لستُ
أعرف حقيقة فلسفية انتقلت من ميدان الفلسفة المُحترفة إلى سواد الناس وعامَّتهم،
بمثل هذا الانتشار الواسع الذي انتقلت به الحقيقة القائلة عن الإنسان إنه كائن
مُتميز بالعقل دون سائر الكائنات الحيَّة.
غير
أن الفلاسفة إذ يُميِّزون الإنسان بهذه الصفة فإنما هم — في أغلب الحالات — يقصدون
بكلمة «العقل» تفصيلات خاصَّة يُحدِّدون بها مفهوم الكلمة في استعمالهم. ولعلَّ من
أشهر العبارات التي قالها فيلسوف لِيَصف الإنسان من هذه الناحية، عبارة أرسطو:
«الإنسان حيوان ناطق» وهو يُريد «بالنطق» هنا ذلك الجانب من الإنسان الذي يُسمَّى
«عقلًا»، وهذا الجانب عنده يتمثَّل في عمليات رئيسية ثلاث:
الأولى: هي
أن يستخلِص الإنسان من خبراته الحسِّية الجزئية تصوُّراتٍ يكون كلُّ تصوُّر منها
دالَّا على نوع بأسرِه من أنواع الأشياء، ولهذا يُطلَق على هذه التصوُّرات اسم
«المعاني الكلية».
والثانية: هي
ربط هذه التصوُّرات الذهنية في قضايا تُدخلِها بعضها في بعض، أو تفصلها بعضها عن
بعض.
والثالثة: هي
استدلال قضايا جديدة من قضايا معلومة.
وقد
كان مُحالًا على هذه العمليات الثلاث، أن تتمَّ بغير مبادئ وقوانين يجري العقل على
سننِها، فهنالك ما يُسمَّى عند أرسطو بقوانين الفكر الثلاثة؛ وهي:
قانون
الذاتية (أو الهوية) الذي أعرف بمُقتضاه أن الشيء المُعيَّن يظلُّ مُحتفظًا
بذاتيَّتِه وإن تعدَّدت السياقات التي يرِد فيها.
وقانون
عدَم التناقُض الذي أعرِف بمُقتضاه؛ أن النَّقيضَين لا يجتمعان في شيءٍ واحد في
لحظةٍ واحدة.
وقانون
الثالث المرفوع الذي أعرِف بمُقتضاه أنَّ الشيء إما أن يتَّصِف بصفةٍ أو بنقيضها،
ولا ثالث لهذَين الفرضَين.
وهنالك
إلى جانب هذه القوانين الثلاثة ما يُسمَّى بالمقولات، وهي الصُّنوف الأولية التي
لا تخرُج عنها جميع الأحكام العقلية التي يُصدِرها الإنسان على أنواع الأشياء حين
ينسِب بعضها إلى بعض.
مجموع
هذه العمليات والقوانين والمقولات، هي التي يتميَّز بها الإنسان حين يقول عنه
أرسطو عبارته المشهورة، وهي أنَّ «الإنسان حيوان ناطق» أي أنه كائن حيٌّ يتميَّز
عن بقية الكائنات الحيَّة بعقله.
ولقد
يُخيَّل إلينا أن تمييز الإنسان بالعقل أمرٌ هو من البداهة بمكان، لكن أقلَّ ما
يُقال في هذا الصدد، هو أن كلمة «عقل» في ذاتها لا تُهمُّ، إنما المُهم هو
تحليلها، فماذا تعني؟ هاهنا تجد مواضع الاختلاف بين الفلاسفة قد ظهرت؛ فها هو ذا
هيوم الفيلسوف الإنجليزي في القرن الثامن عشر — جَرْيًا على سُنَّة الفكر
الإنجليزي في نزعته الحِسِّية التجريبية — يُحلِّل العقل تحليلًا آخر إذ يَستلُّ
منه كيانه الذاتي، ويجعله حصيلة انطباعات حسِّية تجيء مُتفرقةً فرادي، ثم ترتبط
عندنا بالقوانين نفسها التي تتكون منها العادات البدنية؛ فليس هنالك فرق جوهري بين
أن أُكوِّن فكرة العدالة — مثلًا — وأن أُكوِّن عادة السباحة، فكلتا الحالتَين
ربْط بين مقومات بسيطة حتى يتكوَّن منها بناءٌ مُركَّب، وإن تكن الحالة الأولى
ربطًا بين انطباعاتٍ حِسِّية، والثانية ربطًا بين حركاتٍ سُلوكية، ولو كان الأمر
كذلك لاستحال علينا أن نصِف أيةَ فكرةٍ كائنة ما كانت بأنها ضرورة عقلية محتومة؛
إذ لا ضرورة هناك، ما دام الأمر كله يرتدُّ إلى بسائط تجتمع معًا وكان يمكن لها
ألا تجتمع.
وهنا نهض عمانوئيل كانْت — عملاق الفلسفة الحديثة، كما كان أرسطو عِملاق الفلسفة القديمة — نهض ليردَّ إلى العقل كيانه ووجوده من جديد على صورة تُشبه ما كان عليه أمره عند أرسطو، وهو أن يجعل قوامه مبادئ أولية ومقولات فطرية. فإذا قُلنا عن الإنسان إنه كائن ذو عقل، أردْنا بذلك أنَّ إدراكه للعالم من حوله لا يقتصر على مُجرَّد انطباع حواسه بألوانٍ وأصوات وما إليها، بل هو إدراك لا بدَّ له من شيءٍ آخر وراء هذه المحسوسات ليُنظِّمها ويُرتِّبها ويصِل بينها بحيث تُصبح معرفة علمية معقولة.
هكذا
كان المسرح الفلسفي مُوزَّعًا طوال العصور بين مدرستين أساسيتَين اختلفتا في تشخيص
الطابع الذي يُميز الإنسان؛ فمدرسة تقول: إن ذلك الطابع هو العقل بمعنى المبادئ
والمقولات الفطرية الأوليَّة، وأخرى تقول إنه هو العقل على شرط أن تُفهَم الكلمة
بمعنى التجربة الحسِّية.
وكانت
المدرسة الأولى على وجه الإجمال تُسمى بالمدرسة المِثالية، وتُسمى الثانية على وجه
الإجمال كذلك بالمدرسة التجريبية، حتى جاء إرنست كاسيرر (١٨٧٤–١٩٤٥م) وغيره من
فلاسفة هذا العصر القائم، فلفتوا الأمر لفتةً جديدة لسْنا ندري إلى أيِّ مدًى
تمتدُّ وتنتهي؛ وذلك حين جعلوا مُميز الإنسان لا يقتصِر على العقل وحدَه مهما
تعدَّدت وظائفه المنطقية وتنوَّعت، بل إنَّ العقل النظري المنطقي نفسه إنْ هو إلا
فرعٌ واحد من فروعٍ كثيرة تندرِج كلها تحت طابعٍ آخر هو عند أصحابنا هؤلاء ما
يُميِّز الإنسان، ألا وهو القُدرة على الرمز، أي أن يجعل من شيءٍ رمزًا دالَّا على
شيءٍ آخر.
فما
من نشاطٍ إنساني ذي بال إلَّا والرمزية لُبُّه وصميمه، كما سنُفصِّل القول فيما
بعد؛ فالنشاط العلمي يَرتدُّ آخِر الأمر إلى رموز، والفن والأدب قائمان على الرمز،
وكذلك الدين والأخلاق، وكذلك الحياة الاجتماعية في ترابُط أفرادها، بل كذلك الفرد
الواحد في صحوِهِ وفي نعاسِهِ على السواء.
وإذا
كانت هذه العملية الرمزية بهذا الخطر الخطير في حياة الإنسان، فهي جديرة بأن
يتناوَلَها المفكرون بالبحث والتأمُّل والتحليل.
وسواء
كانت الرموز في مجال الفن والدين، أو كانت في مجال العلم، فهي على كِلتا الحالتَين
ضرورة لا بدَّ منها للتفاهُم بين أفراد المجتمع الواحد؛ ولولا هذا التفاهُم، أي
لولا تَوصيل الأفراد بعضهم لبعض ما يدور في أنفسهم من أفكار ومشاعرَ لما كان هنالك
مُجتمع بأيِّ معنًى من معانيه، وهذا التوصيل مُحال بغَير رموز مُتَّفق على
مدلالوتها؛ ولئن كانت اللغة بطبيعة الحال هي أهم هذه الوسائل الرمزية على الإطلاق،
حتى لقد اتُّخِذَتْ طابعًا مميزًا للإنسان، إلا أنها ليستْ هي الرموز الوحيدة
المُستخدمة في عملية التفاهُم، فهناك إلى جانبها رسوم وصور وإشارات وتماثيل
واحتفالات ذات مراسم مُعينة، وشعائر وما إلى هذه الأمور الرمزية كلها.
أقول: إنه بغَير العملية الرمزية يُصبح الاجتماع والاتِّصال بشتَّى أشكاله ضربًا من المحال، وذلك لأنَّ الحالات الإدراكية والوجدانية التي تطرأ على الفرد الذي يُريد أن يُعبِّر عنها للآخرين، هي على كلِّ حالٍ حالات تكمُن في كيانه الداخلي، هي حالات كائنة خلْف جِداره الخارجي الظاهر، إذا صحَّ هذا التعبير، هي صور ذهنية أو نبضات قلبية، ويُريد صاحبها أن يُخرجها في صورةٍ مرئية أو مسموعة لتُعرَض أمام الآخرين، فكيف يكون ذلك بغير اختيار رمز، كائنًا ما كان؛ ليدلَّ على ما قد كَمُن في الداخل من حالات؟
وهاهنا
يُفرِّقون بين ما يُسمُّونه «علامات» وما يُسمُّونه رموزًا، ولا يزال الأساس الذي
عليه تَتمُّ التفرقة بين العلامات والرموز مُختلَفًا عليه. وأبسط أساس للتفرقة بينهما
هو أن نقول إن «العلامة» هي الشيء الذي نتَّخِذه مُشيرًا يدلُّ على وجود شيء سواه،
إما لأن الشيئَين قد وجدناهما دائمًا مُرتبطَين، كالدُّخان الذي يكون علامة على
وجود النار، والبرق الذي هو علامة على أن صوت الرعد وَشيك الوصول، وانطباع قدَمٍ
آدمية على الرمل ودلالته على أنَّ إنسانًا قد وطئ المكان وهكذا، وإما لأنَّ الناس
قد اتَّفقوا اتفاقًا على أن يكون أحد الشيئين دالًّا على الآخر، كالنور الأحمر
ودلالته في حركة المرور، وكثير جدًّا من كلمات اللغة علامات مُتَّفق على
مدلولاتها. وكذلك رموز الرياضة وبعض الإشارات البدنية ندلُّ بها على القَبول أو
الرفض وغير ذلك.
وأما الرموز بالمعنى الدقيق فهي تلك التي لا يكتفي فيها على مجرد الدلالة، بحيث يكون هنالك الطرفان فقط: طرف العلامة الدالَّة من جهة، وطرَف الشيء المدلول عليه من جهةٍ أخرى، بل يُضاف إلى مُجرَّد الدلالة شُحنة عاطفية من نوعٍ مُعيَّن مقصود يُراد لها أن تنزوي في نفس الرائي أو السامع كلما وقع على رمزٍ مُعيَّن، فَعَلَمُ الجمهورية العربية المُتحِدة — مثلًا — له ما لهذا الاسم من دلالة على البلد المراد الدلالة عليه، لكنه يُضيف إلى مجرَّد دلالة الاسم على مُسمَّاه ضربًا من الشعور يُراد له أن ينشأ في النفوس كلما وقعَتِ العين على ذلك العَلَم، وهذا يصدُق على كثيرٍ جدًّا من تقاليد المجتمع وأوضاعه وشعائره التي يُراد بها أن تؤدي وظيفة رمزية، أعني أن تُثير في أعضاء المجتمع ضربًا مُعيَّنًا من المشاعر، مقصود به صيانة المجتمع وتماسُكه، كمشاعر التوقير أو القداسة أو الرهبة أو الخَوف أو المرَح وغيرها؛ فالهلال رمز للإسلام والصليب رمز للمسيحية، فكأنهما كلمتان، لكنهما يزيدان على كونهما مجرَّد كلمتَين لكلٍّ منهما مدلولها المُعين، إذ هما تُضيفان إلى عملية الدلالة موقفًا شُعوريًّا خاصًّا؛ والسواد والبياض في الحُزن والفرَح وكذلك البكاء والضحك، وإن يكن الأولان رمزين اتفاقييَّن، والآخران رمزين طبيعيَّين، إلا أنها كلها رموز لها دلالة العلامات الدالَّة أولًا، ثم لها فوق ذلك بطانة من شعور ووجدان، الأصل فيها أن تربط الأفراد في مُجتمع مُتماسك بتنظيم السلوك تنظيمًا يزيل منه التضارُب والتنافُر؛ وإلا فلماذا اصطلح منذ أقدم العصور أن يكون للقبيلة رمز خاص، كالطوطم والعلَم. ولماذا اصطُلِح على أن يكون للحاكم مظاهر خاصة، وأن يكون للقاضي رداؤه الخاص، وللخطيب مِنبره وسيفُه، ولرجال الدين شاراتهم ومُسُوحهم، وهكذا مما يعدُّ بالألوف؟ إنها كلها رموز مقصود بها أن تُثير في الناس مشاعر مُلائمة للمواقف المُختلفة مما عساه أن ينتهي آخِر الأمر إلى مجتمع مُتَّحِد مُتَّسِق مُتفاهِم.
وننتقل
الآن من إجمالٍ إلى تفصيل، لنرى كيف أن مناشط الإنسان على تنوُّعها واختلافها كلها
رمزية الطابع، وسوف أستخدِم فيما يلي كلمة «رمز» وحدَها لتدُلَّ على «الرَّمز»
و«العلامة» معًا، وذلك لسهولة استعمالها؛ سأُبيِّن كيف أنَّ الرمز هو صُلب الحياة
الاجتماعية، ثمَّ هو صميم العلم والفنِّ والأدب والدِّين والأخلاق.
أما
أنه صُلب الحياة الاجتماعية، فأمر بديهي واضح، إذ يكفي أن نذكُر أن هذه الحياة
الاجتماعية مُستحيلة بغَير لغة، واللغة علامات ورموز.
إن
اللغة وهي منطوقة مجموعة من أصوات، وكذلك وهي مكتوبة مجموعة من ترقيمات على الورَق
وغيره، وفرْق بعيد بُعْدَ ما بين السماء والأرض بين الكلمة أو العبارة من حيث
طبيعتها وهي أصوات منطوقة أو ترقيمات مكتوبة، وبين الحالات التي جاءت تلك الكلمة
أو العبارة لترمُزَ إليها؛ وأين مَوجةٌ «صوتيةٌ» أنطق بها، أو قطرةٌ من مداد
أخطُّها على الورَق، أين هذه من نشوةٍ يُحسُّ بها صاحبها، أو حُزن أو شبَع أو جوع
أو رِضى أو سُخط؛ بل أين الموجة الصوتية المنطوقة أو الكلمة المكتوبة بقطرةٍ من
مداد، أين هذه من الشيء المادي الحقيقي المُسمَّى بها؟ فما أبعد الفرق بين النار
الفعلية في العالم الخارجي وبين كلمة «نار» وبين الجنيه الحقيقي الفعلي الذي أشتري
به ثيابًا وطعامًا، وبين كلمة «جنيه» وهكذا وهكذا؟
الحقُّ
أننا قد ألِفْنا استخدام اللغة إلْفًا شديدًا حتى لنظنَّ أن الكلمة هي نفسها الشيء
الذي جاءت الكلمة لتدلَّ عليه، فنظنَّ أن كلمة «كتاب» أو كلمة «منضدة» هي نفسها
الكتاب أو المنضدة؛ ومن نتائج هذا الإلف الشديد، أن نشأ خطأ كبير في فَهم اللغة،
وذلك عندما تَرِد كلمات بغير مدلولاتٍ حقيقية فيتعذَّر جدًّا على مُعظم الناس أن
يتصوَّروا كيف يُمكن أن تكون هنالك كلمات بغَير مدلولات، ومن ثَمَّ يفرضون لها
المدلولات فرضًا حتى لو لم تُصادِفهم في خِبرتهم بالواقع.
اللغة
— إذن — بكلِّ ما لها من أهمية وخطَر في الحياة الاجتماعية وبنائها، هي مجموعة من
علاماتٍ ورموز تختلف باختلاف الأمم، فلكلِّ أمَّةٍ مجموعتها الرمزية، وبغَيرها
يستحيل التفاهُم؛ وتستحيل الصِّلة بين الأفراد. والأمر سهل عندما نستخدِم الكلمات
للدلالة على الأشياء الخارجية، لأنَّ الكلمة والشيء كليهما يكونان من قبيل
الكائنات المادية، وغاية ما في الأمر ترانا نرمُز بكائنٍ مادي إلى كائن مادي آخر،
لكن الأمر لا يكون بهذه السهولة كلها عندما نستخدِم الكلمات للدلالة على الحالات
الشعورية الداخلية؛ فعندئذٍ تكون العملية الرمزية عبارة عن تحويل ما ليس بمادة في
طبيعته إلى ما هو ماديٌّ بطبيعته؛ إذ تُحوِّل حالات الفرح والحزن والارتياح والغضب
والحبِّ والكراهية — وهي حالات نفسية — إلى كلماتٍ تُنطَق أو تُكتَب، والنطق هواء
والكتابة مداد، والهواء والمداد كلاهما مادي، لكنك تُضطرُّ إلى ذلك اضطرارًا؛ إذ
لا وسيلة لاطِّلاع سواك على حالاتك الداخلية إلَّا إذا عرضْتَها أمام عينَيه أو
على مَسمعٍ من أُذنَيه، وهذا هو نفسه ما جعل أصحاب الوجدان العميق، كالمُتصوِّفة
مثلًا، يَتشكَّكون في قِيمة ما يُقال وما يُكتَب، إذ المُهمُّ في الحالة الوجدانية
أن تُمارسَ وتُعاني لكي تُدْرَك، لكن ما حيلة الإنسان ولا وسيلة أمامه — إذا أراد
توصيل حالته إلى سواه — إلا أن يلجأ إلى الرمز؟
وكثيرًا ما يلجأ الإنسان إلى الرمز بغَير كلمات اللغة، فيستخدِم الألوان لتدلَّ على ما يُريد الدلالة عليه. فاللون الأبيض — مثلًا — قد يرمُز به إلى النقاء والصفاء والطُّهر؛ لا بل دَقِّق النظر هنا في كلمة النقاء، أو كلمة الصفاء، تجِدْها هي نفسها استخدامًا رمزيًّا جاء ليدلَّ على حالةٍ عقلية أو نفسية مُعيَّنة، وإلَّا فكيف تكون الحالة الداخلية مُنقَّاة؟ مُصفَّاة؟ هكذا نري أنه إذا كان المرموز إليه حالة باطنية، كان لا بدَّ من تحويلها إلى صورة مادية بينها وبينها شبَهٌ بوجهٍ من الوجوه، فحالة الطهر — مثلًا — شبيهة بالماء المُصَفَّى أو بالغلال التي نُقِّيَتْ من الشوائب، وهذه وهذه شبيهتان باللون الأبيض الخالي من البُقَع الملوَّنة بألوان أخرى، تشبيه في تشبيه، أو قُل: إنه رمز في رمز ولا مناصَ من ذلك.
إن
تعبير الإنسان عن حياته الخُلقية والفنية، كان يُصبح ضربًا من المُحال بغير عملية
الرمز؛ وحسبك أن تذكُر ما شئتَ من صفاتٍ خُلقية أو صفاتٍ جمالية، لتعلَم أنها في
حقيقتها رموز إلى الحقائق، وليست هي الحقائق نفسها.
إنَّنا
نصِف الفعل المُعيَّن أو الشخص الفاعل بأنه رفيع أو شريف أو سامٍ، والارتفاع
والشرف والسموُّ كلها كلماتٌ تصِف حالاتٍ مُعيَّنة من الأرض أو السماء. وكذلك قُل
في أضداد هذه الصفات، كالدنيء والسافل والوطيء … إلخ. فلماذا يكون الجبل أفضل من
الوادي حتى نتَّخِذ من علوِّ الأول، ومن انخِفاض الثاني مثل هذه الدلالات
الخُلقية؟ إن الواقع في ذاته لا يُبرِّر ذلك، لكنها ضرورة الرمز؛ ففي أنفسنا مشاعر
إزاء قِيَم مُعيَّنة، ونريد إخراجها في صورةٍ مرئيةٍ أو مسموعة، مع أنها هي نفسها
لا هي من المرئي ولا من المسموع، فلا حِيلةَ أمامنا إلَّا أن نرمُز مُعتمِدين في
ذلك إلى شبهٍ قريب أو بعيدٍ بين المرموز به والمرموز إليه.
وحسبك
أن تنظُر في كلمةٍ رمزية واحدة، هي كلمة «الضوء» لترى كم استخدَمَها الإنسان،
وبأيِّ الصور استخدمها، ليرمُز بها إلى حالاتٍ داخلية أراد أن يُعبِّر عنها؛
فالضوء في ذاته ظاهرة طبيعية، كالهواء والماء والصخر والمطر والصوت والكهرباء، لكن
الإنسان قد استخدَمَه ليَدُلَّ به على القداسة وعلى الفضيلة وعلى الذكاء وعلى
الجمال؛ كما استخدَم ضِدَّه الظلام ليَدُلَّ به على مهاوي الرذيلة وعلى الغباء
وعلى القبح بشتى صنوفه وضروبه. يَجوز أن يكون الأساس في هذا الرمز هو القيمة البيولوجية
للضوء، فبغيره لا تكون حياة، ثم انتقل حبُّ الإنسان للحياة إلى حُبِّه لعامل
بقائها وهو الضوء، لكن مهما يكُنِ الأساس، فالمُهم عندنا الآن هو عملية الرمز، حين
لم يجِدِ الإنسان وسيلةً يُعبِّر بها عن حالةٍ شعورية إزاء مواقِفَ مُعيَّنة سوى
أن يتخيَّر ظاهرة طبيعية ليرمُز بها إلى الحالة الداخلية، أملًا منه في أن يكون
هنالك شبَهٌ بين الخارج والداخل.
وإن
مِثل هذا الانتقال من مجالٍ إلى مجال لشائعٌ في كلامنا شُيوعًا شديدًا، فمن
تمتُّعنا بدفء النار في الشتاء ننقُل الأمر إلى علاقتِنا بالأصدقاء حين تمتَّعْنا
متعةً شبيهة بها، فنقول عن العاطفة عندئذٍ إنها دفيئة؛ ومن تمتُّعنا بحلاوة
الأشياء الحلوة على مذاقِ اللسان، ننقُل الأمر إلى غير هذا المجال، فنقول عن شخصٍ
إنه حلوُ الطباع، وهكذا.
واستمِعْ إلى نقَدَةِ الفنون، كيف يَصفون الآثار الفنية التي يتناولونها بالعرْض والتقديم؛ يقولون عن القصيدة أو عن الصورة: إنها رشيقة مثلًا، أو إنها صارخة أو هادئة، وبالطبع لا ينبعِث من ألوان الصُّورة صراخ، كما أن كلمات القصيدة ليست فتاةً تسير بخُطى خفيفة فتُوصَف بالرشاقة … لكنه الرَّمز أمرٌ محتوم على الإنسان ليُعبِّر عن نفسه كائنةً ما كانت حالتُه النفسية التي يُريد إبرازها إلى الخارج لتكون على مرأًى من الناس ومَسْمَع.
وننتقِل
من مجال اللغة وغيرها من الرموز التي نرمُز بها إلى أشياء الواقع وإلى القِيَم
التي نُقوِّم بها هذه الأشياء، فقد رأيْنا أن التفاهُم في هذا المجال كله لا يكون
بغَير علاماتٍ ورموز، ننتقِل من هذا المجال إلى مجالٍ طويل عريضٍ واسعٍ عميق، هو
مجال الأحلام وما يُشبِهُ الأحلام من أساطير وغيرها.
فلا
أحسبُنا نعدو الصواب إذا قُلنا إنَّ الإنسان يحيا بصحوِهِ كما يحيا بنَومِه، وكذلك
لا نعدو الصواب إذا قُلنا أيضًا إنه يحيا بعقله الواعي، كما يحيا بعقله الحالم، لا
بل إنَّ بعض علماء النفس ليربطون حقيقة الإنسان بأحلامه أكثر ممَّا يربطونها
بحياته الواعية.
فكيف
نحلُم وبأيِّ شيءٍ يكون الحلم؟
أظنه
لا داعي إلى إفاضة القول في هذا، فقد أصبحت نظرية الأحلام شائعة في شتى المستويات
الثقافية، كلٌّ يأخُذ منها بحظِّه من الدقَّة والتفصيل، لكن ما ينبغي ذكره في سياق
حديثنا هذا هو الدور الذي يقوم به الرمز في أحلامنا. فالأشياء والأفعال التي نراها
في الحلم، هي بمثابة الكلمات نستخدِم كلَّ شيء منها، أو فعل لنرمُز إلى ما نُريد
أن نرمُز إليه، فليس الحلم كالمقالة أو كالفصل من فصول الكتاب: قوامه كلماتٌ
وعبارات يتبَع بعضُها بعضًا على صورةٍ يُمسك فيها بعضها برِقاب بعضٍ إمساكَ
النتيجةِ التي تتبَع مُقدِّماتها، فذلك هو أسلوب الحياة الصاحية الواعية، وأما
الحلم فتَتابُعٌ من رموز أخرى غير رموز اللغة المألوفة، فالبحر تراه في الحلم بمثابة
كلمة أو جملة، وكذلك العصا، وكذلك الصعود أو الهبوط … عالم كله رموز. ولئن دخل
التكلُّف والتصنُّع في حياة الإنسان الواعية، فحياة الأحلام هي الإنسان على
حقيقتِهِ وعلى طبيعتِهِ العارية التي لا تعرف نفاقًا ولا رياء، فإن كان الرمز هو
لبُّ الأحلام وصميمها، كان الرَّمز بالتالي هو لبُّ الإنسان وصميمه.
وماذا تكون الأساطير التي لم يَخلُ منها شعبٌ من الشعوب إن لم تكن هي أحلام تلك الشعوب، بل ماذا يكون الأدبُ في صميمه إلَّا أن يكون مُتنفَّسًا كالأحلام سواء بسواء، يعيش فيه الإنسان وفْقَ طبيعته الذاتية؟ وأعتقد أن هذا هو المقصود حين يُقال — كما قال كيتس — إن الجَمال حق، فالفن الجميل — كالشِّعر مثلًا — مهما امتلأ بالصور الغريبة فهو حق؛ لأنه كالحلم في إبراز حقيقة الإنسان، ولك بعد ذلك أن تنظُر إلى الدور الذي قامت به وتقوم به الأساطير. الأدب كله بصفةٍ عامَّة، لتعلَم كم يرتكِز الإنسان على الرَّمز في حياته اللَّصيقة بلُباب نفسه.
ونختم
القول بكلمةٍ عن العلم الصِّرْف الذي قد يُظنُّ إنه أبعد ما يكون عن عالم الرَّمز،
وإذا هو لا شيء إلا رموز في رموز؛ فهذه هي الرياضة: حقيقتُها أنها بناء من رموز لا
أكثر ولا أقل؛ فيبدأ العالم الرياضي — إقليدس في الهندسة مثلًا — يبدأ بطائفة من
رموزٍ هي الكلمات التي يُؤلِّف منها تعريفاته ومُسلَّماته، ثم يمضى بعد ذلك في
استدلال مجموعات رمزية من مجموعات رمزية أخرى؛ والحساب والجبر أمعَنُ في عملية
الرمز لأنهما يَستغنيانِ عن الكلمات بطائفةٍ من علاماتٍ وأحرُف، يظلُّ العالِم
الرياضي يبني منها مُعادلاتِهِ ليستدلَّ من المُعادلات مُعادلاتٍ وهلمَّ جرًّا.
ومعلوم أنَّ البناء الرياضي كائنًا ما كان، وهو نظام مُتَّسق من رموز، يُراعى فيه
سلامة استدلال صيغةٍ رمزية من صيغةٍ رمزية، بغضِّ النظر عن مُطابقة هذه الصِّيَغ
للواقع الخارجي أو عدم مُطابقتها له.
فهذه
المُطابقة مع العالم الخارجي متروكة للعلوم الطبيعية التي هي في كثيرٍ من أجزائها
عبارة عن رياضة تطبيقية. وحتى هذه العلوم الطبيعية تَرتدُّ في النهاية إلى أرقامٍ
تُقرأ على مراقم ومقاييس، وإلى رُسوم بيانية ولوحات فوتوغرافية وهلمَّ جرًّا.
خذْ
أيَّ قانونٍ طبيعي شئت، خُذ قانون الجاذبية — مثلًا — تجدْه صياغةً من رموز؛ نعم
إننا نستغلُّ هذه الرموز في فهم الطبيعة وتسييرها، لكن هذا لا يجعلها شيئًا آخَرَ
غير صياغةٍ رمزية.
وبهذه
المناسبة أذكُر عبارةً قرأتُها هي غاية في قوة التصوير لتطوُّر التفكير الإنساني
على مرِّ العصور؛ إذ قال صاحب العبارة: إنَّ الأمر كله انتقال من طريقةٍ في الرمْز
إلى طريقةٍ أخرى في الرَّمزِ أيضًا؛ فقد كان البدائي يَستخدِم السحر والدُّعاء وما
إليهما ليُحقِّق الظاهرة الطبيعية التي يُريد تحقيقها، كإنزال المطر مثلًا، وأما
الإنسان المُعاصر فيستخدِم صيغًا رياضية للغاية نفسها. ونقصد بالصِّيغ الرياضية
قوانين العلوم؛ فكلا الرجلين أداته الرَّمز في تحقيق الهدف، وكلا الرَّجُلين
يتمسَّك بطريقته الرمزية لمَّا دلَّته خبرته على نجاحها، وكلا الرجلين يُحاول
المُلاءمة بين نفسه وبين الطبيعة من حوله. فالبدائي يرشو الطبيعة بالدُّعاء
والثناء، ويُمالئها بالتعزيم والسِّحر، والمُعاصر العِلمي لا يرشو ولا يُمالئ بل
هو يُمسِك بمفتاحها لتنفتِحَ له عن أسرارها، كلما أدار لها المفتاح بإرادته. فكلا
الرجلين يَستعمِل للطبيعة رُموزًا لكن الفرقَ هو أنَّ البدائي يتصوَّر أنَّ لرموزه
سُلطانًا مباشرًا على الطبيعة؛ وأما المُعاصر العِلمي فينظُر إلى رموزه على أنها
وصفٌ للطبيعة وليست هي بذات السُّلطان والإرغام.
فالإنسان
رامِز في شتَّى عصوره وفي مختلف نواحي نشاطه الفكري؛ وقد ازدادت هذه الحقيقة
وضوحًا في عصرنا الحاضر، فاهتمَّت الفلسفة المُعاصرة بالرمز ودلالته، وبخاصة الرمز
اللغوي في العلوم وغيرها، فهذا المبحث هو محور الاتجاه الفلسفي المُعاصر الذي
يُطلق عليه اسم الوضعية المنطقية، أو التجريبية العلمية؛ وما أكثر الكتُب والأبحاث
الفلسفية التي تُنشَر الآن ولا شاغِلَ لها إلا تحليل الرمز ومعناه، حتى لقد أصبح
يُقال — وبحق — إن الفلسفة هي علم المعنى.
الرياضة
رموز، وعِلم الطبيعة رموز، والفلسفة تحليل للرموز، والتفاهُم في الحياة اليومية
الجارية قائم على الرمز، وتقاليد المجتمع وعقائده إشارات رمزية، والأساطير رموز
والتعبير عن القِيَم الأخلاقية والجمالية لا يكون إلا بالرمْز، والأدب قوامه
الرمْز بالتشبيه والتصوير، والفن كله رموز؛ رموز صوتية في الموسيقى، ورموز لَونية
في التصوير، وأحلام الإنسان رموز.
أفيكون عجيبًا بعد هذا كله، أن نصِف الإنسان بأنه الحيوان الرامِز؟
المصدر: كتاب من زاوية فلسفية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق