أفلوطين: البحث عن الواحد – ستيفن غامبارديلا - ترجمة: علي رضا - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 1 ديسمبر 2020

أفلوطين: البحث عن الواحد – ستيفن غامبارديلا - ترجمة: علي رضا


الأفلاطونية المحدثة والمعرفة الألوهية

تنقل تحفة ت. س. إليوت الأخيرة T. S. Eliot، الرباعيات الأربع Four Quartets، إحساسًا بأن خبرتنا بالزمن هي انقسام للوحدة اللا-زمنية في قلب عالمنا المتغير.

كُتِبَ معظم الكتاب خلال فوضى الحرب العالمية الثانية. فقد ظل الشاعر في لندن خلال فترة قصفها إبان الحرب العالمية الثانية (The Blitz)، حيث عمل كحارس إطفاء متطوع، فكان مكلفًا بإخماد النيران من تدمير المباني.

كانت القاذفات الألمانية تحوم فوق المدينة وهي محملة بقنابل حارقة وشديدة الانفجار، هادفة ترويع الإنجليز وإجبارهم على الاستسلام. وبينما كان صوت صفارات الإنذار يخترق الهواء، يقطعه صوت انفجارات القنابل وهي تدك المباني محولة إياها إلى أنقاض، انصرف عقل الشاعر إلى الألوهية.

يتوق المتحدث في القصيدة إلى السكون المقدس وبساطة «النقطة الثابتة للعالم الدائر»؛ منتصف محور الكون الدائر الذي يمكننا أن نجد فيه الوحدة مع الإلهي. ذلك الذي وصفه إليوت بأنه،

«ليس جسدًا ولا بغير جسد.

لا من ولا نحو. في النقطة الثابتة، هناك يكمن الرقص،

لكن لا وقوف ولا حركة. ولا تسميها جمودًا، حيث يجتمع الماضي والمستقبل معًا».

يزيل إليوت الزمان والمكان، تاركًا شعورًا خاليًا من التعبير الإثباتي، وشيئًا لا يمكن تعريفه سوى بالسلب، متجاوزًا حدود الإدراك. إنه التعبير الشعري الصوفي من الفلسفة الأفلاطونية الذي نطلق عليه الآن الأفلاطونية المحدثة Neoplatonism.

نشأ هذا النوع من الأفلاطونية في فترة فوضوية من تاريخ الإمبراطورية الرومانية، ما يسمى «أزمة القرن الثالث» (235 – 284 م)، حيث كادت فيه الإمبراطورية أن تنهار من جراء عدم الاستقرار السياسي، والحروب، والهجرات الجماعية، والأوبئة، والكساد الاقتصادي.

نضج أفلوطين Plotinus، مؤسس الأفلاطونية المحدثة، في عالم من عدم اليقين والرعب، وقضى حياته معلمًا فكرة أن العالم مجرد صورة للواقع الحقيقي الأبدي والخير. انتشرت أفكاره في الشرق والغرب، وأثرت بعمق في التقاليد الفلسفية واللاهوتية في أوروبا وآسيا.

فكر شرقي وغربي

كان أفلوطين بعيدًا عن روما عندما انطلق في مسيرته الفلسفية. فقد عاش في مصر، التي كانت في ذلك الوقت إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية. وُلد الفيلسوف في حوالي عام 204 م في شمال البلاد كمواطن روماني.

انتمت مصر إلى العالم الهلنستي (اليوناني ثقافيًا) عبر مئات السنين من الحكم اليوناني والروماني. استولى الفرس على مملكة الفراعنة القديمة التي كانت قوية في يوم من الأيام، ثم غزاها الإسكندر الأكبر Alexander the Great عندما هزم الإمبراطورية الأخمينية Achaemenid (الفارسية).

بعد وفاة الإسكندر، أصبحت المنطقة مملكة بطلمية Ptolemaic تحت سيطرة أسرة حاكمة يونانية، أسسها أحد قادة الإسكندر؛ بطليموس الأول المنقذ Ptolemy I Soter، عام 305 ق.م. واستمرت لقرابة ثلاثة قرون حتى انتحار كليوباترا السابعة عام 30 ق.م. عندما اجتاح الجيش الروماني مملكتها.

كانت اليونانية هي اللغة الرسمية للتجارة، واختلط الدين والثقافة اليونانية والرومانية بالتقاليد والأديان الراسخة في مصر القديمة، والتي احتضنها البطالمة. وبالتالي أصبحت مصر الرومانية بوتقة تنصهر فيها الثقافات والعلوم والتقاليد الروحانية الشرقية والغربية.

يخبرنا فورفوريوس Porphyry، أنجب تلامذة أفلوطين، أن الفيلسوف بدأ الدراسة في وقت متأخر نسبيًا في سن السابعة والعشرين. وسافر جنوبًا إلى الإسكندرية التي كانت مركزًا تجاريًا وفكريًا في الإمبراطورية الرومانية الشرقية أنشأه الإسكندر الأكبر، وبالطبع سُمِيَ باسمه.

درس أفلوطين تحت الأفلاطوني أمونيوس ساكاس  Ammonius Saccas، وعمل في مصر لمدة أحد عشر عامًا حتى قرر، في سن الثامنة والثلاثين، أنه يريد تعلم المزيد عن التقاليد الفلسفية والروحانية الفارسية والهندية.

فاتبع جيش الإمبراطور جورديان الثالث Gordian III أثناء زحفه في الأراضي الفارسية. لكن الحملة كانت كارثية وقتل جورديان، إما في معركة أو على يد حراسه. وفي خضم الفوضى التي أعقبت ما حدث، عاد أفلوطين إلى أنطاكية Antioch، محظوظًا لأنه نجى من الأراضي المعادية بحريته.

ثم انطلق إلى روما حيث أسس مدرسة واجتذب طلابًا بارزين، منهم فورفوريوس. أصبح الفيلسوف مؤثرًا، واكتسب مؤيدين أغنياء وفروا له سكنًا، واهتموا بأمراضه، بل وتركوا له إرثًا. كان أحد هؤلاء المعجبين هو الإمبراطور جالينوس Gallienus، الذي كان عهده طويلًا نسبيًا (خمسة عشر عامًا)، لكن حافل بالحروب الأهلية.

حاول أفلوطين إقناع جالينوس بإعادة بناء مستوطنة مدمرة في جنوب إيطاليا تُعرف باسم «مدينة الفلاسفة»، حيث سيُطَبق القانون المستمد من محاورة «القوانين» لأفلاطون على مجتمع ذي عقلية فلسفية.

لكن المشروع لم يأت ثماره قط، وربما كان ضحية الفوضى السياسية المحيطة بالعهد الصعب لجالينوس. استقر الفيلسوف في جنوب إيطاليا وكرس نفسه لكتابة كتاب للأجيال القادمة.

التاسوعات

جمع فورفوريوس، وعلى ما يبدو حرر أيضًا، الكتاب الذي سيؤمّن إرث أفلوطين. فمن المشكوك فيه أننا كنا سنعرف الكثير عن أفلوطين اليوم لولا فورفوريوس.

ذكر الفيلسوف الأصغر أن محاولات أفلوطين لكتابة الفصول كانت فوضوية. فقد كان بصره ضعيفًا، وكان خط يده صعب الفهم.

استخدم فورفوريوس مقالات أفلوطين وملاحظات مكثفة لمحاضراته من أجل جمع عمل متماسك. تم تجميع شذرات التاسوعات Enneads – الاسم مشتق من الكلمة اليونانية ἐννέα: «مجموعة من تسعة» – على مدار السبعة عشر عامًا الأخيرة من حياة أفلوطين.

وفي حين أن أفلوطين يوصَف بأنه «أفلاطوني محدث»، فمن المحتمل أنه كان يعتقد أنه مجرد أفلاطوني. فمسمى الأفلاطونية المحدثة هو من ابتكار مؤرخي القرن التاسع عشر. لم يكن لدى أفلوطين نفسه أي نية لمراجعة أو تعديل أفكار التقليد الأفلاطوني كما توحي تلك التسمية، كانت أفكاره – في نظره – طريقة لتعليم الأفلاطونية.

إن أبسط مبدأ للأفلاطونية هو المفتاح لفهم عمل أفلوطين؛ وفقًا لأفلاطون، إن عالم المُثُل السرمدي هو الواقع الحقيقي، وهو يقف في مقابل عالم الظواهر الوهمي الذي نعيش فيه.

هناك ثلاث فئات تشكل الواقع في فهم أفلوطين للكون. توصف هذه بـ «الأقانيم الثلاثة»، وهي تتقدم من البساطة المطلقة والأكثر واقعية إلى الكثرة والأقل واقعية. الأقانيم هي الواحد the One، والعقل Nous، والروح Psyche.

لم يعتقد أفلوطين أن الأقانيم الثلاثة التي تشكل الواقع برمته هي أفكار جديدة. فبالنسبة له كانت الأقانيم مجرد تعبيرات عن تصور أفلاطون للواقع.

الواحد

أدرك أفلوطين أن هناك جوهر أساسي لكل الأشياء. يتبع هذا الفكرة الأفلاطونية القائلة بأن بعض الأشياء أكثر واقعية من غيرها. فالحيوانات أكثر واقعية من الأشياء التي يصنعها الإنسان، على سبيل المثال، لأن الحيوانات لديها وحدة عضوية جوهرية. والروح أكثر واقعية من الحيوان لأنها غير مادية ولا تتكون حتى من أجزاء.

لذلك يوجد ترتيب للوجود، من الأدنى إلى الأعلى. من الأشياء المجزأة والعرضية إلى الأشياء الأكثر توحدًا وواقعية. وعلى قمة هذا التسلسل الهرمي سيكون هناك واقع موحد بشكل مطلق، وحدة يُمتَنع فيها الكثرة.

هذه الوحدة تؤدي إلى إنتاج الكثرة، كما تفعل الوحدة دائمًا. فكر، على سبيل المثال، في الرقم واحد بوصفه منتجًا لجميع الأرقام اللاحقة (واحد زائد واحد يساوي اثنين وهكذا). مستويات مختلفة من الوجود في التسلسل الهرمي تتالى من هذا المصدر الواحد بوصفه ينبوع الواقع.

وصف أفلوطين هذه الوحدة بأنها «الواحد». الواحد عَلِيّ ومتعالٍ. إنه علة ذاته وعلة جميع الأشياء، المصدر الباطني للواقع. فلا يمكن تقسيمه ولا أن يتمايز بأي شكل من الأشكال. يتجاوز الواحد مقولات الموجودات، كما أنه ليس مجموع الأشياء.

يصف أفلوطين الواحد بوصفه مرادفًا لـ«مثال الخير» في محاورة أفلاطون (الجمهورية). إنه أمر لا يمكن وصفه أو فهمه، ومع ذلك فهو معروف بشكل غير مباشر من خلال تجربتنا في الحياة، وما يشير إليه أفلوطين يتأبى على التسمية؛ إذْ إنّ «الواحد» أقل الكلمات قصورًا في إشارتها إلى هذه الوحدة، ورغم ذلك، فتسميتها يعني إساءة تمثيلها بوصفها شيئًا، إنما هي -في واقع الأمر- تتسامى عن كل الأشياء.

فالواحد جوهري لدرجة أنه لا يمكن حمل أي صفة عليه، والحديث عنه يجعله جزءًا من الأشياء الأخرى، لأن اللغة بطبيعتها علائقية. أن تقول «الواحد خير»، على سبيل المثال، يعني أن تهتك وحدته المطلقة لأنك تتعامل مع الواحد بوصفه ذاتًا وتحمل عليها صفة «الخير».

لكن وجودنا واقع في عالم من التغيير والتمايز. فكيف تُشتَق الكثرة الوجودية من الواحد؟ الجواب، وفق أفلوطين، هو «الفيض emanation» – كل الأشياء تفيض من وحدة الواحد من خلال المرحلتين التاليتين: العقل ثم الروح.

هذا ليس انقسامًا في الوحدة، ولا هو مراحل متتالية من الواقع الذي يظهر للوجود بمرور الوقت. وإنما هو بالأحرى مسألة اشتقاق فوري. فالبشر يعرفون (ولكن ليس بالضرورة يستوعبون) العالم من خلال مستويات الوجود هذه في كل الحالات. فالمستويات الثلاثة للواقع هي مستويات التأمل في حقيقة أزلية واحدة.

استخدم أفلوطين استعارة بسيطة لمقارنة الأقانيم الثلاثة. فإذا كان العقل الإلهي كالشمس، فالروح هي القمر، لأن نوره انعكاس للشمس، أما الواحد فهو النور نفسه، خالصًا وثابتًا، أي مقولة في حد ذاته.

العقل Nous

الاشتقاق الأول، «العقل»، هو المسؤول عن النماذج الأصلية، أو ما أسماه أفلاطون «المُثل» Forms: المُثل الفكرية التامة التي تُشتق منها الأشياء الواقعية.

فبالنسبة لأفلاطون، هذه المثل أزلية وثابتة. إنها تتجاوز المكان والزمان وهي الأساس الحدسي للمعرفة. لذا فإن العقل هو الاشتقاق الأزلي الثابت للكثرة من الواحد. إنه يسبق خبرتنا بالعالم ولكنه يشكل فهمنا له من خلال المُثل.

الطريقة الأكثر استخدامًا لوصف المُثل هي المثلث. فيمكنك رسم مثلث على قطعة من الورق بقلم رصاص وستكون النتيجة مثلثًا فقط بحكم تشابهه التقريبي مع مثال المثلث النموذجي.

سيكون المثلث الموجود على الورقة غير كامل وغير ثابت – لن تكون الخطوط مستقيمة تمامًا، والحبر والورق سيتغيران بمرور الوقت – في حين أن مثال المثلث كامل وثابت. لكن قابلية إدراك مثال «المثلث» هي التي تسمح لنا برسم المثلثات لأنها فكرة «المثلث».

الروح Psyche

الاشتقاق الثالث هو «الروح»، التي تناظر التفكير العقلاني والتجربة البشرية.

الزمن هو نتاج عجز الطبيعة عن التأمل بشكل مناسب في الوحدة الإلهية. فالروح، على العكس من العقل، لا يمكنها التأمل في المُثل لحظيًا، ولكنها بدلاً من ذلك يلزم عليها أن تتأملها كموضوعات منقسمة مُدرَكَة في لحظات متعاقبة.

فالزمن، مثل المكان، بهذا المعنى، هو «تَمَدّد» أو انقسام للوحدة التامة والثابتة للواحد. إن تقدم الزمن، المتجسد في التغيير، هو تحلل لوحدة المُثل، والتي بدورها مشتقة من الواحد. يصف أفلوطين الزمن بأنه «شيء يُرى على الروح، متأصل فيها، ومُتَزَامِن معها، مثل السرمدية بالنسبة للعقل»[1].

ينقسم اشتقاق الروح إلى قسمين. هناك قسم أعلى وقسم أدنى. ينظر القسم الأعلى من الروح داخليًا نحو العقل ويتأمل الحقيقة الثابتة لذلك الاشتقاق الأعلى. أما القسم الأدنى من الروح فينظر خارجيًا نحو العالم المادي، والأجساد، والتغيير.

وهذا الخيار المعروض أعلاه هو ما يستند إليه الجانب الأخلاقي لفلسفة أفلوطين (وأفلاطون): بصفتنا بشرًا عاقلين، يمكننا اختيار النظر داخليًا بحيث نتأمل السرمدي والخير، أو أن يغمرنا وحل العالم المتغير.

خير وشر

إذا كان الواحد هو مصدر كل الواقع، والواحد متطابق مع الخير الأسمى، فإن الشر يمثل مشكلة. كيف يمكن لأي شخص أو أي شيء مشتق من الخير أن يكون سيئًا أو شريرًا؟

الشر ببساطة هو نقيض الخير بالنسبة لأفلوطين. فالمادة هي أبعد حدود الوجود، بينما الواحد هو المركز. إذا حوّلنا رغبتنا بعيدًا عن وحدة الخير في مركز الوجود ونحو المادة الواقعة على الحدود، فإننا نحط من قدر أنفسنا. ليست المادة شرًا بطبيعتها ولا في جوهرها، فالشر يحدث في علاقة الروح بالمادة، بحكم كونها واقعة بين المادة والخير.

الروح تأملية ونشطة بالضرورة، وإغراء السلبية الخالصة للمادة هو حقيقي وضروري مثل الخير الذي تنجذب إليه الأرواح بشكل طبيعي. فيلزم أن يوجد الشر بحكم كونه نقيض الخير.

ومن ثم فكل ما هو مادة هو مجرد صورة لنموذجها الأصلي الحقيقي والسرمدي. الروح بموجب التراتبية الوجودية هي سيدة المادة، لكنها يمكن أن تخضع لتأثير المادة وتصبح أمة لما يجب أن تتسيده.

بعد ذلك، يحذر أفلوطين من أخذ الإلهام الأخلاقي من الآخرين لأن الآخرين هم ببساطة جزء من العالم المادي. فيكتب:

«أن نقلد الرجال الخيرين هو أن ننتج صورة للصورة: ولهذا يلزم علينا تثبيت نظرنا فوق الصورة والوصول لدرجة التماثل مع النموذج الأسمى»[2].

الفضيلة المدنية إذن ليست خيرة بما يكفي؛ فمن أجل الاقتراب من الكمال، يلزم على الطالب أن يتخذ حياة جديدة تمامًا، لكي ينظر داخليًا نحو كمال المُثل.

يشبه الخير الأخلاقي الجمال الأستطيقي إلى حد كبير. يقترب الفنان من الوحدة الطبيعية للمثال النموذجي، جامعًا الأجزاء من حالة التَشَوّش إلى حالة التعاون والتناغم. «الفكرة وحدة، فيلزم على ما تصيغه أن يصل إلى حالة الوحدة بقدر ما هو ممكن للكثرة».

كذلك يجب على طالب الأخلاق أن يسعى جاهدًا نحو المثل العليا وليس مجرد نسخ ما هو نسخة في الأساس. يرى أفلوطين، متبعًا أفلاطون، أن الخلاص كامن في الفلسفة الهادفة إلى مساعدة الطالب على الاتحاد مع الواحد بواسطة التأمل.

تسمى عملية الاتحاد الصوفي تلك «Henosis» وهي تقلب بشكل أساسي سير عملية الوعي ليصبح تجاه حالة من اللا-فكر المطلق، حيث أن كل الفكر يعكس فقط أوهام العالم المادي. من خلال الاتحاد الصوفي، وفقًا لأفلوطين، يمكن للروح:

«التخلص من الرغبات التي تأتي من تواصلها الحميم مع الجسد، والتحرر من كل العواطف، والتطهر من كل ما فرضه عليها التجسد، والانسحاب وحدانيًا، إلي ذاتها مرة أخرى؛ ففي تلك اللحظة يزول القبح الذي أتى من الدخلاء»[3].

إن الروح المتطهرة من خلال هذه العملية تصبح «فكرًا وعقلًا بكاملها، أي خالية تمامًا من الجسد، وعقلانية، تنتمي تمامًا لتلك الفئة الإلهية التي ينشأ عنها ينبوع الجمال».

تصف الرباعيات الأربع لإليوت مجرد لمحة موجزة عن هذه الفكرة في القرب اللحظي من الإلهي:

«لا يسعني إلا أن أقول إننا كنا هناك: لكن لا يمكنني أن أقول أين.

ولا أستطيع أن أقول كم لبثنا، لأن ذلك يضعها في إطار الزمن

التحرر الداخلي من الرغبة العملية،

الانعتاق من الفعل والمعاناة،

الانعتاق من الإكراه الداخلي والخارجي، لكن تحيط بنا

نعمة من الإحساس، ضوء أبيض متوقف ومتحرك»

من خلال هيكلة الواقع الأفلاطوني وفق هذه الطريقة، جمع أفلوطين بشكل أكثر وضوحًا بين الجانبين الصوفي والنظري [الفلسفي]، مما منحه قدرًا كبيرًا من التأثير على المفكرين الإسلاميين والمسيحيين اللاحقين بداية من ابن سينا ​​إلى توما الأكويني.

وفي حين أن أفلوطين كان وثنيًا رومانيًا، إلا أن الطريقة التي عرض بها الأفلاطونية ألهمت المفكرين والفنانين من الأديان الإبراهيمية لفهم كيفية اشتقاق الكثرة من وحدانية الله العليا – والخير – والوسائل التي يمكننا من خلالها الاقتراب من هذه الوحدانية.

كانت الكلمات الأخيرة لهذا الفيلسوف: «اجتهدوا في رد الإلهي بداخلكم إلى الإلهي في الكل».

 

 


[1] التاسوعات (III.7.11). (المترجم).

[2] التاسوعات (I.2.7). (المترجم).

[3] التاسوعات (I.6.5). (المترجم).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق