بناء الإنساء وجدلية الثيموس الأفلاطونية - بوعرفة عبد القادر - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 29 نوفمبر 2020

بناء الإنساء وجدلية الثيموس الأفلاطونية - بوعرفة عبد القادر


أصبح الاهتمام بالإنسان فلسفيا واستراتيجيا يحتل مكانة كبرى في تصورات الفلاسفة والمنظرين للمستقبليات، نظرا أن موضوع الإنسان يرتبط  مباشرة بصراع النماذج الإنسانية، والذي سماه أفلاطون بنظرية الثيموس، نلاحظ ذلك من خلال نظرية صدام الحضارات أو صراعها، فكل صراع أو تدافع  يعكس على الأقل وجود قطبين نِدَين لبعضهما البعض، يسعى كل طرف منهما نزع الاعتراف بالتفوق من الأخر وفق مبدأ الميغالوثيمس، أو نزع الاعتراف بالتساوي وفق الإيزو.

ولكي نقرب المعنى نفترض وجود شخصين في لحظة تاريخية ما، نسمي الأول أ، والثاني ح، فحتما أن أ رسم صورة مثالية لذاته،حاول أن يجسد من خلالها الكمال الذي ينقصه،كما هو تعبير في الوقت نفسه عن رفض لما هو عليه. 1 والحالة نفسها تصدق على ح، ويمكن للتصورين أن يتفقا في بعض ملامح النموذج المأمول كمشروع مستقبلي، غير أن الاختلاف سيجد مجالا واسعا.

ومن البديهي، أن يحاول كل شخص اعتبار نموذجه الأصلح والأمثل، عندئذ يبدأ الصراع والتدافع بينهما، نتيجة رغبة كل واحد منهما نزع الاعتراف بالتفوق من الآخر بشتى الأشكال والصيغ المتاحة لكل منهما.  وأغلب الفلاسفة يعتبرون أن التاريخ بدأ حين دخلت النماذج في دائرة الصراع، والذي بالفعل أخرج الإنسان من بدائيته وحيوانيته إلى مجال الألفة والتجمع، وإبداع الحضارات.

بدأ التاريخ حتما بشخصين، لكن لم يمض زمن حتى اتسعت الشبكة الاجتماعية، فانقسمت إلى شعوب وقبائل، متعددة الألوان والأجناس، ومتنوعة الأفكار والحضارات، وكان من الطبيعي أن يستمر صراع النماذج أكثر قوة وشدة وضراوة، وأن تتطور آليات الصراع والدفاع، وتتسع مساحة الاختلاف، وتغدو الحرب في أغلب الأحيان الوسيلة الوحيدة لتحقيق المشروع الحضاري. لذا يحاول كل جيل إبداع فلسفة التفوق، وتأسيس مذاهب وحركات وأحزاب، من أجل وضع مفاهيم جديدة عن الإنسان تمكنه من إثبات وضعه الكوني، ونزع الاعتراف بالوجود من الأخر الذي يحدده مبدأ التدافع القرآني.

إن الإنسان النموذج مشكلة جوهرية منذ الأزل في شعور كل فرد واع، لكونها تخضع لجدلية أبدية: التنظير للإنسان المطلوب من معكوس ما هو عليه. يرفض كل جيل الإنسان القائم، وكل رفض يفرض وضع مفهوم جديد عنه، وصراع الأجيال يعكس عدم تناسب الذات الخلفية مع السلفية، فالأولى ترنو إلى التقدم والحركة، والثانية في مجملها تتجه نحو السكون، وكل جيل يسعى إلى بناء نماذجه الجديدة، أو على الأقل إعادة صياغة نموذجه الراهن، غير أن الإشكال الصعب على مر التاريخ كيف نبني أو نعيد صياغة الإنسان؟

إن العالم الإسلامي والعربي والعالم الثالث بأجمعه، يشترك في خاصية عامة هي الانحطاط، وهي ظاهرة مفتوحة فكريا، اختلفت صورها من فكر لأخر. والضرورة التاريخية تفرض على المفكرين معالجة مشكل الانحطاط في عمقه الحقيقــــي ـ أقصد الإنسان ـ فالحل الاقتصادي والسياسي أو الديني، يبقى عاجزا وإن تناسقت أفكاره، وترابطت وحداته على المستوى النظري، إذا ما أُهمِل الإنسان وعُد مجرد حد في قضية أكبر منه. لقد شهد العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين حركة إصلاحية نهضوية، لكنها لم تستطع تحقيق القطيعة ولا النهضة كونها اهتمت بالعقيدة وأهملت الإنسان كمشكلة، وأقحمت نفسها في متاهات كلامية لا فائدة منها.

إن بناء الإنسان يسبق دائما المشروع من حيث التجسيد لا من حيث الوجود، فكل المحاولات الكبرى في التاريخ الحضاري، اتجهت إلى بناء الإنسان أولا. وفي تاريخنا الإسلامي خير دليل على ذلك، ما فعله الرسول(ص)، حيث اتجه إلى بناء الإنسان في المرحلة المكية حتى يكون في مستوى التحدي عند بناء دولة المدينة، وكذا إعداده لدخول حلبة الصراع العالمي. وإذا كان الفيلسوف يرفض تعريف الإنسان من فكرة أن كل تعريف للإنسان هو قتل للإنسان، فليس من الاشتباه أن نتجاوز القاعدة ونحاول إلقاء الضوء على بعض الجوانب المُعرفة له.

 

إن الإنسان أصله اللغوي إنسيان، وأصل الكلمة عند العرب القدامى تأخذ معنيين الأول: أنسيان على وزن أفعلان وتعني النسيان، والعلة عند معتقديها ترجع إلى كون آدم نسي ما عهد إليه من قبل الله، وعليه سمي بذلك، والمعنى الثاني ينبثق من الأنس أي الألفة، ويكون على وزن فعليان. أما الإنسان من الوجهة المنطقية جنس قريب، وعند البعض نوع (ESPECE) إذ ما اعتبرنا الحيوان جنس (GENRE). وقد يختلط مفهوم الإنسان مع الرجل، والفرق بينهما أن الإنسان جنس والرجل نوع، وبالتالي فالإنسان يخص الذكر والأنثى.

والإنسان في المفهوم العامي مخلوق آدمي، وهي نظرة ساذجة وسطحية لخلوها من الأبعاد واقتصار النظرة على الأعراض لا الجواهر. وعند البيولوجيين كائن حي من منظور انه يقوم بوظائف كالتغذية، الإحساس، الحركة، التناسل، بيد أن المفهوم البيولوجي محصور في أطر ضيقة لا يفصل بين الإنسان والحيوان، وترتبت عنه عدة فلسفات سفلت الإنسان تسفيلا. وعندما نطالع تصورات الفلاسفة ومفاهيمهم عن الإنسان، نلاحظ مدى التنوع والتعدد التضاد والتداخل.. فابن سينا في (النجاة ص 156) يعرفه على الشكل التالي: "ليس الإنسان إنسانا بأنه حيوان، أو مائت، أو أي شئ آخر، بل بأنه مع حيوانيته ناطق "

وعندما نتصفح (الشفاء) نجد تحليلا للمفهوم السابق، فالإنسان عنده جوهر له امتداد في أبعاد مادية تفرض عليه الطول والعرض والعمق، ومن جهة أخرى يمتلك نفسا بها يتغذى ويحس ويتحرك ومع ذلك يمتلك عقلا به يتفهم الأشياء، ويتعلم الصناعات … وعندما يتحد كل ما سبق نحصل على ذات متحدة هي الإنسان. أما الفارابي أبو نصر في كتابه (فصوص الحكم ص 30) يعرفه على النحو التالي: " إن الإنسان منقسم إلى سر وعلن، أما علنه، فهو الجسم المحسوس بأعضائه وأمشاجه، وقد وقف الحس على ظاهره، ودل التشريح على باطنه. وأما سره فقوى بروحه ."

ولعل مقولة الأشعري مأخوذة من نظرتهم حين يقول: " إن الإنسان هو هذه الجملة المصدرة، ذات الأبعاض والصور" وقد عرف الصوفية الإنسان كونه برزخ بين الوجود والإمكان، والمرآة الجامعة بين صفات القدم والحدثان، والواسطة بين الحق الذي هو الله والخلق. وكتعريف جامع مانع يمكن القول: أن الإنسان كائن حي عاقل مريد مدني بالطبع ومتأنس بالقوة، ومتعالٍ بالقلب والعقل واليد، والمعنى الأخير أقرب إلى المعنى الذي رسمه مالك بن نبي إذ اعتبره مجموع الأنشطة المتكاملة. ولابد أن نشير أن المفهوم الذي رسمه مالك بن نبي في خلده عن الإنسان يتعلق بالقرآن الكريم، مفهوم الإنسان عنده يرتبط بصفة الشاهدية، والإنسان الشاهد هو النموذج المطلوب، والبديل الحضاري عن إنسان ما بعد الموحدين، السلبي في كل أبعاده.

غالبا ما ترتسم في أذهان الأجيال المعاصرة صور وأفاق من وحي الموضوع المدروس، وخاصة الرغبة في محاولة التأسيس لفلسفة الإنسان ذات البعد الإسلامي، بغية وضع المسوغات التي تمكن العقل العربي والإسلامي من فهم مشكلاته ونماذجه الأساسية، شريطة أن يجعل من الفكر الأصيل معلما، ومن الفكر العالمي زادا ومرجعية، فلنضع الخطوات الثابتة للعالمية الثانية، ومجتمع يدخل التاريخ بقوة وخاصة ونحن نشهد الألفية الثالثة. ولا نغفل أبدا حقيقة عبر عنها ألكسيس كاريل في قوله:" إن إعادة الإنسان إلى تناسق ذاته الفسيولوجية والعقلية سوف يبدل الدنيا".

إن الحضارة كالحرية، لا يمكن الحصول عليها إلا بالإنسان المتعقل لفعله، المدرك لوقته، والمتفاعل مع التراب، والمتناغم مع التراث، والمتعلق بالمعارف العالمية على السواء، دون أن يتحول إلى زبون يستهلك ولا ينتج. إن الألفيات القادمة ستكون بدون شك معيار صحة الأفكار الاستشرافية، وميزان صلابة كل النماذج المستقبلية التي أبدعها الفكر العربي المعاصر.


بوعرفة عبد القادركاتب وبرفيسور بجامعة وهران الجزائر -  قسم الفلسفة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق