تاريخانية التوالي السردي في (ثلاثية القرون) للقاص جهاد مجيد - د. نادية هناوي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 26 يناير 2021

تاريخانية التوالي السردي في (ثلاثية القرون) للقاص جهاد مجيد - د. نادية هناوي

مدخل: التوالي بين التاريخ والسرد

للتاريخ تأثير كبير في كتابة السرد، من منطلق أنّ التاريخ ليس الماضي حسب؛ بل هو الحاضر الذي يدلل على المستقبل أيضا. وهذا ما أدركه الروائي جورج اورويل في مقولته( أن من يتكلم بالماضي يمسك بالمستقبل).

وصار الحديث في أروقة الدرس النقدي الفرنسي عن انكسار الزمن وتفتت التاريخ أمرًا مقنعًا وطبيعيًا، ولاسيما عند ميشيليه كأول داع إلى غربلة تاريخ الحوليات، وهو القائل:" رأيت فرنسا كانت لها حوليات ولكن لم يكن لها تاريخ"[1]، وميشيليه الأب الروحي لمدرسة التاريخ الجديد التي نقضت تاريخ الحوليات بتواريخ جديدة. ومن تلك التواريخ التاريخ المفتت لفرانسوا دوس، وفيه سعى إلى صناعة تاريخ شامل يجمع كل الجوانب التي تهم الواقع في حركة واحدة حتى غدت الظواهر المكبوتة هي موضة التاريخ الجديد، مهتما بالسحرة وعالم اللامعقول وحركات الهرطقة والمهمشين والثقافة الشعبية[2].

ومع تقدم الحياة تكنولوجيا وتزايد التأثير الإعلامي وتسارعه يوميا، صار من الملّح والمهم على الساحة العالمية أن ننظر إلى التاريخ نظرة متسارعة ومتقدمة، تجعلنا نعيشه لا أن نسترجعه، منغمسين فيه انجذابا وتعاطفا أو مقتا ونكاية. وعندها سيغدو المؤرخ هو المحكوم الذي تتحكم فيه ارادة القارئ. وواحدة من محاكمات التاريخ الرسمي التي يؤاخذ عليها المؤرخون أنهم أرخوا للوقائع من وجهة نظر الاقلية الخاصة التي هي السلطة وتناسوا وجهات نظر الاغلبية العامة التي يمثلها الشعب، فلم يكشفوا لنا عن أغوار العامة ونفسياتهم وأحاسيسهم وتصوراتهم أبان وقوع حدث ما، والكيفية التي بها تطورت سلوكياتهم تجاه هذا الحدث فيما بعد.

ووفقا لفرانسوا دوس فإن الذهنيات تخترق التاريخ على أريكة من الهواء على حدِّ تعبيره، وأنه بمجرد أن يصبح المتخيل شخصية تاريخية دائمة ببنيتها ووظيفتها فعندذاك ستتم تغطية كل الأبعاد الأخرى ويصبح التاريخ مؤديا وظيفة المفتاح لما نعيشه في العصر الحالي[3].

ونستطيع أن نبني على هذا الطرح تصورنا الخاص لتاريخ يغوص في أعماق الذهن البشري من قبل الولادة إلى ما بعد الممات في دورة لا نهاية لها، ويحفر في الذاكرة التي يقاس تقدمها بالعمر، بادئا من الأجنة وهي تسبح في فضاء داخلي آمن مطمئن، مارا بفضاء الواقع الخارجي غير الآمن، ومنتهيا باستعادة الأرض للبشر كأجنة من جديد في دورة ليس فيها فواصل بين زمان وآخر.

ولئن كان التاريخ ليس هو الزمان الماضي؛ فإنه أيضا ليس أخبارا فقط وإنما هو سردية قوامها حكايات وقصص وأخبار تقوم على مبدأ السببية لا مبدأ الزمانية. وهذا ما يدعم إمكانية دراسة التاريخ على وفق منهج يرى التاريخ شكلًا من أشكال المعرفة. وهذا ما يسميه هايدغر بالمعاودة petition التي "هي الشكل المحدد لوجود الأحداث في نطاق التاريخية على عكس وجودها في الزمان"[4].

وكان الروائي ميلان كونديرا قد تعامل مع التاريخ لا بوصفه علمًا، فالوصف نفسه لا يهمه وهو غير موجود في رواياته، لكنه مؤمن أن التاريخ هو تاريخ المجتمعات لا تاريخ الإنسان ولهذا كانت الأحداث التاريخية التي تتحدث عنها رواياته غالبا منسية في أعراف علم التاريخ ونظرياته[5]، وقد وصف سلوكه إزاء التاريخ بأنه "سلوك المخرج المسرحي الذي يتدبر أمر مشهد تجريدي بعدد من الأشياء لا غنى عنها للحدث"[6].

ولا خفاء أنّ التوالي هو الذي يجعل الماضي حاضرًا حضورًا آنيًا والحاضر مستشرفًا استشرافًا مستقبليًا آتيا، وبهذا يبتعد الجمود عن الماضي وتتلاشى صنميته ويتداعى تحنطه، بعد أن يمنحه الحاضر الحيوية ويكسبه المستقبل الامتدادية. وهذا ما خاض فيه الناقد الأمريكي ألون مونسلو مفرقا بين الماضي والتاريخ، فالأول موجود باستمرار والثاني تنتقل معرفته إلينا وفقا لمبادئ أساسية من الشكل السردي"[7].

وكانت نظرة رولان بارت البنيوية للنص قد قطعت عليه أي طريق للوقوف عند التاريخ، بيد أن انتقالته النقدية إلى ما بعد البنيوية، أتاحت له النظر للتاريخ نظرة جديدة أساسها الإحساس باللذة، فتساءل "لماذا توجد في بعض الكتب التاريخية..لذة في رؤية تمثيل الحياة اليومية لعصر من العصور ولشخص من الشخصيات ؟ لماذا هذا الفضول بالنسبة إلى التفاصيل الصغيرة المواقيت وجبات الطعام المساكن الثياب إلى أخره هل هو الذوق الاستيهامي للواقع والصورة المادية لقولك (كان ذلك )؟ أليس الاستيهام هو الذي يستدعي التفاصيل والمشهد الصغير والخاص والذي أستطيع أن آخذ مكانا في داخله بسهولة ؟"[8].

وقد أوصل هذا التساؤل بارت إلى وضع يده على بناء تقاني في السرد هو حصيلة الجمع بين الثقافة واللغة والحياة والسرد، كنوع من المنطق الثقافي الذي به تكتسي سلاسل الأفعال السردية ظاهرًا منطقيًا يجعل المكتوب في الماضي متواليًا في أفعال حاضرة داخل النص. وقد قسّم بارت التوالي بهذا المفهوم إلى ثلاثة أقسام:

1)    متوالية بسيطة ذات قوانين من نمط (سؤال/ جواب) لنلاحظ أن مثل هذه المتواليات تكون هامة بالقدر الذي تكون فيه مبتذلة شائعة لان ابتذالها ذاته يشهد على كونها قيدا عاما تقريبا أو أيضا قاعدة من قواعد لغة السرد.

2)    متوالية متطورة ذات أنوية متعددة تتحدد في( الذهاب /البحث/ الوصول إلى موضع / الطلب / الحصول على الطلب/  العودة بالمطلوب) وبعض العناصر قابلة للاستبدال في محكيات أخرى، فالعودة بالمطلوب مثلا يمكن أن يحل محلها في موضع آخر التخلي/ التنازل.. الخ

  3 ) متوالية الأفعال المتشكلة تبعا لبنية منطقية زمنية تتجلى على امتداد المحكي حسب نظام معقد، ويمكن لعنصرين في المتوالية أن يفصل بينهما ظهور عناصر تنتسب إلى متواليات أخرى فتتشابك المتواليات لتشكل جدلية المحكي[9].

واهتم بول ريكور بالتوالي بين الحياة والسرد، من منطلق ما سماه (الفهم السردي) الذي ينبع من وجود خطاب من الدرجة الأولى هو الخيال، وتتبعه السردية كخطاب من الدرجة الثانية[10]، وبناء على هذا الفهم السردي يكون الخيال هو المحاكاة بينما السرد هو المحاكاة الثانية. أما القول بأن القصص تروى ولا تعاش والحياة تعاش ولا تروى فهو بحسب ريكور مجرد مغالطة، والصحيح ( ان القصص تروى لكنها تعاش ايضا على نحو متخيل)[11].

وريكور هو الذي فسر الحياة بوصفها قصة في طور الولادة ونشاطا وعناء وبحثا عن سرد، وأطلق على ذلك( الخاصية ما قبل السردية للتجربة الانسانية) وأن الزمن وليد الانقطاع المتواصل بين ثلاثة مظاهر للحاضر هي التوقع الذي يسميه حاضر المستقبل والتذكر الذي يسميه حاضر الماضي والانتباه الذي هو حاضر الحاضر[12].واستعمل فكرة( التراثية) بديلة عن التاريخ لأهميتها الكبيرة في الفعالية السردية، بوصف التراثية هي المفتاح لتشغيل النماذج السردية وتحديد هويتها على أساس تفاعل عاملين هما (المبتكر والراسب) وبالعلاقة بينهما يتشكل التراث وإذا كان الابتكار هو القطب المضاد لقطب التراث، فإن متغيرات هذين القطبين تضفي على الخيال الابداعي صفة التاريخية وتبقي التراث السردي تراثا حيا[13]. وبهذا التصور العلائقي للتراث تتشكل أنماط بناء الحبكة التي تجعل آثار التاريخ ممتدة بلا انقطاع.

وعبر هايدن وايت عن التوالي في الأفعال بالمدارية ( Tropology ) وهي فن المجاز الذي فيه تتم إزاحة الوقائع إلى أرضية التخييلات الأدبية أو إسقاط أحد أنواع التشكل الأدبي على وقائع بنية الحبكة، مفسرا علاقة الطفل بواقعه ونموه المعرفي بالنمط المداري[14]. وهذه المدارية تجعل الحبكة" ليست مكونا بنيويا للقصص التخييلية او الاسطورية فحسب بل تعلب دورا حاسما في التمثيلات التاريخية للاحداث ايضا" [15].

المتخيل التاريخي في ثلاثية القرون:

وصف هايدن وايت النص التاريخي بأنه حقيقة أدبية، نافيا بذلك الموضوعية التاريخية في التمييز بين الاحداث المهمة والاحداث غير المهمة، متاثرا بنورثروب فراي وحديثه عن الوهمية التي تقع بين ( التاريخية) و( الاسطورية)[16]

وهذا ما بنى عليه هايدن وايت نظريته التي تقوم على التعامل مع التاريخ بوصفه سردا، وسردية التاريخ لا تتجسد إلا في سرديات ما بعد الحداثة ومنها رواية التاريخ التي هي مضادة للرواية التاريخية، ومنها أيضا قصة التاريخ التي تتخذ من الواقعة وسيلة، هدفها السرد الذي به تعاد كتابة الواقعة بمتخيل جديد، وبهذا تعاكس قصة التاريخ القصة التاريخية التي فيها يفهم التاريخ بأنه الماضي، فتظل الواقعة في القصة هي نفسها في التاريخ.

بقصة التاريخ نستطيع الوقوف على فعالية السرد وهو يستعيد اللحظة التاريخية بطريقة انقلابية توصلنا الى التفتيت الذي به نلتقط تاريخ الذهنيات التي تحدث عنها فرانسوا دوس.

وهناك وسائل سردية مختلفة لبناء قصة التاريخ، ومن تلك الوسائل التوالي الذي تحدث عنه بارت، والعينة التي سنمثل بها هي( ثلاثية القرون) للقاص العراقي جهاد وجيد وهي عبارة قصص قصيرة ثلاث هي( الذكرى المئوية وخطاب القرون وذكرى القرون) وسبب التمثيل بها عائد اولا الى ريادتها في توظيف التاريخ بالمفهوم ما بعد الحداثي، فالقصص منشورة العام 1988 وثانيا أن كاتبها كان قد بلور مفهوما نظريا للتوالي يقوم على ازالة الحدود بين الاجناس تحت فضاء واسع هو السردية، وهو الذي وصف التوالي في مقدمة روايته( حكايات دومة الجندل)[17] كالآتي ( وحدات سردية منفصلة متصلة تقبس من القصة القصيرة الكثافة في المشهد والجملة وقصر الحجم بالنسبة لكل وحدة منفردة والاستقلالية النسبية ضمن هذا الحجم، ومن الرواية الروابط الوثيقة بين كل الوحدات وحدة المناخ ونسغ الأحداث المتصاعد عبرها والشخصيات دائمة الحضور والمتكررة ووقائعها المتشظية في كل الوحدات أو معظمها وسوى ذلك من خصائص"[18]. وبهذا الاجتراح يكون جهاد مجيد أول سارد عراقي وربما عربي ـ على حد علمنا ـ وظف نظريا وطبق عمليا التوالي بوصفه تقانة سردية في التعامل مع موضوعة التاريخ قصصيا وروائيا.

والسبب الذي جعل ثلاثيته القصصية قصة تاريخ استعماله التوالي بالمفهوم الذي ضمه القسم الثالث من اقسام التوالي التي صنفها رولان بارت. وفيه تتخذ الأفعال المتشكلة شكل بنية منطقية تتوالى على امتداد المحكي التاريخي حسب نظام معقد يقوم على وحدة الحدث التاريخي( التحرير) ووحدة المكان( الفاو)، كاشفا لنا عن خفايا هذا الحدث ومسكوتاته التي تناساها التاريخ الرسمي للمدينة، فلم يوثق سوى للانتصارات والبطولات والايجابيات الحياتية؛ بينما لم يحفظ إلا القليل من وقائع الانكسارات والسقوط والنكسات والهزائم، وهنا يظهر دور الذاكرة في حفظ هذه الوقائع بطريقة حيوية لكنها شفاهية تنتقل جينالوجيا من جيل إلى جيل.

ولأن هذا النوع من التوالي مركب ومتعدد لذلك سنقف باستفاضة عند كل توال من متواليات المتخيل السردي في ( ثلاثية القرون)[19] كما يأتي:

التوالي المجمِل :

ونعني به تكرار الفواعل والملفوظات والتقانات التي توالت في تشكيل قاعدة الامتداد في القصص الثلاث، ويمكن تحديد  ثلاثة أشكال في هذا التوالي هي :

1) قصدية تكرار دور المؤرخ مرة وهو مأزوم بضغط الاحساس بالقصور في اداء مهمته كمؤرخ، ومرة أخرى وهو عازم على إعادة تسجيل حدث التحرير بالاستعانة بوثائق جديدة لم يكن التاريخ الرسمي قد فطن الى أهميتها كالذواكر والرسائل والشهادات الحية.

والسبب في ذلك التأزم وهذا العزم هو الحقيقة الصادمة التي فطن لها المؤرخ وهي أن التاريخ الرسمي تاريخ ينتقي ولا يستقصي، وصحيح انه نقل لنا أن تحرير مدينة الفاو تكرر مرتين، مرة في التاريخ البعيد في العهد الساساني ومرة في التاريخ القريب منتصف ثمانينات القرن العشرين، بيد أنه لم يسجل لنا تاريخ الاحتلال الثاني، كما لم يسجل تاريخ الاحتلال الأول.

وتبدأ الثلاثية باسترجاع ذكرى تحرير المدينة لكن بعد مرور مئة سنة عليها وأهلها يستعدون لاحتفال باليوبيل الذهبي للتحرير، والبغية الوقوف على حقيقة هذا الحدث التاريخي، ورهان السارد يتجسد في السؤال أيهما أوثق وأبقى التاريخ الرسمي أم محكي التاريخ؟

2)  المداومة على استعمال السارد العليم لتيار الوعي بما فيه من تقانات التداعي الحرة والمناجاة والمنولوجات الداخلية والحوارات الحرة غير المباشرة، محاولا الظفر بمزيد من مخفيات حدث التحرير ومهملاته.

3)   توزيع السارد للشخصيات بطريقة تخدم موضوعه، ففي القصة الأولى نجد المؤرخ هو الفاعل السردي الأول، الذي سيتحول في القصة الثانية الى مجرد مسرود لفاعل سردي هو السيدة الفاوية حفيدة الجد المحاصر، وقد عثرت على رسالة سيفيد منها المؤرخ كمخطوطة فيها معلومات تاريخية هي عبارة عن مذكرات تودع فيها لحظات نفسية ومشاعر انسانية دقيقة عاشها جدها. وتستحضر في الرسالة ايضا قصة مضمنة بطلها جد الجد المحاصر وهو يقص حكاية نجاته الربانية من حكم الاعدام الذي كان منتظرا تنفيذه على سطح السفينة البريطانية؛ إلا إن وجها نورانيا ياتي وينقذه باعجوبة " ابشر يا عبد الله النعيمي انت في حمى جدك.."[20]. ويكون الفاعل السردي في القصة الثالثة شاهدا عيانيا على لحظة الاحتلال حاملا ذاكرة اليمة عنها، وتظل شهادته حية معه لكنه عاجز عن الادلاء بها. وفي ذلك إشارة اليغورية إلى أن التاريخ الرسمي لا يكترث لشهادات الناجين الذين عاينوا الكوارث وعاشوا مآسيها وشهدوا الحروب وعرفوا أهوالها.

التوالي المفصِل:

ونعني به الاشتغال الخاص على التوالي داخل كل قصة على حدة، فقصة( الذكرى المئوية) وهي أولى قصص الثلاثية، تبدأ بلحظة الاستعداد للاحتفال، وقد تشكلت لجنة لهذا الغرض تتألف من مؤرخ المدينة وشاعرها الكبير وفنانها المعروف ومفكرها العسكري. وبتصاعد الحبك يتضح لنا أن مؤرخ المدينة يعيش حالة من التأزم والسبب أنّ كثيرا من تفاصيل الذكرى لم تحفظ، فيسائل نفسه عما اذا كان يؤدي وظيفته التوثيقية بصدق ؟ ويتوكد له أن للتاريخ الأدبي دورا في التوثيق مثلما ان للفنان والعسكري دورهما ايضا" ادرك المؤرخ ان زميله بدأ يزحف على مهمته في الاحتفال"[21] فالتاريخ الرسمي اغمط كثيرا من الاحداث حقها ولم يسجلها كما لم يستعن بالاخرين شعراء وفنانين وعسكريين في استكمال عمله التاريخي ولولا ذلك لكان تاريخ سقوط المدينة في الاحتلال محفوظا كما حفظ تاريخ تحريرها.

ويسهم التوالي في استعمال الفعل ( تذكر) مثل ( وهو يتذكر أول الوفود/ الآن يتذكر في البدء كان عمل اللجنة صعبا/ لا أذكر بالضبط اسمه) في جعل المؤرخ اكثر اقتناعا أن هناك تفاصيل تاريخية طالها النسيان فضاعت. ولان التاريخ الرسمي اهمل فعل الذاكرة ولم يكترث له، غدت مهمة الارخنة للمدينة صعبة وهذا ما يتضح في هذا المونولوج الذي فيه يعيش المؤرخ احتداما فكريا" حقا إن مهمتي هي الأعسر. عليَّ أن أكلم الناس عن طبيعة الناس آنذاك عن مجريات حياتهم في أيامهم تلك وكل شيء يجب توثيقه بالأرقام والنصوص والوقائع"[22]

وبهذا يدرك المؤرخ أن عمله لا يقترن بجمع البيانات والوئاثق حسب؛ بل عليه أيضا الإلمام بكل التفاصيل الصغيرة جامعًا العام بالخاص بكل جوانبهما سلبية مظلمة كانت أو ايجابية مضيئة.

وأنّى للمؤرخ القيام بذلك والمنظومة الرسمية تريد منه أن يؤرخ للمدينة فلا يظهر منها غير الوجه المنتصر، مع تغييب دور العموم من المواطنين وهذا ما يعبر عنه السارد العليم رمزيا بنصب المواطن المجهول في إشارة الى إن تاريخ المحكومين مندثر بصمت بينما تاريخ الحاكمين معلوم مذاع.

ويصل التأزم بالمؤرخ الى الذروة حين يمتد شكه الى كل فعالية من فعاليات الاحتفال الرسمي فالقصيدة التي تغنت بالانتصار مسروقة من قصيدة قديمة، والرقصة التي أدتها الفرقة على المسرح ليست بجديدة بل منقرضة، وما عبر عنه الاستعراض بثغر العراق الباسم ليس كذلك، فلم تكن نساء الفاو ابان الاحتلال يرقصن وما كان الانتصار سفينة تمخر العباب باباء.

أما حوارية اوتوبنشتم مع جلجامش وانكيدو فليست سوى مغالطة تاريخية تريد أن تزوغ فعل  الاحتلال بالتذرع بفعل الموت بوصفه مكتوبا على البشر جميعا مهزومين ومنتصرين. وكل هذه المغالطات التي تبنى على خلفية تاريخ موهوم بالتحرير والانتصار، لا يعبأ بالويلات والالام التي كابدها أهل الفاو، سيدفع المؤرخ ثمنها وهو يبحث عن وثائق جديدة تمكنه من إعادة كتابة تاريخ التحرير.

وجدير بالذكر أنّ وقائع احتلال المدينة الدامية وتحريرها ستظل عالقة في مخيلة منتج النص لتمظهر مجددًا في أحد فصول روايته( أزمنة الدم ) الصادرة عام 2016، كما أشار النقد إلى تجلي أثر هذه القصة في قصص ظهرت بعدها[23].

وننتقل إلى القصة الثانية وعنوانها( ذكرى القرون ) التي فيها يتجلى التوالي بطريقة تظهر التزييف التاريخي بشكل أعمق، فالمؤرخ سيستكمل بحثه عن الحقيقة التاريخية في الوثائق الصوتية والاشرطة المرئية من مكالمات ونداءات تلفزيونية واذاعية ومقالات صحفية..الخ.

وتتداعى أمام مخيلته صور الجثث برؤوس واجساد وصدور ودود وبقايا بنايات مهدمة ودخان حرائق وحطام وهذا ما يوصله إلى حالة من الصحوة الذهنية، فيدرك أن الوثائق العيانية ليست وحدها التي تنقل الحقيقة بل هناك صور ذهنية مخزونة في الذاكرة، ويتساءل "الناس في كل العصور مشوقة لمعرفة ماضيها او الماضي برمته ربما لعمل مراجعة ولكن هل يحققون مثل هذه المراجعة؟ اليس الزمن كفيلا بذلك وحده؟ "[24]، ثم يجد نفسه مراقبا من العموم، لكن عزاءه أن الزمن يحتفظ بوثائقه الخاصة "ماذا أقول لهم ؟ أحس أنهم يعرفون كل شيء فكل شيء مقروء عبر الزمن عبر أجياله لانه مكتوب على الواح الزمن اللامرئية ذاكرة الناس المتوارثة"[25]

وألواح الزمن اللامرئية في هذا المونولوج الداخلي هي ترميز فني لحكايات الناس الحالية وخيلاتهم المستقبلية، بمعنى أن التاريخ ليس وقفًا على عمل المؤرخ؛ بل هناك الجموع المغموط حقها التي تحتفظ في ذاكرتها بتاريخها الخاص الذي تستعيده يوميًا ليظل حيًا ونابضًا باستمرار وبذلك يكون فعل الذاكرة في مصاف فعل التاريخ الذي اذا أضاع شيئا استعادته الذاكرة، فمعها لن يضيع أي شيء.

ويؤدي التوالي في التاريخ إلى جعل التخييل هو السبيل الذي به يستدرك المؤرخ ما نساه، فالتاريخ دوري استعادي، وليس أمام المؤرخ سوى أن يسترجع الحقائق لا أن يخلقها "أن مهمتي لا تصنع التاريخ فصناعة التاريخ فعل يومي مباشر وهي لاحقة به.. وأن لم تنجز مهمتي فلا تأثير لها في تلك الحقائق، وكل ما أقوله مقول قد يكون مدونًا أو لا يكون، غير انه محفوظ في ألواح الزمن اللامرئية"[26]

وصحيح أن المؤرخ في القصة الاولى قد تنبه الى أهمية القصص والحكايات في حفظ ما غفلت عنه بيانات التاريخ الرسمي من خلال استعانة السارد بحكاية القاص المغمور الذي تخيل في قصته الاحتفال باليوبيل الذهبي لكن اسمه لم يحفظ فالمؤرخ ما كان ليحفل بالقصص كوثائق، بيد أن هذا المؤرخ في القصة الثانية سيتجاوز مستوى التنبه إلى مستوى اعمق وهو القبول بالتنازل عن دوره المحوري للسيدة الفاوية لتكون هي الفاعل السردي مقابل حصوله على الرسالة التي فيها تودع مذكرات جدها المحاصر.

وفي الرسالة يمتد الاسترجاع الزمني إلى عامين بعد المئة، في شكل مذكرات عن زمان المحاصرة داخل البيت وما تركه الجد في هذا المكان من كتابات على الجدران وعلى ساق السدرة كنوع من التوثيق  الذي أهمله التاريخ الرسمي بعكس محكي التاريخ الذي به يستدل على حقائق جديدة تتعلق بدقائق اللحظات المعيشة اثناء المحاصرة. وهذا ما يدفع المؤرخ الى مقارنة ما في الرسالة من مذكرات بما لديه من وثائق وبيانات واشرطة وافلام.

 بهذا تصنع الرسالة بوصفها وثيقة مرئية المتخيل التاريخي لحادثة التحرير، واذا كان التاريخ الرسمي عاجزا عن حفظ هذه التفاصيل؛ فان الذاكرة قادرة على حفظها والسبب ان الزمن بالنسبة اليها لا يقاس بالايام والساعات؛ بل هو احساس يتجاوز الوقت. وسواء أكانت الذاكرة مكتوبة في شكل ابداعي كقصة او رسالة او مذكرة أو كانت الذاكرة شفاهية تنتقل حية عبر الاجيال. وهذا ما تقدمه الساردة الذاتية/ الحفيدة وهي تضع أمام المؤرخ مذكرات جدها المحاصر، " سرد ذلك في مفكرته الصغيرة ولكن للأسف فقدت فيما بعد ..ولم تبق إلا نتف في ذواكرهم"[27] وهذا الجد سيذكر في رسالته قصة جده العجائبية عن الوجه النوراني الذي هتف به " لا تخش شيئا واذكر محنتي وتجمل بالصبر"[28] لتكون قصة ضمنية تدعم محكي التاريخ في القصة الأصل. وهنا يغدو التوالي بالفعل (تذكر) هو المعول عليه في صنع المتخيل التاريخي لما كان قد ضيعه التاريخ الرسمي المدون.

وبالتذكر تسرد الرسالة محنة الاجداد والثمن الذي تدفعه الاجيال وهي تردد محكي تاريخها المهمل الذي يتوالى في ذواكرها في شكل مشاعر وجدانية لا تخلو من مناجاة وخوارق، اذ باستذكار الجد المحاصر لجده المجاهد يبتعد الزمن السردي باثنين وسبعين عاما الى الوراء، ويتوالى فعل المناجاة بينهما مكتوبا على جدران الغرفة" اغثني يا مولاي وخلصني من حصاري"[29] وانطلاقا من فعلية التوالي يسأل المؤرخ الساردة " أأدركه الخلاص كما ادرك جده قبل مئة عام وأربعة وسبعين عاما؟ "[30]

ولا تملك الحفيدة أي دليل مادي يؤكد النهاية التي خلصت إليها قصة جدها المحاصر، فالجدران تهدمت والسدرة ماتت، لكن الحكايات التي تناقلها الناس تظل هي دليلها الوحيد، وهذه الحكايات "تجمع كلها على انه دفن في وادي السلام الى جوار جدنا الاعلى، وحتى هذا الخبر مشكوك فيه، غير أنني زرت مقبرة الآل ووجدت اكثر من شاهدة تحمل اسماء مشابهة لاسمه بل متطابقة مع اسمه ثلاثيا سهيل نجم عبد الله النعيمي"[31]

وفي هذا توكيد أن التاريخ ليس سوى حكايات تختفي وراءها عشرات الحكايات التي سقطت عنها الاسماء والارقام والاشكال، مخفية الحقيقة في الدهاليز والسراديب والافضية، وبمفارقة صادمة ينتبه المؤرخ " إلى أنه كان يكلم نفسه ماسكا رسالة السيدة الفاوية على آخر صفحاتها"[32] كتوكيد أن للتخييل دوره في بناء وقائع التاريخ.

ونصل هنا إلى القصة الثالثة وعنوانها( ذكرى القرون) وفيها السارد شاهد عيان عاصر احتلال مدينة الفاو وهو طفل صغير وقد رأى صورًا مأساوية وسمع أهوال القصف وازيز الطائرات،   والمفارقة انه منسي واقع على هامش تاريخ لم ينتبه إليه ولا الى قصته وما اختزنته ذاكرته من مشاعر وصور هي حية معه طول عمره وستندثر معه عند مماته. وبالرغم من محاولة المؤسسة الرسمية ممثلة بمحطة التلفزيون والمذيعة التي يصفها السارد الشاهد بالزبدة مؤكدا التزويق الذي تنطبع به أفعال هذه المؤسسة، مشككا في صدق نيتها في تسجيل إفادته ونقل شهادته للعالم بوصفه اكبر من سيؤرخ لمدينة لفاو" قل كل ما تتذكر فانت الوحيد من سكنة المدينة ممن شهدوا احتلالها وتحريرها على حد علمنا"[33]

والمفارقة انه سيحجم عن تقديم افادته، وسيفرح حين تتركه المحطة وشأنه" ولوا كما ولى الغزاة كدت اصرخ بهم اطردوهم.."[34] اما لماذا احجم عن الادلاء بشهادته فالسبب هو طول سكوت التاريخ الرسمي عنه، الذي افقده القدرة على الكلام فلقد تيبست حنجرته ووهن سمعه فلم يعد يسمع صوتا بشريا بوضوح. وفي ذلك إشارة إلى أن الهوامش نفسها تزدري التاريخ الرسمي مثلما هو يزدريها، وكنوع من رد الفعل الطبيعي للهوامش على عهود طويلة من اللامبالاة وعدم الاكتراث التي قابلهم بها التاريخ الرسمي.

وما كان لهذا التاريخ أن يفطن الى أهمية الذاكرة والشهادة؛ إلا في المرحلة التي تفتت فيها مركزياته وصار لزاما عليه الارتكان الى غير الوثائق الورقية. وواحدة من الوثائق الذاكرة الشفاهية التي فيها يكون للتخييل دور في استكمال الحدث التاريخي.

وما تحتفظ به ذاكرة الشاهد العيان عن احتلال الفاو، هو لحظة الهجوم التي عاش معها فتى صغيرا ويعيش معها حاليا كهلا كبيرا، ورهابة هذا الحدث تجعله يتوالى أمام ناظريه مقترنا باللون الاحمر لذلك داوم على جعل كل ما يحيط به بلون أبيض " كل مدن الارض وفي كل الازمان اتعس ايامها هو يوم احتلالها وابهج ايامها هو يوم تحريرها. نعم شهدت تلك الفترة لكن الزمن يغلق نوافذ الذاكرة يتكدس اكواما في طريقها فيحول دون جريان الماء في سواقيها"[35]

ومعلوم أنّ الذاكرة الانسانية ذاكرتان: ذاكرة لا واعية تتداعى أمامها لا إراديا التفاصيل اليومية من اكل وشرب ولبس؛ وذاكرة واعية تستحضر فيها التفاصيل بقصدية. وهذه الذاكرة هي التي تعمل عند الشاهد" سأتذكر أتذكر نعم، نعم ..سأعيد تذكر ما ظللت أتذكره وأرويه في مناسبات مختلفة حتى اضحى بعد فترة من الزمن شيئا منفصلا عني كانني لم اعشه لا يخصني بل يخص غيري"[36] أو قوله:" اتذكر جيدا..اتذكر ذلك طوال عمري..حسبما رسبته الايام في ذاكرتي..ظل ينفجر في ذاكرتي.. ظللنا نذكر هذا اليوم"[37]

ويتجلى التوالي في تداعي ذاكرته الواعية على شكل لوحات وهو يستذكر حدث استشهاد سمية الفاوية السمراء الذي علق في ذهنه، فمرة هو "الجرح الغائر في القلب لا يندمل ولا ينفع معه مرهم السنين المتكدسة مهدئات الزمن "[38]، ومرة ثانية هو الليلة التي لا تنسى، ومرة ثالثة هو" سائل بلون شريط شعرها .. منذ الحين وانا ارى هذا السائل في كل لفافات ضماد للمعسكر في ساحات الوغى..في ثياب اطفال المدارس المقصوفة في كل الاصوب والانحاء"[39]

ويبين هذا التوالي السردي لفعل التذكر كيف أن التاريخ الرسمي لا يوثق ما يوثقه التاريخ المحكي الذي يحفر في ذاكرة الوجع والسقوط، باحثا عن مشاعر الخوف والشؤم عند شعوب ما عرفت إلا الدماء. وهذا ما يعزم المؤرخ الذي صحا تاريخيا على القيام به، فقرر الاحتفاظ بشريط سمية وصدريتها وحقيبتها في متحف المدينة كملكية عامة؛ وهنا يباغتنا السارد بمشهد التلفزيزن وهو يعرض صورة المذيعة وصوره الاشجار الجميلة من خلفها، لتختتم الثلاثية القصصية والمؤسسة الرسمية تزوق المشاهد، فلا تعرض من تاريخها سوى الذي يناسبها. وهكذا تضيع آثار الاقدام وتختفي بصمات الاصابع؛ وكأن لا شيء حصل.

  فهرس هوامش البحث ومصادره:

[1] نقلا عن: التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، فرانسوا دوس، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، مراجعة جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت، ط1، 2009، ص145.

[2] ينظر: المصدر السابق، ص145 ـ 146.

[3] ينظر: المصدر السابق، ص297ـ 309.

[4] محتوى الشكل الخطاب السردي والتمثيل التاريخي، هايدن وايت، ترجمة د. نايف الياسين ، هيأة البحرين للثقافة والاثار، البحرين، 2017، ص 133

[5] ينظر: فن الرواية، ميلان كونديرا، ترجمة بدر الدين عرودكي، الاهالي للطبع والنشر ، سورية، ط1، 1999، ص42.

[6] المصدر السابق، ص42.

[7] ينظر: دراسة تفكيكية للتاريخ ، الون مونسلو، ترجمة قاسم عبده قاسم، المركز القومي للترجمة، ط1، مصر، 2015 ص15ـ18 .

[8] لذة النص، رولان بارت، ترجمة د. منذر عياشي، دار لوسوي، باريس، ط1 ، 1992 ، ص93ـ 94.

[9] ينظر: المصدر السابق، ص44ـ ص45.

[10] الوجود والزمان والسرد، بول ريكور، تحرير ديفيد وورد، ترجمة وتقديم سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، طبعة أولى، 1999 ، ص44ـ 45.

[11] المصدر السابق، ص 49.

[12] ينظر: المصدر السابق، ص 51ـ  ص53 والقول حول الزمن استمده ريكور من اعترافات اوغسطين.

[13] ينظر: المصدر السابق،  ص46.

[14] See : Tropics of discourse essays in cultural criticism, Hayden White, The Johns Hopkins university press,Baltimore and London,1978. P6,7

 [15] محتوى الشكل، ص 130ـ131

[16] See : Tropics of discourse, p81,83

[17] نشر القاص روايته( حكايات دومة الجندل) على شكل قصص متتالية في مجلة الاقلام العراقية منذ العام 1988 حتى العام 1993.

[18] الاعمال الروائية ، جهاد مجيد، دار رند للنشر والتوزيع، دمشق، ط2، 2010 ، ص7 .

[19] الشركاء مجموعة قصصية، جهاد مجيد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1988.

[20] القصص، ص30.

[21] القصص، ص14.

[22] القصص، ص9.

[23] أشار الناقد فاضل ثامر إلى تناص قصتي( المقامة البصرية) لمهدي عيسى الصقر و( بصرياثا) لمحمد خضير مع قصة( الذكرى المئوية)، مؤكدا أسبقية جهاد مجيد في التوظيف للتاريخ والتجريب فيه، ينظر:المبنى الميتاـ سردي في الرواية، فاضل ثامر، دار المدى للثقافة والنشر، بيروت، ط1 ، 2013 ،ص 447ـ 448 .

[24] القصص، ص20

[25] القصص، ص17

[26] القصص، ص17

[27] القصص، ص28

[28] القصص، ص28

[29] القصص، ، ص 30

[30] القصص، ، ص36

[31] القصص، ، ص31

[32] القصص، ، ص32

[33] القصص، ، ص34

[34] القصص، ص35

[35] القصص، ص37

[36] القصص، ص38

[37] القصص، ص 38ـ39

[38] القصص، ص39

[39] القصص، ص43


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق