تمتد العلاقة الواضحة بين الموسيقى واللغة وتتجاوز مسألة
النشأة والأصل التطوريّ البيولوجيّ – بما أن كلتيهما ظاهرتان صوتيتان من حيث
الأصل، وتُدخَل الموسيقى في مقارنة دائمة مع اللغة، بوصفها أداة للتواصل والتعبير.
لا تُفيد المقاربة بين اللغة والموسيقى بوصفهما نظامين للتعبير بأن هذين النظامين
متطابقين، بل إن لكل واحد منهما خصوصية بحكم اختلاف طبيعة العلامة اللغوية عن
العلامة الموسيقية (سوف نتعرض إلى هذه المسألة بالتفصيل في الجزء الثاني والثالث).
برغم ذلك، تظلّ هناك بعض الصلات التي يمكن تتبعها من خلال النظر إلى الموسيقى
بوصفها لغة، وبوصفها نظامًا للعلامات.
الموسيقى، من جهة نظر السيميوطيقا (علم العلامات)1، نسق علامات، بالتالي
فإنها لغة بقدر ما يكون نسق العلامات لغةً. لا توجد العلامة الموسيقية في ذاتها
بحيث تكون مستقلة، لهذا تستلزم مفهوم الخطاب. ليست هذه العلامة مجرد مدونة موسيقية
(النوتة)، أو نصًا2 مطبوعًا عليه
رموز قد لا يمكن للمستمع غير المتخصص فهمها، بل إن ما نعنيه بالعلامة الموسيقية
هنا يتميّز عن العلامة المدونة وينفصل عنها؛ فالعلامة قد تكون مدرَكًا، أو إحساسًا
أو شعورًا، أو انفعالًا أو إيماءة، وأخصّ خصائص العلامة هو أنها شيء يُحيل إلى آخر
غير ذاته وخارج عنها. لهذا فإن العلامة المرسومة / المدونة في النوتة الموسيقية ما
هي إلا إحدى أنحاء وجود العلامة الموسيقية، وأحد مظاهر الخطاب الموسيقيّ، ليست
الخطاب في مجمله3 – هذا من حيث
أنها خطاب موجه أصلًا إلى العازف المؤدي بغية تظهير العمل الموسيقيّ أو تخريجه،
وليس المتلقي الفاهم. حتى إذا سلمنا أن الموسيقى لغة، ونسق يتألف من علامات، فإننا
حتمًا نواجه مسألة الدلالة: فما عسى أن يكون معنى الخطاب الموسيقيّ، وفيم يختلف عن
معنى الخطاب العادي؟ ذلك ما سوف نتناوله من خلال مُعالجة سيميوطيقية (الجزء
الثالث) تختص بنظرية العلامة عند الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرس بيرس، ومحاولة
تناول مسألة الفهم الموسيقيّ في ضوء ذلك الإطار النظريّ الذي يُرسي منطق بيرس
أساساته؛ وهو ينطبق على الكلاسيكية الغربية خلال الفترة المسماة بالممارسة الشائعة
(common practice period).
أولًا: التعبير الموسيقيّ والخطاب
قوام التأليف الموسيقيّ لُغة، مُنتجة لعلامات، هي الخطاب
الموسيقيّ. تعني عملية فَهْم ذلك الخِطاب فَهمه بوصفه مُكونًا من تسلسل أو تعاقب
مُعين لأحداث، حيث يترك هذا التسلسل في كُلِّيته (أو مجموع هذه الأحداث في
تعاقبها) أثرًا معينًا يكون ذا معنى في نفس المستمع؛ ومثلما يُميز اللسانيّ بين
مستويات التحليل الخطابيّ المختلفة، حيث تُمثل الجملة sentence وَحْدة التحليل اللغوي الحاملة
للمعنى، كذلك فإن وَحْدة التحليل الخطابي في الموسيقى هي ما يُدعى بالحَدَث
الموسيقيّ (قد يكون هذا الحَدَث فكرة، أو موضوعًا، أو تيمة، أو جملة لحنية، أو
موتيفة… إلخ). في هذا لا يختلف كثيرًا حال المؤلف الموسيقيّ عن حال المؤلف
الروائيّ، ذلك أن العمل الفني الموسيقيّ والروائيّ – بوصفهما نمطيْن من الخِطَاب –
يكونان نسقًا يتألف من تعاقب أحداث، آخذة في التحقق، والفارق الأساس يكمن في أن
الأحداث الموسيقية تجريدات بطبيعتها. إنهما يُشكلان كُلًا واحدًا، ترتبط أجزاؤه
وتشير بعضها إلى بعض. بجانب أن هذا الكُلَّ المُراد يُمثل في مجموعه حَدَثًا، أو
واقعة سيميوطيقية مُستقلة نشير إليها بالخطاب أو الأثر الفنيّ الموسيقيّ. غير أن
المؤلفَيْنِ – الموسيقار والروائيّ – كلاهما يتوافر لديه بعض الإمكانات على هيئة
لغة فنية سائدة، تُعد بمثابة المفردات والقواعد اللُّغوية للتعبير كما سبق، والتي
ينبغي أن تكون المعيار والأساس فيما يلتزمان به.
اللغة الموسيقية هنا ليست مُجرَّد وصفة أو طريقة لعمل
شيء هو العمل الموسيقيّ (كما يُراد في بعض الأحيان من الأسلوب الذي يُركز في معناه
على الأداء، أو الكيفية، أو المنهج أكثر دون التراكيب)، وإن كانت هذه اللغة تُغفل
بالطبع الجانب المنطقي والإشاري كما نعهده في اللغة الجارية؛ ذلك لأن منطق
الموسيقى ليس مَنطقًا للقضايا، واللغة الموسيقية ليست لغة مرجعية أو لغة إحالة referential بالقصْد المَنْطِقيّ-اللُّغويّ
المُحدَّد. كما أن الخطاب الموسيقيّ خطاب بغير كلمات، بالتالي يختلف بَيانه، ودرجة
فصاحته، وبلاغته، والسَرْد فيه عنها في خطاب اللغة الجارية اختلافًا جوهريًا، بقدر
ما تختلف طبيعة العلامات الموسيقية عن نظائرها اللفظية.
ثانيًا: مَعْنى مَعْنى الموسيقى
“إن تأويل اللغة يعني فَهْمَها، وتأويل الموسيقى يعني
خَلْقَها.”
تيودور أدورنو (أدورنو، ١٩٩٣، ص ٤٠٣)
بناءً على ما ذكرناه من أن الموسيقى لغة، ونظام علامات،
وأن العمل الموسيقيّ في جوهره نوع من تمثُّلات هذه اللغة، أي نوع من الخطاب؛ فما
عسى أن يكون معنى هذا الخطاب – إذا كنا نُسلَّم بأن لكل خطاب معنى؟
يعتقد البعض أن الخطاب الموسيقيّ في ذاته، لا سيّما إذا
كان موسيقى خالصة أو مطلقة absolute music،
خطاب صوري غير حامل (ولا يمكن أن يكون حاملًا) لأي معنى. تبعًا لذلك، ليس ثمة معنى
في القول أن تكون الموسيقى ذات معنى (انظر: الموسيقى بدون تعبير،
معازف). هذا موقفٌ جماليٌّ مشروع (منذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر حتى الآن)
يتخذه كثيرون، أهمهم وأشهرهم الناقد الموسيقيّ إدوارد هانزلِك، الذي يُعرِّف
الموسيقى في عبارة شهيرة بأنها “صورٌ مُنَغَّمة مُتحركة” (هانزلِك، ٢٠١٨، الفصل
الثالث، ص ٤١)، كذلك إيجور سترافِنسكي، وكلود ليفي-شتراوس الذي يصفها بأنها “اللغة
مطروحٌ منها الدلالة” (شتراوس، ١٩٧١، ص ٦٦٢)؛ وهم بذلك يقررون أن الموسيقى لغة،
دون الارتكاز إلى الاعتقاد القديم بأنها لغة العاطفة، ودون الرجوع إلى نظرية
المحاكاة، أو حتى إلى النظرية التعبيرية التقليدية التي تقول أن معنى الموسيقى
تعبيرٌ، أو أنها ببساطة ما تُعبر عنه.
الخطاب الموسيقيّ، وفقا للمنظور الصوري أو الشكلاني،
والذي يمثله هانزلِك خير تمثيل، يكون بغير معنى وكل ما ينقله هو الأحداث أو
الأفكار الموسيقية التي يتألَّف منها دونما أن تُشير أو تُحيل هذه إلى شيء سوى
ذاتها. وفقًا لهذا، فإن أي معنى يتخطى حدود هذه الأفكار، ذات الطابع المُجرَّد،
والعلاقات القائمة بينها هو معنى فوق-موسيقيّ؛ باعتباره معنًى مُضافًا attributed إلى الخطاب من خارجه، دون أن
يلتمس فيه أي أساسٍ أو صلة.
يعني هانزلك، عندما يقرر أن معنى الموسيقى هو حركة الصور
المُنغمة، كما لو أن الموسيقى في جوهرها شبيهة بفن زخرفي كالأرابيسك، أو أن الخطاب
الموسيقيّ – قياسًا إلى حاسة البصر أيضًا – أشبه بمِشكال، على سبيل المثال،
وألوانه المتغيرة وفقًا لنمط أو شكل معين؛ ولأن كان أصحاب النزعة الصورية
(الشكلانية) يولون العناية القصوى للشكل والصورة والنمط على حساب المضمون، معتقدين
بأن الجمال المُباطن للشكل يفسده السعي وراء شبح الدلالة والمحاولة الدؤوبة
لاستنطاق الخطاب الموسيقيّ، ففي هذا تتلاقى تلك النزعة من بعض الجوانب مع نظرية
العلامة.
إن أهم ما يميز النزعة الشكلانية أنها تُعنى بنظام
وسيرورة التدليل أو الإشارة signification
داخل بنية الخطاب الموسيقيّ أكثر من مضمون الدلالة؛ أي بالكيفية التي تكون بها
الموسيقى فنًا للتعبير، لا محاولة وصف ما تُعبر عنه فعلًا، سواء أكان في الواقع أم
في الشعور. إنها تُعنى بسيرورة الدلالة من ناحية الدال signifier وليس المدلول signified (وفقًا لاصطلاح عالم اللغويات
سوسور)؛ إذ إننا نجد في بنية الخطاب الموسيقيّ أن هنالك وحدة للدال في مقابل
التنوع الذي يُعزى إلى المدلول، عُوضًا عما يبدو – في نظر الحس المشترك – تنوعًا
يُعزى إلى الدال في مقابل وَحْدة التصورات أو المدلولات في اللغة العادية (العلامات
اللفظية)، أو حتى في سيميائيات التحليل النفسي (مثلما نجد في تنوّع الأعراض
النفسية في مقابل وحدة علامتها اللاشعورية).
ماهية العلامة الموسيقيّة
إن الصلة بين الدال / المدلول داخل العلامة الموسيقية
ليست اعتباطية تمامًا كما هو الحال في العلامة اللغويّة؛ فمن الواضح أن أي تغير
يطرأ على هذه العلامة، ويصيب التعبير أو الدال، يؤثر تبعًا لذلك على المضمون أو
المدلول ويُغير من طبيعته، ومن ثم العلامة ككل. أيضًا، مع أن للاصطلاح دور هام في
تاريخ الموسيقى يتمثل – جزئيًا – في تكوين الأجهزة والأنساق النغمية العامة
المميزة لأي من الثقافات والحضارات التي ابتكرتها ورسوخ هذه الأنظمة، إلا أنه ثمة
صلة غير اعتباطية تربط الدال الموسيقيّ بمدلوله يجعلها، أي الموسيقى، قادرة على أن
تؤثر على من هم غير منتمين إلى الثقافة أو الحضارة التي أنتجتها؛ الأمر الذي
يكسبها طابعًا عالميًا، وهي مزية تتفرد بها عن اللغة. ذلك الطابع الثنائي للعلامة
الذي يجمع ما بين الاتفاق واللا-اعتباطية هو ما يميّز العلامة الموسيقية عما
دونها. إن تحديد نغمات ما يُسمى بالسُلَّمين الكبير والصغير، على سبيل المثال،
وتعيين العلاقات التي تربطها لهو أمر اصطلاحي في بعض جوانبه، فهو له خصوصية ثقافية
واجتماعية تخص حضارة ما (الحضارة الغربية في هذا السياق) أما تأثيرات تشكيلات هذه
النغمات على المتلقي داخل العبارات والألحان الموضوعة في كلا السُلَّمين وانتظامها
في سياق خطابيّ معين، لتكن حركة داخل سيمفونية أو كونشرتو مثلًا، ليس بالأمر الاصطلاحي
تمامًا (وإن كان يتخلله بعض الاتفاق مثلما سوف نرى). ما نعنيه باختصار – وإن كان
مُخلًّا – بأن المقام الكبير مُفرح، والصغير حزين4.
لو كانت الصلة بين الدال والمدلول داخل العلامة
الموسيقية على ذلك النحو، فإلام يمكن أن ينسب التنوع الذي يعزى إلى المدلول بين
الذوات؟ إن علاقة الدال بالمدلول تتحدد داخل بنية العلامة الموسيقية ذاتها، بغض
النظر عن موضوعها أو ما يمكن أن تُحيل إليه هذه العلامة خارج بنيتها ذاتها. هذه
علاقة ذات وجهيْن كما رأينا لأنها تجمع ما بين الاتفاق والتواضع من جانب
ولا-اعتباطية الدال والمدلول من جانب آخر (أو ما يمكن أن يُسمى بالفعل النَشط أو
التحفيزي5 للدال وهو الجانب
الوظيفي منه). تقف العلامة الموسيقية، بطابعها الازدواجيّ ذاك، في مُقابل العلامة
اللغوية، التي تتميز بالصفة الاعتباطية وحدها6.
التعبير الموسيقيّ بوصفه علامة
تختلف مادة الفن الموسيقيّ (الصوت) عن مادة أي فن من
الفنون في أن مواد الفنون الأخرى غالبًا ما تكون مُعطاة بالفعل، قائمة في الطبيعة،
فمثلًا مادة العمارة أو التصوير توجد سلفًا في الطبيعة، بحيث يتدخل الفنّان ويحوّل
ذلك المعطى كي يصير مادة فنية لموضوعه، أمّا في الموسيقى، وعن طريق الاستعانة
بعناصر اللغة الموسيقية كما سوف نرى، يُوجد الفنان مادته الفنية إيجادًا، ينسحب
ذلك الفعل (الإيجاد) حتى إلى مادة الموضوع نفسه. من الضروريّ أن ينكب الفنان
التشكيلي، مثلًا، على دراسة الهيكل التشريحي للجسم الإنساني، أو دراسة أشكال ونسب
طبيعية ورياضية إذا أراد لفنه التعبير عن موضوع معين. الأمر على العكس من ذلك في
الموسيقى (وهذه مناسبة أخرى لاعتبارها الفن الأقرب والأكثر تعبيرًا عن الذاتية)
ذلك أن المؤلف الموسيقيّ ليس في حاجة إلى دراسة أي موضوع خارجيّ من موضوعات
الطبيعة، يسري هذا حتى إذا كانت الطبيعة موضوع فنه، أو إذا أراد الموسيقار التعبير
عن إحدى الحالات التي تنتابنا إزاءها في لغة موسيقية مُجردة. فيما خلا الصوت
البشريّ – الذي هو مُعطًى من الطبيعة – فإن المؤلف الموسيقيّ، من خلال تطويعه
عناصر الموسيقى، يقوم بخلق مادته الفنية ذاتها قبل العمل عليها وتحويرها كي تلائم
مقاصده وموضوعه. غاية القول أن الصوت في ذاته، من حيث طبيعته كصوت، يختلف عن
العلامة الموسيقية الفنيّة في أن الأوّل يخلو من أي تعبير فنيّ، وبالتالي من
الشعور والانفعال المصاحبيْن للخبرة الجمالية، وهو فارق أساسي بين علامة موسيقية وأخرى
صوتية. يخضع الصوت كمادة إلى معالجة فنية تدخل فيها عناصر اللغة الموسيقية
الأساسية (الإيقاع والهارموني واللحن) وبدخول هذه العناصر يتحول مجرد الصوت إلى
تعبير فنيّ، فيغدو علامةً موسيقيةً:
١. الإيقاع
يُمثل الإيقاع والوزن العنصر الزمني في الموسيقى. هو
عبارة عن اطراد أو انتظام آنات متعاقبة مجردة من أي مضمون. يمكن القول أن عنصر
الإيقاع هو الموسيقى وهي تحكي / تقول زمنًا، حيث تدرك كل آن منها وتختفي، ونتوقع
انتظام الآنات الأخريات في تعاقب رتيب. في الموسيقى متعددة الإيقاعات polyrhythm يجري التركيز على عنصر الإيقاع
والتلاعب به من أجل اكتشاف إمكانات إيقاعية جديدة، ذلك باستعمال إيقاعات حديثة
معقدة، ما يجعل المتلقي يختبْر متعة إضافية تختص بذلك البُعد الزمنيّ.
٢. الهارموني
أبسط تعريف للهارموني هو انسجام أو تآلف ثلاثة نغمات
موسيقية أو أكثر، تُعزف معًا تزامنًا في وقت واحد. الهارموني بوصفه علمًا هو دراسة
بناء هذه التآلفات وعلاقة أحدها بالآخر؛ وعلى الرغم من أن عدد التآلفات الأساسية
محدود، إلا أنها تقبل إمكانية التنويع. في حين أن الإيقاع هو العنصر الزمني في
الموسيقى، يمكن القول إن الهارموني هو العنصر اللا-زمني فيها.
الهارموني كمصدر الفعل في النحو (فعل بلا زمن). إن الهارموني بذاته عنصر أكثر
استقلالية من الإيقاع واللحن، هو صورة مجردة للمشاعر، حيث تُحيل التآلفات إلى
العواطف بشكل مجرد. باتحاده مع الإيقاع في اللحن، يستطيع الهارموني التعبير عن
مشاعر أكثر تعينًا، أي أنه يغدو تعبيرًا فنيًا محددًا بارتباطه بالعناصر الأساسية الأخرى
في وحدة العلامة الموسيقية.
٣. اللحن
هو اللحظة النموذجية لتجلي العلامة الموسيقية، حيث يتآلف
عندها العنصر الزمني (الإيقاع) مع المشاعر اللازمنية (الهارموني) في مُركب أو هيكل
صيروريّ (بنية اللحن). في الأعمال الكلاسيكية الغربية يكون اللحن عادةً منزوع القفلة،
أي تيمةً theme،
بهذا يكون منفتحًا على إمكانية الإنماء والتطوير، بالتالي الامتداد والانتشار خارج
بنيته المُقفلة، ومن ثم الاندماج، والتصارع، والتلاطم مع بنيات أخرى تتألف من
وحدات مختلفة نوعًا وعددًا، تنسجم هذه كلها وتتآزر في وحدة الخطاب الموسيقيّ.
سبق أن رأينا في الإيقاع أن كل آن من الآنات الموسيقية
تتلاشى، أي أننا في الواقع ندرك الآن الموسيقيّ وهو متلاش (هنا يكمن أحد منابع
التجريد المميز للصوت، مادة الفن الموسيقيّ)؛ لكن العلامة الموسيقية، على خلاف
هذا، لها شكل من الحياة في الذاكرة، فهي تمتاز بالحضور وبضرب من الديمومة، بما
أنها تفرض نظامًا أو بنية للتعبير والتواصل، أو بالأدق تكون هي ذاتها بنية، تتركب،
وتترتب، وتنتظم في داخل بنية كبرى. يشكّل هذا النوع من التركيب (بنى تدخل في
بنية)، بالإضافة إلى كونها كيانًا ذهنيًا صيروريًا، أساس الموسيقى كظاهرة سيميوطيقية.
لهذا فإن اللحن علامة موسيقية بمعنى أن له بنية، كما أنه يُشير إلى شيء خارجه، غير
ذاته (أو يستثيره ويضطره إلى الحضور). الإحالة سمة أساسية من سمات اللحن كما أنها
سمة أساسية للعلامة بحكم طبيعتها، وإلا انتفى التأثير وانعدم المعنى، ذلك أن
الانفعال الوجداني أو الشعوريّ الذي يحدثه اللحن ليس من طبيعة اللحن بما هو كذلك،
أي بما هو علامة موسيقية تُدرك بالحساسية.
ثالثًا: فَهْم الفَهْم الموسيقيّ |
العَوْدة إلى بيرس
نظرية المقولات
تجدر الإشارة إلى أنه ما يعنينا هنا من هذه المقولات هو
الوقوف على معنى كل مقولة منها بشكل عام، نظرًا لأهميتها في محاولة تتبع وفهم
السيرورات الدلالية والتأويلية التي تنبع من الخطاب الموسيقيّ، وهي ما سوف نستثمره
نظريًا في الجزء القادم والأخير من هذا المقال.
إن دراسة السيميوطيقا عند بيرس تُعادل دراسة المنطق7، ذلك أن بيرس يرى أن
نظرية العلامة تنتمي بالضرورة إلى نظرية المنطق، بل إن المنطق عنده “مجرد اسم آخر
لعلم العلامات” أو هو “المبدأ الصوري أو شبه الضروري الخاص بالعلامات” (٢٫٢٢٧)8. في موضع آخر المنطق
هو “علم القوانين الضرورية العامة للعلامات” (٢٫٢٩ & ١٫١٩١). يؤسس بيرس نظريته
في العلامة والمنطق ومجمل فلسفته على أساس نظريته في المقولات الظاهرياتية أو
الأنطولوجية (الوجودية) الثلاثة الأساسية: الرتبة الأولى، والرتبة الثانية،
والرتبة الثالثة.
تُشير مقولة الرتبة الأولى9 (الأولانية) firstness إلى حالة الإمكان المحض، حيث يكون
الوجود على هيئة إحساسات وكيفيات مجردة، توجد في ذاتها على هيئة الإمكان، بمعزل عن
الزمان والمكان، دون أي تمايز أو تحديد. مثال ذلك فكرة الصوت، أو البياض، أو
الحزن، فهي تُحيل كلها إلى مدركات حسية أو حالات شعورية محتملة، دون افتراض ذات أو
موضوع. يُسميها بيرس: “حالة ذرية (مونادة) خالصة من الشعور” (١٫٣٠٣). لكي نفهم
معنى الرتبة الأولى يدعونا بيرس إلى أن نتخيل الوجود وهو يظهر لأول مرة أمام
الإنسان الأوّل “آدم” قبل أي تمييزات. تشير أفكار الرتبة الأولى عمومًا إلى
الاستعداد أو القابلية للإدراك والحساسية. إن المعرفة والخبرة يستلزمان مجالًا
واسعًا من الإمكانات كشرط ضروري مسبق. لهذا فإن أفكار الرتبة الأولى هي أفكار
الإمكان والكيف الصرف الذي يخلو من أي تعيين.
أمّا مقولة الرتبة الثانية (الثانيانية) secondness فتشير إلى الواقعة، التحقق
الفعليّ للإحساسات والكيفيات الممكنة، وتجسدها في وقائع معينة في الزمان والمكان.
هي علاقة بين الأوّل والثاني بدون الثالث، أي بدون فعل التوسط، لهذا فإنها علاقة
عارضة وهشة غير واضحة بالنسبة للفكر. إنها مقولة الوجود الفعليّ لأن “الوجود
الفعلي هو حالة الوجود الذي يوجد في مقابل وجود آخر” (٤٫٤٥٧). تتحقق أفكار المقولة
الثانية في هذا السياق على هيئة الخبرة والانفعال، مثال ذلك الشعور الفعلي بالأسى
أو الفرح، في الهنا والآن، المصاحب لاستماع لحن أو قطعة موسيقية معينة.
أمّا المقولة الثالثة (الثالثانية) thirdness فهي مقولة التوسط، تربط هذه
المقولة بين المقولتين الأخرتين ربطًا مبررًا من الناحية الفكرية، إذ إنه لا معنى
لرابط بين أول وثان بدون تصور ثالث. إنها القاعدة أو القانون الذي نُحيل بمقتضاه
بين أفكار المقولتين السابقتين، ونتعرف على الوقائع وفقًا لقوانينها العامة، وندرك
أن العلاقة بين الأول والثاني ليست عرضية كما كان الحال بدون الثالث. هنا تنشأ
المفاهيم بوصفها تجريدات للمعطى من بُعده المحسوس، حيث الكيفيات الممكنة
(الأولانية) تتجسد في عالم الوقائع (الثانيانية) ذلك عبر قانون أو قاعدة تُقيم تلك
الرابطة وتبررها فكريًا (الثالثانية). بالتالي تكون صورة العلاقة القائمة بين
المقولات (وصورة إدراك الظواهر بصفة عامة) وفقًا لبيرس: أوّل يُحيل إلى ثاني عبر
ثالث. فيما يخص الفهم الموسيقيّ، ينتمي الإدراك الحدسي البنيوي أو الهيكلي للأعمال
الموسيقية، وكذا مقارنتها بعضها ببعض إلى هذه الرتبة الثالثة من الأفكار. إنها
المبدأ المُنظم للفهم الموسيقيّ، بدونها كان الاستماع خاليًا من القانون، أي من
الفكر. يستلزم القانون أو القاعدة أن تنطبق على مجموعة غير محددة من الوقائع، لهذا
فإن أفكار الرتبة الثالثة من المقولات تسري على إدراك وفهم عدد غير محدود من
الخطابات الموسيقية؛ بالتالي فإنها تلعب دورًا خطيرًا في شحذ الفَهْم الموسيقيّ.
إيجازًا، يمكن القول إن تلقّي وفهم العلامة الموسيقية
بصورة عامة إنما يوجد على ثلاثة أنحاء: أولًا بوصفها احتمالية أو إمكان قابل
للحساسية، وثانيًا في صورة الخبرة والانفعال، وثالثًا في فعل الاستماع اليقظ حيث
المبدأ والقانون المُنظِّم للاستماع.
نظرية العلامات
في نظرية العلامة، يُميز بيرس داخل بنية العلامة ثلاثة عناصر أساسية توازي المقولات الإدراكية الثلاثة التي عرضناها في نظرية المقولات (وليس عنصرين كما عند سوسور10). يتصور بيرس العلامة، وهي تُحيل إلى موضوعها11 أنها تُثير “في ذهن شخص ما، علامة ثالثة موازية أو أكثر تطورًا” (٢٫٢٢٨)، ألا وهي المؤول (العلامة المؤولة) interpretant، الذي يصلح في حد ذاته للاشتغال كعلامة، أي نقطة ابتداء لسيرورة دلالية أخرى أو مثلث سيميوطيقي جديد. لهذا فإن علاقة الدال بالمدلول / التعبير بالمضمون تتم في نطاق الإحالة الأولى، بتوسطٍ من المؤول على هيئة “أوّل يُحيل إلى ثاني عبر ثالث”12. يعتقد بيرس أن “معنى العلامة لا يمكن أن يكون سوى علامة” (٤٫١٣٢)، عندما يُصبح مؤول العلامة الأولى (المؤول المباشر) علامة جديدة تُسقط خارجها موضوعًا تُحيل إليه عبر مؤول جديد في سيرورة أخرى (ما سنشير إليه بسيرورة التأويل)13. لذا إن العلاقة بين العلامة (الدال) التي تُمثل لحظة انطلاق السيرورة الدلالية، ما يُسمى السميوزِس semiosis14 ككل، وبين الموضوع الذي يؤوِله المؤول الثاني (المؤول الحركيّ، انظر الشكل رقم ٢ “سُلم المؤولات”) علاقة يتوسطها عدد من الإحالات، فهي بالطبع ليست مباشرة. في اللغة، يتجلى ذلك في الأسطورة والاستعارة، ويتضح أكثر في الجانب الموسيقيّ منها، في الشِعر الذي هو موسيقى اللغة.
يُبنى المؤول الحركي على أساس المؤول المباشر الذي يقدم
معطيات دلالية أولية، وبهذا تكون وظيفة المؤول الحركي هي إدخال الدلالة ضمن سيرورة
لامتناهية، من الناحية النظرية، وعبر هذا المؤول ننتقل من مستوى دلالي إلى مستوى
آخر، من السيرورة السيميوطيقية إلى التأويل بمعناه الواسع.
متاهة التأويل
تحتاج أهلية المؤول أن يصير علامة تُسقط خارجها موضوعًا
إلى علامة مؤولة أخرى، تضعنا نظريًا ضمن متاهة التأويل اللامتناهي، وتفقد العلامة،
ومن ثم الخطاب، أي نقاط ارتكاز أو إرساء دلالي؛ ما يجعل بيرس أقرب إلى التفكيكيين،
لكن الأمر ليس على هذا النحو. لكي نتجنب الوقوع في متاهة التأويل تلك، وما يترتب
عليها من احتجاب وغموض دلاليّ، واستحالة الإحالة، لا بدّ من إيقاف سيرورة الإحالات
من أن تستمر إلى غير نهاية. يهيئ لنا بيرس مخرجًا يتمثل في فكرته عن المؤول
النهائي15، هو عبارة عن
العلامة المؤولة التي تضع حدًا للسِميوزِس وبالتالي يكبح حركية الإحالة. بتوقف
سيرورة الإحالات، يستقر ذلك المؤول بوصفه عادةً habit، ومن ثم قانونًا أو قاعدة معطاة
في ذهن الشخص المؤول (بعد أن كان ناتجًا) تحدث في المستقبل خبرات التلقي والفهم من
خلالها.
هذا ويقابل سُلَّم المؤولات، وكذا تصور العلامة المؤولة
عمومًا بأنواعها المختلفة (مباشر-حركي-نهائي) المقولة الثالثة في نظرية المقولات،
ولهذا يُطلق عليها بيرس “مقولة المصير”، بما أنها تحكم وقائع المستقبل بأن تصير
عادة. تجدر الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن المؤول النهائي يكون هكذا من
الوجهة المنطقية، ليس من ناحية التسلسل الزمني chronological، وإلا كانت خبرات الحياة تناقض
ذلك تمامًا، لأنها تكشف عن خصوبة وفرادة وتجدد ليس له حدود. تمتلئ خبراتنا اليومية
بطفرات تطرأ على عاداتنا وتُغيّرها ولو بقدر بسيط من التغيّر. إذًا، ما نعتبره
مؤولًا نهائيًا هو ما يكبح سيرورة التأويل والإحالة (منطقيًا)، إنه اللحظة
المنطقية التي يتوقف عندها نسق الإحالات أو السميوزس بتدخل من الذات المؤولة في
نطاق خبرة التلقي؛ ولهذا هو الضامن للخروج من ورطة “التأويل المفرط” على حد تعبير أمبرتو
إيكو.
الانتقاء السياقي
إذًا الفارق بين المؤول النهائي والحركي هو في الواقع
فارق بين خطاب واصف وخطاب موصوف16. كما أن المؤول
الحركي لا يُعين مستوًى دلاليًا واحدًا، كما هو الحال مع المؤول المباشر أو
النهائي، بل إنه يُحيل إلى مسارات تأويلية متعددة. أيضًا، إحالات المؤول الحركي
جزئية بطبيعتها، نظرًا لارتباطها بعنصر السياق – الانتقاء السياقي على حد تعبير
إيكو، وهو يكشف عن أحد جوانب العلامة لا عن العلامة في كليتها؛ أو كل ما يمكن أن
تنتجه هذه من دلالة، مُدخلًا الفهم متاهة التأويل بذلك؛ بأن يضع العلامة الموسيقية
ضمن سيرورة من التأويل لامتناهية نظريًا. كذلك يؤكد المؤول الحركيّ، من خلال
انتقاء وتعيين مسلك تأويلي معين، على أنه لا وجود لقراءة شاملة تستوعب مجمل
المعطيات الدلالية التي يحيل إليها المؤول المباشر؛ في حين أن ما يفعله المؤول
المباشر- بوصفه مُنطلقًا دلاليًا – هو إعطاء الدلالة نقطة انطلاق، وإدخال العلامة
الموسيقية ضمن السميوزس.
بناءً على ما سبق، ففي سيرورة التأويل الموسيقيّ الثانية، عندما تُحيل العلامة الثانية إلى موضوع (مرجع) ثاني عبر توسط المؤول الحركي، هنا حيث تتبدى السياقات الثقافية، والأيديولوجية، والتحيّزات، وكل ما يرتبط بمعرفة المؤول المسبقة، بخلاف السيرورة الأولى؛ عندها يتم ترجمة الخبرة، مُحصلة الإحالة الأولى، إلى معنًى أكثر تعينًا وأقل مباشرة، وكل معنى خارج موسيقيّ extra-musical قابل للتأويل، بل كل معنى ممكن أن يعزوه الذهن إلى العلامة تجري الإحالة إليه في هذا المستوى من السيرورة.
تأخذ هذه العملية التأويلية منحًى أكثر تعينًا وتحددًا
في حال الأوبرا والأغنية، وأي موسيقى مصحوبة بالكلمات عمومًا، ذلك أن في الأغنية
على حد تعبير كريم الصياد،
“حَطًّا للطاقة التأويلية المميِّزَة للموسيقى”؛ فالمؤول الحركي يُقلص من
الإمكانات التأويلية التي أطلقها المؤول المباشر من عقالها، وهو يشير لحظة تحققه
إلى وجود تحققات أخرى ممكنة. كما في موسيقى الآلات ذات البرنامج بالأخص، وهي التي
تدور حول موضوع أو مضمون معين بحيث تستدعي عناصرًا كالسياق، والسرد، والمحاكاة،
والتشبيه، والإيحاء، وفيها يَضيق مجال الإحالة إلى الموضوع أو المرجع إليه الممكن،
وبالتالي الحدّ من اعتباطية التأويل في السيرورة التأويلية (برغم أنه ما زال أكثر
اتساعًا عن أي نطاق لغوي). في الأعمال الموسيقية ذات البرنامج والمستوحاة من أعمال
أدبية مثلًا سينتهي المؤول، في أغلب الأحوال، إلى الإحالة إلى العمل الأدبي
الخارج-موسيقيّ وسياقاته، في حال درايته وإلمامه بهذه السياقات معرفيًا، وقد يؤول
على عكس هذا إلى سياقات وخبرات شخصية خاصة بالمؤول ذاته، مثل أن يُشير الخطاب إلى
الذات المستمعة باعتبارها المرجع إليه.
على سبيل المثال، عندما استمع أحد ضباط نابليون إلى
الحركة الختامية من خامسة بيتهوفن، هذا فيما يروي الكاتب حسين فوزي،
فإنه صاح من فرط حماسه: “هذا والله هو الإمبراطور!”. إن سلوك هذا الضابط الفرنسيّ
وما فهمه من الحركة الأخيرة من السيمفونية الخامسة يدخل ضمن ما نعنيه بفعل
الانتقاء السياقيّ، ذلك أن لا شيء في موسيقى بيتهوفن يُحيل بصفة خاصة إلى
الإمبراطور، ولكن يمكن أن يكون الأمر كذلك ضمن سياق معين وفي سيرورة من الإحالة
لاحقة (بفعل المؤول الحركي، وليس المباشر). أمّا إذا استقر هذا التأويل فصار عادةً
(مؤولًا نهائيًا) فإن هذا الضابط سيُحيل إلى شخص نابليون في كل مرة يستمع بها إلى
ختام السيمفونية الخامسة، أو السياق الذي نمى فيه ذلك المؤول النهائي (العادة).
يسري الأمر كذلك بصفة واضحة مع السيمفونية البطولية إيرويكا،
التي اقترنت في أذهان الكثيرين بشخص نابليون بونابرت ذاته (وهو الذي شطب بيتهوفن
اسمه من المدونة تحديدًا لسبب أنه نصّب نفسه إمبراطورًا)، في حين أنها تُحيل إلى
نابليون بطريقة أقل مباشرة مما تُحيل إلى معنى البطولة بصفة عامة، وغيرها من
المعاني. (انظر: بيتهوفن يقدم موسيقى خالصة | عن
الحركة الأولى من إيرويكا).
إيجازًا، يعني هذا أنه في الخطاب الموسيقيّ ثمة هوة تفصل
طبقات الدلالة بعضها عن بعض، يجتازها المؤول بأهليته أن يصير بدوره علامة. تلك
الهوة ليست مثلبًا في سيرورة التدليل والإحالة لدى بيرس، بل بالأحرى تكشف عن ثراء
وخصوبة وتعددية. على أن المؤول النهائي لا يتدخل لوقف سيرورة التأويل وبهذا يخرجنا
من المتاهة التأويلية بإجراء تعسفيّ، بل إنه يقوم بذلك بناءً على حاصل كل الإحالات
المسبقة من جانب (ذلك أن المؤوليْن، المباشر والحركي، كلاهما علامة بالنسبة للمؤول
النهائي) واستنادًا إلى سياقات أخرى من خارج الخطاب من جانب آخر. لذا بدلًا من أن
تخلو العلامة الموسيقية من المعنى باعتبارها تُشير (خارجها) إلى أي شيء ممكن، أو
إلى لا شيء، تُصبح مُشيرةً إلى أفق مُعين من الدلالة، وتصبح الذاكرة المؤولة لكل
إحالة مُسبقة أساسًا لكل وَجهة تأويلية جديدة ممكنة للعلامة أو الخطاب.
يكتسب الخطاب أفق شبه-معين من المعنى أكثر عندما يُنمّي
الأنا المؤول عادات (مؤوِلات نهائية) خاصة للاستماع تجعله يؤول الخطاب في كل مرة
تأويلاتٍ متقاربة؛ والعادة أساس التواضع والاتفاق، وهي تكون إمّا شخصية، كما في
الحالة التي ذكرناها، أو بين ذاتية. لغة قائد الأوركسترا الجسدية مثلًا، وهي أحد
صنوف العلامات التي تُحقق ضربًا من التواصل بينه وفرقة العزف، بعضها اتفاقي
تمامًا، وبعضها قد يكون آثارًا لانفعالات المايسترو، حيث تصاحب كل انفعال إيماءة
جسدية تحدث أثناء خبرة التلقي يمكن اعتبارها العلامة الموسيقية مُجسدة. كذلك من
المواضعات بين-الذاتية الاتفاق حول مضامين تصبح لصيقة بالخطاب الموسيقيّ، أو في
بعض الأحيان تَصِمْه، رغم أنها لا تتصل به على نحوٍ مباشر كما بينّا، وقد تساهم
بوصفها معرفة مسبقة في تخليق صورة العلامة ومن ثم إنتاج الدلالة بطريقة معينة، مما
يؤثر بلا شك في سيرورة التدليل في كل مراحلها، أو في أسوأ الظروف، ربما تتصل هذه
المواضعات بالخطاب على نحوٍ فيه إفساد للخبرة الجمالية ذاتها أو يفقدها الشيء
الكثير؛ كالقول بأن الضربات الأربعة في خامسة بيتهوفن تُحيل إلى مضمون فكرة القَدَر
(وهو ما أذاعه أنطون شندلر، تلميذ بيتهوفن وكاتب سيرة حياته) أو ربط الأعمال
بسياقات غير موسيقية سواءٌ كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية، مثال ذلك
اعتماد نشيد الفرح من الحركة الرابعة في تاسعة
بيتهوفن نشيدًا رسميًا للاتحاد الأوروبي.
هذا ويتجلى الطابع الاصطلاحي للعلامة الموسيقية أيضًا في
التأليف كما في التلقي والأداء، وبالأخص في الموضوعات المتداولة التي يمكن أن
يتناولها المؤلف الموسيقيّ كمادة لحنية وموتيفات. على سبيل المثال، كان
استعمال موتيف البيانتو pianto motif شائعًا في أعمال موسيقى القرن السادس عشر للتعبير عن حالة الأسى والحزن grief (موضوعه المباشر)، ثم صار في
القرن الثامن عشر يُعبر هذا الموتيف عن صوت التنهد الحزين sigh17. كما أن موضوعات اللغة الموسيقية تتنوع بحسب اختلاف سياقات غير موسيقية، يظهر
هذا مثلًا في الموسيقى الدينية، وذات البرنامج الأدبي، وموسيقى المناسبات، وفي
تأثير موضوعات ذات بُعد ثقافي واجتماعي أو سياسي (مثل الموضوعات التي
أثارتها حركة العاصفة والاندفاع sturm und drang إبان القرن الثامن عشر وكانت
ممهدة لحركة الرومانتيكية، وسرعان ما تخللت الحياة الفنية كافة)، أو كما في تأثير
الفنون الأخرى على فن الموسيقى بوجه عام. من الموضوعات الموسيقية كذلك، والتي يمكن
أن يستثمرها المؤلف في أعماله، التعبير عن حالة شعورية تضارع حالة الوقوف أمام
مشهد طبيعيّ، يحدث هذا باستعمال موتيفة باستورالية، ضمن سياق معين، للإيحاء بمظاهر
ريفية أو مشاهد ربيعية، هذا ما فعله بيتهوفن صراحةً في سيمفونيته
السادسة، الباستورال، أو التعبير عن حالة شعورية مُركبَّة (مثل غابة
مُظلمة يملؤها الضباب، كما في حركة الأندانتي من السيمفونية
السادسة لجوستاف مالر). لكن عمومًا يمكن القول أن الموسيقى عندما
ترنو – في مثل هذه الحالات، وغيرها – إلى محاكاة الطبيعة، فإنها تتعالى عليها حتى
وهي تُمثل شعورنا إزاءها.
خاتمة
إن ميزة هذه العودة إلى بيرس أنها توفق بين نوعين من
النظريات حول المعنى الموسيقيّ يبدوان وكأنهما متناقضين؛ هما النزعة الشكلانية
والنظريات السياقية. أكّد الشكلانيون على استقلالية الخطاب الموسيقيّ وأن معنى الخطاب،
إذا كنا نبحث في الموسيقى عن معنى بالمعنى اللغوي، يتخطى حدود
صياغته وبالتالي ليس له معنى (انظر الفقرة الثالثة أعلاه)، وهي لهذا السبب تنجح في
تفسير لماذا يتلقى أحد المنتمين لثقافة ما الأعمال الموسيقية لثقافة وحضارة
مختلفة، إذ إن معنى الخطاب باطنيٌ intra-musical.
لعلّ ذلك كان سببًا وراء اعتقاد شوبنهاور أن الموسيقى تعبيرٌ عن الأشياء في
ذواتها، وأنها صورة مباشرة للإرادة، لما تتميز به عن سائر الفنون من ناحية أن
تأثيرها أكثر نفاذًا منها. يميل السياقيون أيضًا نحو استنطاق كل جوانب الخطاب
الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية، بناءً على افتراض ضمني بأن الموسيقى لا تنفصم
عن وحدة الثقافة التي أنتجتها. كما أن نموذج بيرس للعلامة كما رأينا يستوعب
النموذج السوسوري من ناحية، ولا يغفل الموضوع أو المرجع إليه باعتباره مسألة غير
لغوية من ناحية أخرى؛ لهذا هو أكثر ثراءً وخصوبة وأكفأ في تحليل العلامات غير
اللفظية من نموذج سوسور. كما يمكن ترجمة نموذج بيرس الثلاثي18، بقليل من التحوير،
وجعله يتحدث بمفاهيم سوسورية ثنائية.
المصادر والمراجع:
١. إسماعيل، صلاح: فلسفة
اللغة، الدار المصرية اللبنانية، مصر، ط١، ٢٠١٧.
٢. بنكراد، سعيد: السيميائيات
والتأويل، المركز الثقافي العربي.
٣. صادق، آمال: لغة الموسيقى (دراسة في علم النفس
اللغوي وتطبيقاته في مجال الموسيقى)، القاهرة، مركز التنمية البشرية
والمعلومات، ١٩٨٨.
٤. ديفي، سيدريك ثورب: التحليل
الموسيقيّ، ترجمة: د. سمحة الخولي ومراجعة د. حسين فوزي، المجلس الأعلى
للثقافة، القاهرة، ط٢، ٢٠٠٠.
٥. ريان، آيات: فلسفة الموسيقى وعلاقتها بالفنون
الجميلة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط١، ٢٠١٠.
٦. زكريا، فؤاد: التعبير الموسيقيّ، مكتبة
مصر، ١٩٧١.
٧. الصياد، كريم: زمن الموسيقى
ومكانها، معازف، ٢٠١٧.
٨. الصياد، كريم: التأويل الموسيقيّ
للعالم، معازف، ٢٠١٧.
٩. صادق، آمال: الموسيقى بين علم النفس وعلم اللغة،
في عالم الفكر، المجلد التاسع – العدد الرابع يناير-فبراير -مارس، ١٩٧٩.
١٠. Adorno, Theodore W., Music, Language and Composition. The Musical Quarterly, Vol. 77, No. 3 (Autumn, 1993), Oxford University
Press.
١١. Adorno, Theodor W., Aesthetic Theory. University of Minnesota Press, 1997.
١٢. Ayer, A. J. The Origins of Pragmatism: studies in the philosophy of Charles Sander
Peirce and William James. London: Macmillan (1998).
١٣. Bernstein, Leonard, The Unanswered Question: Six Talks at Harvard,
Harvard University press. 1976.
١٤. Eco, Umberto, A Theory of Semiotics, Indiana University Press, 1975.
١٥. Fitch, W., Tecumseh, The Evolution of Language, Cambridge University Press, 2010.
١٦. Hanslick, Eduard, et al. Eduard Hanslick’s On the Musically Beautiful: a New Translation. Oxford University Press, 2018.
١٧. Peirce, C. S., The Collected Papers of Charles Sanders Peirce.
Vols. I-VI ed. Charles Hartshorne and Paul Weiss (Cambridge, MA: Harvard
University Press, 1931-1935), Vols. VII-VIII ed. Arthur W. Burks (same
publisher, 1958).
١٨. Strauss, Claude Levi, Mythologiques IV: L’homme nu, Plon, Paris, 1971.
١٩. Ogden, C. K., Richards, I., A. The Meaning of Meaning. Harvest Book / Harcourt, Brace & World, New York, 1946.
٢٠. Atkin, Albert, “Peirce’s Theory of
Signs”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy
(Summer 2013 Edition),
Edward N. Zalta (ed.).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق