أمام سلطة الجاهز...ما هو رهان الفلسفة اليوم؟ - عهود الناصري - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 1 يناير 2021

أمام سلطة الجاهز...ما هو رهان الفلسفة اليوم؟ - عهود الناصري

  كان الفكر الفلسفي منذ نشأته في مواجهة الجاهز من الأفكار والسلوكيات، فقد واجهت الفلسفة في نشأتها التفكير الأسطوري، ليس باعتباره تفكيرا مفارقا للواقع ولا يقدم تفسيرات عقلانية فقط، بل لأنه يقدم تأويلات ميثولوجية يحميها رداؤها المقدس من أي تأويل آخر مختلف عنها، فالأسطورة شكلت بالنسبة للإنسان أولى بدايات التدين، والذي يلجأ إليه أي شخص يطمع في تحقيق الاطمئنان الروحي والذي يشتغل وفق منطق القداسة كحقيقة وجب الإيمان بها، إلى أن جاء سقراط هذا المنقذ من ظلال الميثوس mythos، متسلحا بالعقل، مناديا العامة إلى التساؤل والحوار والشك والنقاش، سالكين في ذلك طريق أنفسهم، حيث كان يكرر دائما "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك" وقد ظل هذا المنهج الصارم الأداة المثلى لكل مشتغل بالفلسفة حتى في ظل سيطرة الفكر الديني في الثقافة المسيحية والاسلامية في العصر الوسيط، كفكر يؤمن بالمطلق في مقابل ما هو نسلي، بل توطد هذا المنهج في القرن السابع عشر ميلادي مع ديكارت Descartes  فيلسوف الشك، والذي أثر في مختلف المفكرين المعاصرين ، هذه الآليات الدقيقة التي قدمتها الفلسفة لكل باحث عن الحقيقة والمعرفة صارت اليوم أكثر مواجهة من ذي قبل، ليست لأنها في مواجهة المطلق أو المقدس بل في مواجهة الجاهز، الذي أصبح ذا سلطة قاهرة بفعل التقنية، علما بأنها سلطة مرغوبة يستكين إليها الكل، فإذا كانت هذه الآليات الفلسفية مبادئ أولى ضرورية لتحقيق اليقين، فهل يمكننا الحديث اليوم عن فعل فلسفي؟ وهل استطاعت الفلسفة أن تغذي جذورها القديمة رغم سيطرة التقنية؟ وما هو رهان الفلسفة أمام سلطة الجاهز؟

التقنية هي السبب الأول لسلطة الجاهز

 زمن اليوم هو زمن الوصفات الجاهزة والطرق المرسومة، والتي إذا ما اتبعتها ستوصلك للهدف المنشود، يكفي أت تلقي نظرة على المواقع الإلكترونية التي تعج بهذه المواضيع، كيف تصبح سعيدا؟ كيف تتقن لغة لا تعرفها؟ كيف تكسب قلوب الآخرين بفعل واحد؟ كيف تقوي ذاكرتك؟ كيف تطور مهاراتك الحياتية؟ كيف تتحدث وكأنك قرأت الكثير من الكتب؟ كيف تصل لوجهتك دون مجهود؟ ...والعديد من قبيل هذه الأسئلة التي تحدد لك الطرق الفعّالة كما تدعي، بالرغم من أن سؤال "كيف" هو سؤال "المنهج"، والذي يعد من أكبر الإشكالات التي شغلت الفكر الفلسفي، أي البحث عن المنهج الصارم والرصين للمعرفة.

لقد كانت الفلسفة دائما بالمرصاد لكل تفكير يمارس سلطة على العقل الحر، التفكير الأسطوري الذي سيطر على العقل اليوناني آنذاك والتفكير الديني الذي مارس رقابة صارمة على العقل الإنساني، وحتى في ظل سيطرة العلوم ومحاولته لتطويق الإنسان معرفيا في مختلف أبعاده، استطاع العقل الفلسفي أن يتقدم كل العلوم ويسائلها عن المبادئ، ويمحص المناهج العلمية، ويفتحص النتائج التي قد تنتج أزمات في سيرورتها، لذلك يصبح من الضروري إخضاعها للنقد، فيصبح التفكير الابستمولوجي(النقد الفلسفي للعلوم) المنهج الأول للتقدم.

هذا التطور العلمي لا يمكننا فصله عن التطور التقني، فلم تعد الفلسفة في حوار مع العلم كمفهوم عام مسائلة لقضاياه وناقدة لنتائجه، بل شكل مفهوم التقنية technology  مركز اهتمام التفكير الفلسفي، والتي تشير في مدلولها العام إلى الآلات والمعدات التي توظف لتسهيل مجموعة من الخدمات وحل العديد من المشاكل، فالتقنية هي التطبيق الواقعي للتقدم العلمي والمعرفي في مجالات مختلفة، وإذا ما عدنا معجم لالاند La Lande الفلسفي فتشير التقنية إلى مجموع العمليات والإجراءات المحددة تحديدا دقيقا والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج النافعة. ويراها الفيلسوف الألماني شبنغلر  Spenglerعلى أنها مرتبطة بالوجود الإنساني منذ القدم لذلك يمكننا اعتبارها خاصية إنسانية، أما التقنية عند الحيوان فهي مجرد خطة حيوية للدفاع عن نفسه محددة بالغريزة، بينما ترتبط عند الإنسان بالعقل والفكر، هذا الطابع المفارق للتقنية دفع بالفلاسفة للحديث عن الجانب الفلسفي الماهوي فيها.

ماهية التقنية

سؤال التقنية من أهم الإشكالات التي طرحها الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر Martin Heidegger  والتي يلفها الكثير من الغموض، فهي ليست رصدا للتطور التاريخي لمفهوم التقنية أو قراءة للنتائج التي عرفتها في الفترة المعاصرة، ولا حتى تقديم حلول لسلبياتها الوخيمة، لأن سؤاله موجه بالأساس إلى الماهية، فالسؤال عن التقنية عند هيدغر هو سؤال عن الوجود وحركته من النسيان إلى الحضور، ساعيا لمواجهة التحدي الذي تفرضه على الإنسان اليوم، والبحث في التقنية كوجه من أوجه الميتافيزيقا، فهي لم تعد أداة من صنع الإنسان ولكنّها تجلي للوجود وجزء من المصير، حيث يقول "التقنية لا تتساوى مع ماهية التقنية"، لقد ميّز هيدغر بين الشيء التقني وماهية ما هو تقني، التقنية عنده شكل من أشكال الانكشاف في الوجود، لأن في الانكشاف يكمن إمكان كل صميم منتج وهو صميم ماهية التقنية، أي أنها نمط للظهور في الوجود الأصيل وإلزام للطبيعة في الظهور على غير نموها الطبيعي.

يمكن أن نخلص مع هيدغر إلى أن التقنية لم تعد وسيلة لكي يمكننا التحرر منها ثم بعد ذلك التحكم فيها، بل أصبحت عقلا يتجاوز الإنسان ويهيمن عليه، ليس الغاية هنا هو الإسهاب في الحديث عن التقنية وسلبياتها، بل الإشارة فقط إلى الجانب الوجودي الذي أصبحت عليه التقنية في بعدها الماهوي، هذه التقنية التي تعد المصدر الأول والحاضن الملائم لكل ما هو جاهز.

في ظل سيطرة الجاهز، هل يمكن ممارسة فعل التفلسف؟

إن الإنسان باعتباره كائنا يمتلك قدرة على التفكير فهو لا يكتفي بأن يحيا في هذا العالم، بل إنه يعمل عقله في علاقته بالعالم الخارجي، ومن هذا المنطلق يمارس الإنسان أولى أدوات فعل التفلسف، الدهشة من ظواهر الكون وأسراره التي يبتغي اكتشافها، والبحث في مكنوناتها، ليس هناك كائن يندهش من وجوده باستثناء الإنسان كما يقول شوبنهاور Schopenhauer فالاندهاش امتياز بشري لم نعد نعيشه أمام سلطة الجاهز، فقد تندهش من حدث نادر أو خبر كئيب أو طريقة فعالة لإتقان مهارة ما، لكن لن تجد من يندهش من بزوغ شمس الصباح، لأن الاندهاش يدفع بالشخص إلى طرح السؤال طمعا في الوصول إلى المعرفة والبحث عن الحقيقة،  حقيقة الذات وحقيقة الوجود سالكا طريق الشك كفعل أول قبل أية معرفة، وفحص عقلي للحقائق والأشياء، يختبر بواسطتها العقل أحكامه ومعلوماته وبناء أسس متينة.

  إذا كان "لا يمكننا تعلم الفلسفة، بل يمكننا فقط تعلم فعل التفلسف" كما قال كانطKant  فإن هذه الأدوات التي تشكل أساس كل فعل لممارسة التفلسف هي في نظر البعض اليوم أدوات مجردة لا تقدم نتائج سريعة وواحدة كما هو حال أدوات التقنية الجاهزة. أدوات الفلسفة تدفع للإنتاج المعرفي الخاص، بينما أدوات التقنية تقدم للاستهلاك الجاهز والعام، الفلسفة تدفعك للإجابة عن سؤال "كيف" بإيجاد منهجك الخاص متسلحا بالآليات النقدية والتي حتما ستكون إجابات مختلفة، لأن المناهج المتّبعة هي الأخرى مختلفة، الفلسفة تنتج شخصا مشككا في كل المعارف، مسائلا لها، باحثا عن حقيقتها ومنتج لمنهج جديد، بينما الجاهز ينتج إنسانا مستهلكا لكل حقيقة معلبة.

ختاما:

سيطرة الجاهز بفعل التقنية أو غيرها من الأسباب، أدى إلى طرح الإشكال الفلسفي الجوهري حول رهان الفلسفة اليوم. وهذا ليس تشكيكا في جدوى التقنية أو رفضا لخدماتها  بل توضيحا لعلاقتها بالجاهز، وهي على العموم موغلة في كل الجوانب الإنسان الحياتية، إنها قدر العصر على حد تعبير هيدغر، والفلسفة في كل لحظة من لحظات تطورها تفتح التفكير على قضايا جديدة، وعلى طرق جديدة في الفهم والتحليل، ولا يملك الإنسان في مواجهة هذا التدفق من المعلومات الجاهزة إلا العقل. فالعقل هو الوسيلة الوحيدة للتعامل مع المؤثرات الخارجية من خلال التفكير النقدي، للتصدي لها ونقدها والوصول إلى ما يمكن أن يكون الخيار الأفضل.  وإذا كان الركون إلى الجاهز يمنح الراحة، فإن التفكير يشكل حصن منيع يحمي من الاستغلال، وهذه هي وظيفة العقل الفلسفي اليوم، والتي تتجلى في تكوين الفرد المفكر باعتباره لبنة أساس في بناء المجتمع المتحضر الراقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق