لم يجرؤ أحدٌ
من الصبيان في محلتنا قديماً على ضرب (خيّوس) أو حتى توبيخه. لأنه ببساطة كان
عنيفاً وضليعاً في أساليب العراك ووقاحة اللسان. علّمته التجارب وحياة الشارع أن
يكسب كلَّ شجار. فقد كان يملك قبضتين قويتين وأصابع كأنها ظروف طلقات البندقية.
وجبهةً يدوخ الحمارُ من نطحتها. التصق لقبه به منذ طفولته، فقد كان ذا رائحة نتنة،
ولم يستح من هذا فقد ظلَّ خائساً ولم يزعجه هذا اللقب بل كان مرتاحاً له.
فباعترافه أن الإنسانَ كلما اشتدت نظافته واهتمامه بنفسه زاد جبْنُهُ. لهذا كان
خيّوس لا يستحم كثيراً، ولا يكترث لجزء من أجزاء بدنه إذا أصابه مكروهاً. لم يُكمل
الدراسة بل طُرد في منتصف مشوار المرحلة الابتدائية. وهذا الشيء ربما جعله ناقماً
علينا نحنُ أبناء محلته. حين صار ينتظرنا كلَّ يوم عند حلّة المدرسة، فيختار من
بيننا واحداً كما يختار حيوانٌ مفترس ضالته، ثم بسبب أو من دون سبب يشبعه ضرباً
وإهانة. ولم يكن بمقدورنا الاعتراض بالطبع، فمن يجرؤ لكي يعترض على خيّوس الوقح
العرّاك الرعديد. في البدء لم يكن يعني هذا لي شيئاً فقد كنتُ متفرجاً حالي كحال
الآخرين، لكنني استشطتُ حقداً عليه بعد ماجرى لي معه، حين لمحني ذات مرة وأنا
أتكلم بصوت عال مبتهجاً مسروراً، لحظة خروجي أنا وزملائي عن ما حققته من فوز عليهم
في درجة امتحان يومي التلاميذ. امسك بي من ياقتي ثم اختلق اعذاراً واهية لكي
يسحبني بعدها، ويبدأ بضربات على رأسي ووجهي، ويختم الجولة برميي في بركة ماء آسن
تكونت من مياه المطر. حاولت الرد عليه بالمثل لكن أصوات الضحكات المتفرقة من
زملائي، والتي جاملوا بها خيّوس وثأروا بها مني لأنني أزعجتهم، قذفت في قلبي
فتوراً لم أعد أقوى بعده على مواصلة رغبتي في الرد. وحين عاتبتهم على عدم نصرتي
بكلمة، ضحكوا وقالوا مع من؟ مع خيّوس!! سيضربنا جميعاً ويرمينا إلى جنبك في
البركة. ومن يومها شعرتُ بالألم الذي ذاقه غيري ممن ضُربوا من قبل. في اليوم
التالي اقترحت على أصدقائي شيئاً. احضرت معي دمية صغيرة وإبرة. وصرت أحكي لهم عن
لعنة (الفودو). تلك اللعنة السحرية التي تدبُّ في بدن عدوك عند غرس الإبرة في جزء
من أجزاء الدمية، وقلت لهم أننا إذا قرأنا عليها اسمه ليلاً مع عود بخور وشمعة،
سنرى في الغد ماذا سيحل به بفعل اللعنة السحرية. وبدأت أشرح لهم التفاصيل التي
رأيتها في فيلم سينمائي ذات مرة، وكيف أن التعويذة ولعنتها جرى مفعولها على أحد
أبطال الفيلم. بداية هم سخروا من فكرتي التي كنت جاداً عند طرحها، لكنهم سايروني
كما يبدو لأن الأمر كان لعبة مسلية لا أكثر. جلسنا ليلتها وقرأت على الدمية
التعويذة التي حفظتها من الفيلم. وصرت أغرس الإبرة في قلب الدمية، وأصدقائي
مجتمعين جلوساً على رصيف الشارع حولي. كنتُ أرى وجه خيّوس على وجه الدمية وأنا
كلّي ثقة بمفعول السحر، ثم تفرقنا عائدين إلى منازلنا. نمتُ ليلتها وكلّي شوق إلى
رؤية وجه عدوي غداً وهو يجرّ بدنه من الألم بسبب اللعنة. لكن عند خروجي من المدرسة
في اليوم التالي سمعتُ ورأيتُ أصواتاً وجمهرة عند طرف سياج المدرسة، ولما هرولت
صوب المحتشدين، ظهر أنه خيّوس ماسكاً بأحدهم وقد أوجعه ضرباً، وحوله جمهور من
تلاميذ المدرسة الذين كانوا يشجعونه مجاملة وجُبناً. في الحقيقة وصلت إلى نتيجة
ساعتها، أن هذا الصبي لا أحد يستطيع ردعه. وكاد اليأس يبلع أملي كما يبلعُ موجُ
البحر الغريقَ، لولا الصدفة التي ارشدتني لكتيب في مكتبة قريبة، حين كنتُ أنوي
شراء بعض لوازم الدراسة. الكتيب كانت على غلافه صورة (بروس لي)، وهو يؤدي حركة من
حركات فنون القتال الشهيرة. لم أستطع شراء الكتيب التعليمي فوراً، لكنني عدت إليه
لاحقاً بعد أن جمعت ثمنه. وكأن الكتيب هو الدليل الذي سيجعلني أتغلب على خيّوس.
قائلاً لنفسي أنه لو سيطر بقوة ذراعه وشجاراته وصلافته، أنا سأتعلم طريقة القتال
وفنونه وأعود إليه وألقنه درساً. وبدأت بتعلم الحركات من رسومات الكتيب التعليمية،
كيف إذا أمسكني الخصم من رقبتي، لأدور حوله ماسكاً ذراعه وأطرحه أرضاً. وصورة
المسك من الأمام وأخرى من الخلف، وعشرات الرسومات والشروحات الأخرى التي كنت أتمرن
عليها بواسطة الوسادة. فلم يكن عندي خصم حقيقي سواها لكي أجرب عليه. أمي سخرت مني
قائلة: هذا الكتيب لن يمنحك القدرة على العراك، لأنه مجرد رسوم، القضية تحتاج إلى
مدرب وخصم حقيقي وجرأة.. الجرأة هي التي تجعلك تفوز في أي نزال، حتى لو كانت
بحوزتك ربع الإمكانيات. صراحة لم أقتنع بحديثها ولم أقل لها أصلاً أن السبب هو
حلمي بتلقين خيّوس درساً، لأنها لو عرفت لنهرتني فوراً خوفاً عليّ، لكنني أقنعتها
أن المسألة مجرد تسلية. كنت أظن أن القضية لا تحتاج لكل هذا التعقيد، فالكتيب هو
مدرب جيد، والخصم وسادتي القوية التي كنتُ أتخيلها عدوي اللدود، وإذا أكملت
التمرينات كما في الشروح، بالتأكيد سأطبقها على الخصم الحقيقي وأكون جاهزاً أمامه.
وبعد أسبوعين أو ثلاثة قفزت من نومي صباحاً، وقد تملكني إحساس رهيب أنني صرت لاعب
كونغ فو. المشاهد والصور والتعليمات التي في الكتيب كلها طُبعت في ذهني. ولم يتبق
سوى أن يأتي غريمي إلى سياج المدرسة وألقنه درساً. لكنني تريثت قليلاً في لحظة لم
أميّز هل كانت جُبناً أم حكمة؟!. قلت مع نفسي أنني لن أكون البادئ. صحيح هو ضربني
وألقى بي في تلك البركة وكان يوماً مشؤوماً بالنسبة لي، لكنني لن أبتدئ إن لم يكن
هو المُبادر. وعند نهاية دوام المدرسة وتهيأ الجميع للعودة إلى المنازل، غزت بدني
قشعريرة رهيبة لم أفهم سببها. ماذا لو وقع الاختيار عليّ وبدأ العراك معي؟!. وفي
الحال صرتُ أستجمع تعليمات الكتيب، لكنني عبثاً كنت أحاول الاسترجاع. لأن صور
الرسومات والتعليمات صارت تتساقط من رأسي الواحدة تلو الأخرى، مع كل خطوة أمشيها
صوب باب المدرسة الكبير. ولم يخطر في بالي سوى أن أفرد ذراعيّ كما يفعل الديك
بجناحيه ساعة الشجار، وهذا المشهد أثار في قلب خيّوس الفضول كما يبدو. لأنه نظر
إليّ وحركتي تلك وتوجه صوبي موجهاً سهام إهانته واستفزازه. توقفت ووضعت عينيّ في
عينيه ولم تمض عدة ثواني إلا وأنا معه مشتبكين في شجار. في لحظة العركة تبخر
الكتيب وتعليماته كلها من رأسي، ولم أذكر من ذلك الموقف سوى تعابير وجهه الضاحك
أثناء ضربي، مع عاصفة من الصياح والصفير والضحكات من تلاميذ المدرسة المتجمهرين.
حين عدتُ إلى المنزل بعد أن أكلتُ وجبة سخيفة من الضرب، حاولت قدر الإمكان إخفاء
وجهي وملابسي المبتذلة عن عين أمي. الحاجة إلى البكاء دفعتني للهرولة صوب غرفتي
بسرعة، ثم ألقيت كتبي وملابسي وبكيت مصدقاً كلامها. فالكتيب وحفظ الرسومات
والوسادة لم تمنحني هذه الأشياء القدرةَ على ضرب خيّوس. وكنت اتساءل هل تدرَّب هذا
الوغد عند مدرب ما لكي يعلمه تلك الحركات والجرأة؟!. ولماذا لا أمتلكُ الصلافة
التي يتمتعُ بها؟!. على أية حال قررتُ وقتها أن أكون تلميذاً عند مدرب حقيقي.
فالكلام النظري في كثير من الأحيان لا ينفع بلا ممارسة عملية. ومرت الأيام والشهور
وأنا أتحاشى الأماكن التي يجلس أو يُتوقع أن يكون فيها خيّوس. حتى باب المدرسة
الكبير صرتُ لا أخرج منه كما التلاميذ، بل أتسلق سياجها الخلفي ومن هناك أأخذ
طريقاً ملتفاً بعيداً، فهذا أفضل كي لا يراني ولن يراني، لأنه يبحث عن التلاميذ
الخارجين لكي يتناول أحدهم ضرباً مفتخراً ومخيفاً الآخرين، ولن يفكر أن أحداً سلك
ذلك الطريق. إلى حين التدريب بشكل جيد في إحدى قاعات الفنون القتالية، ثم أعود
إليه مرة أخرى لكي ألقنه درساً وأسترد كرامتي وثأري.. أبناء المحلة عرفوا أنني
أتدرب على فنون القتال. وكنت كلما جلست معهم يذكرونني بحوادث العراك بين الصبية
وبين خيّوس، وفي تذكيرهم هذا كأنهم يريدون استفزازي وتذكيري بثأري منه. بالطبع هم
يتمنون رؤيته ممداً على رصيف من أرصفة الشارع وقد أشبعه أحدهم ضرباً. أنا أو غيري
لا يهم فالأصدقاء كانوا يحلمون بأن يثأر أحدهم نيابة عنهم والسلام. وجاءت الفرصة
لهم عن طريقي حين علموا أنني أتدرّج في إتقان لعبة الفنون القتالية يوماً بعد يوم.
المشكلة أنني كلما تقدمت وفزْتُ بحزام في اللعبة، مازلت متردداً من مواجهة خيّوس!.
هذا التردد الدفين في داخلي لم أفهم كنهه حتى هذه اللحظة!. سنة بعد سنة، وجولات
بعد جولات، وانتصارات ومشاركات وسباقات وأحزمة. حتى أنني وصلتُ إلى أعلى حزام في
فنون القتال، وصار لاعبو هذه اللعبة يخشون منازلتي. لكن بطولاتي كلها كانت على
بساط اللعبة وفق القانون والتحكيم. ربما لأنني كنت أشعر أن عراك اللعبة في القاعات
لم يكن عراكاً حقيقياً؟!. بل هو مجرد لعبة وسيصافح كلُّ لاعب غريمه بعد انتهاء
المباراة. ومع كل النزالات العديدة التي شاركت وفزت بيها، ظلت صورة الشجار في إحدى
شوارع المحلة تعيش في ذاكرتي.. نزالات الشارع شيء مختلف..!!. لا قانون فيها ولا
روح رياضية. تلفها الأحقاد والكراهية والشراسة والحاجة إلى الغلبة.. وظلت صورة
خيّوس تقفز امامي في وجه كلِّ خصم أدخل معه نزالاً رسمياً. ومع جميع مهاراتي التي
كسبتها من خلال اللعبة، ظلت في قلبي خشية من مواجهة ذلك الصبي الوقح..لم يُعد صبياً
الآن.. لقد صار رجلاً كاسباً صاحب عائلة. أعتزل الشجارات القديمة الصبيانية بعد أن
فاز بكل جولاتها الشوارعية، وأنا اعتزلت اللعبة بعد أن فزتُ بكلِّ جولاتها الرسمية.
الجمعة، 27 نوفمبر 2020
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق