عما يحتويه الجسيم من مادة، أما أينشتاين فيُعرّف الكتلة بالطاقة ويضيف أنها متغيرة بتغير الإطار المرجعي الخاص بها، أما فاينمان فكان ليتحدث عن الكتلة كاهتزاز في مجال كمومي وهو تعريف ثالث يختلف كمفهوم عن سابقيه، نحن هنا أمام تعريفات عدة للاصطلاح نفسه. 

العلم إذن، عند توماس كون لا يتراكم، لأنه لا علاقة لكل قطعة منه بما سبقها، يمكن أن نستخدم تلك الفكرة لفهم ما يقصده توماس كون تحديدا من فلسفته، حيث يصف في بداية كتابه أن مشكلته كانت دائما في اعتبار أن المنهج العلمي عند أرسطو -على سبيل المثال- خاطئ، أو ساذج، فأرسطو بالتأكيد كان ذكيا بما فيه الكفاية، وتاريخ العلم مليء بأذكياء آخرين وقعوا فيما نتصور الآن أنه خطأ، كذلك مليء بنظريات متضادة خرجت تحت ظل المنهج العلمي نفسه القائم، هل يؤكد ذلك أن العلم خطأ؟

هنا تكون إجابة توماس كون أنه ليس ثمة صواب أو خطأ ولكن هناك مجموعة من القواعد والمفاهيم الأساسية التي تكوّن حالة ما، حالة متكاملة مرتبطة كشبكة واحدة متسقة مع ذاتها تسمى "البارادايم". لذلك، حينما يتحول العلم من تلك الحالة إلى أخرى يكون الوضع أشبه ما يكون بتلك اللحظة التي يتحوّل فيها منظورك ليصنع شيئا آخر من المواد نفسها، هل رأيت من قبل ذلك الوهم البصري الشهير الذي تنظر إليه فتراه سيدة عجوزا ثم تنظر إليه بعد قليل فتراه فتاة صغيرة السن؟ إنها مكونات الرسم نفسها، الخطوط نفسها، وتباين الألوان نفسه، لكن دماغك انتقل فجأة بين حالتين، جعلتك كل منهما ترى الأشياء نفسها على أنها مختلفة، هكذا الأمر بالنسبة لتحول البارادايم.

التجربة الحاسمة

لكن المشكلة التي طرحها توماس كون لم تكن فقط في أن القبول بالنموذج الإرشادي الحالي يتطلب درجة من "الإيمان" (Faith)، أو قل الثقة غير المبررة في أحيان كثيرة، لكن الأمر ينطوي على كارثة حقيقية. حيث، إذا كان كل نموذج إرشادي هو عالم مختلف شكلا وموضوعا عن الآخر، بالتالي فإن النظريات الخاصة بكل منهما تختلف عن الأخرى، كيف إذن يمكن أن نقارن بين النظريات العلمية المختلفة؟ كيف يمكن لنا بدرجة من العقلانية أن نُفضّل نظرية على أخرى ونسمح للعلم بأن يتطور ويتقدم؟

في تلك النقطة يمكن أن نتأمل الوضع المعاصر للفيزياء النظرية، فنحن نمر بالفعل بمرحلة تخبط، كيف يمكن أن نختار بين نموذجين إرشاديين؟ نظرية الأوتار والجاذبية الكمومية الحلقية؟ يرى توماس كون أن أحد النموذجين سوف ينتصر في النهاية، لكن الدور الذي تلعبه التجارب في مصادمات الجسيمات -كما يظن الكثيرون- ليس بالأهمية القصوى، لكن الأهمية هي -بشكل مؤثر- لقوة المدافعين عن أي من النموذجين، أيّهم يسيطر على وسائل التمويل؟ وأيّهم يمتلك مقاعد أكبر في كبرى الجامعات؟

لفهم ذلك دعنا نبدأ من كتاب "بنية وهدف النظرية الفيزيائية" للفيزيائي والفيلسوف الفرنسي بيير دوهيم، والذي افترض أن هناك فرضية ما، لنسميها "س"، سوف نختبر فرضيتنا في المعمل وتظهر النتائج بالسلب، هل يعني ذلك أن "س" خطأ؟ "نعم، بالطبع"، للوهلة الأولى سوف تكون تلك هي إجابتك، لكن، هل يمكن أن تكون المشكلة في أدوات التجربة؟ أو في العيّنة المستخدمة؟ في إحدى خصائصها مثلا؟ هل يمكن أن تكون الفرضية "س" سليمة لكن الخطأ يقبع في الفرضية "ص" التي اعتمدت "س" عليها في الأساس؟ في البداية قد تظن أن تلك المشكلة يمكن حلّها بتتبع مستمر لكل متغيرات التجربة، لكنك بعد فترة قصيرة سوف تكتشف أن كل شيء يؤدي لآخر، وأن عدد المتغيرات لا نهائي، بالتالي سوف نقول مثل بيير دوهيم إن: "التجربة الحاسمة (Crucial Experiment) مستحيلة".

طور ويلارد فان أورمن كواين، الفيلسوف الأميركي، تلك الفكرة في مقاله الأشهر "عقيدتان في التجريبية" (Two Dogmas of empiricism)، الذي صدر في خمسينيات القرن الفائت، حيث صنع من العلم كله شبكة واحدة مترابطة من المعاني والدلالات والفروض والفروض الإضافية بدءا من خبرتنا بأكثر الموضوعات عرضية في الجغرافيا والتاريخ حتى أكثر القوانين عمقا في الفيزياء الذرية أو حتى الرياضيات البحتة والمنطق، ثم يقول في النهاية إن "وحدة الدلالة التجريبية هي العلم كله"، العلم مرتبط كشبكة متناسقة متكاملة لا يمكن بسهولة أن تُثبت صحة تجربة مفرده فيها، لأن كل شيء مرتبط ببعضه البعض.

لكن إذا تعذّر علينا إقامة تجارب حاسمة في الفيزياء فلا يمكن لنا تحديد أي النظريات سوف يمر ليصبح جزءا من العلم وأيها سوف يبقى، بالتالي فإن الاختيار الذي نراه يحدث في الوسط العلمي يتم بشكل غير عقلاني، لذلك اقترح كون أن الاختيار بين النماذج الإرشادية، أو النظريات المتنافسة، لا يتم بشكل عشوائي، في أثناء الثورة يكون كل شيء فوضويا، ضبابيا، ويُختار النموذج الإرشادي الجديد، ليس لأنه الأكثر عقلانية أو قربا من تحقيق نتائج تجريبية أفضل، لكن ربما لأن مؤيديه أكثر قوة، أو أكثر ذكاء، أو موهبة، أو أي شيء آخر له علاقة بسيكولوجية تلك العملية وليس عقلانيتها.

من تلك النقطة انطلقت ما بعد الحداثة للدخول في العلم، وظهر علم اجتماع المعرفة العلمية ليتساءل: كيف يصل العلماء إلى حقائقهم العلمية؟ ثم يتقدم بخطوة أكثر عمقا وضربا في العقلانية العلمية ليسأل: هل تنفصل الحقائق العلمية عن منتجيها؟ فبعد أن كان روبرت ميرتون يربط علم اجتماع العلم بالعلماء وتوزيعهم في مناطق القوة والضعف، انطلق باري بارينز ثم ديفيد بلور من بعده للتساؤل عن العلاقة الجدلية بين "الحقائق" و"العلماء".

على سبيل المثال، يبني ديفد بلور كامل برنامجه الاجتماعي على عدة نقاط، الأولى، ذات علاقة بالتنوع الحادث في تاريخ العلم، حيث لا يمكن أن نكون نحن فقط الأذكياء بينما أرسطو كان غبيا، والثانية، ذات علاقة بعدم القدرة على المقارنة بين النظريات العلمية بشكل عقلاني، والثالثة ذات علاقة بقصور قدرتنا على تحديد الارتباط السببي الواضح الصريح بين النظرية العلمية ونتائجها التجريبية، بالتالي يندفع العلماء للخوض في اختيارات بين النظريات العلمية، والتي تبدو كأنما بُنيت على قواعد عقلانية بالنسبة لهم، لكنها غير عقلانية في أساسها.

كان توماس كون هو الفتح الرئيسي لعلم اجتماع العلم بعدما تحطّمت على يديه ما تعنيه كلمات كـ "العقلانية"، "الموضوعية"، "الحقيقة"، في المعرفة العلمية، هنا انفتح باب الهجوم على العلم ولم يُغلق حتّى اليوم، كان الأمر أشبه بأن يفقد كبير الحارة نبوّته في رواية لنجيب محفوظ! وهل للعلم "نبوّة" أقوى من العقلانية؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق