خالدة سعيد: لا أعرف كيف يكون النقد نسويّاً أو ذكوريّاً! - حوار: رنا نجار - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 3 يناير 2022

خالدة سعيد: لا أعرف كيف يكون النقد نسويّاً أو ذكوريّاً! - حوار: رنا نجار

تُعرِّف الناقدة والكاتبة خالدة سعيد بنفسها لبنانية من أصلٍ سوري. وصلت إلى بيروت أواخر عام 1956، جاهزةً لبدء سيرتها النقديّة في الشعر، على صفحات مجلّة «شعر»، إذ كانت الناقدة الوحيدة التي رافقت صدور مجلّة «شعر» منذ العام 1957، وكانت توقّع مقالاتها باسم خزامى صبري. بدءاً من عام 1963 دخلت فضاء الدراسات الأكاديمية، لكن هذا الفضاء الذي خبرت فيه المعايير، لم يجعل نقدها، فيما بعد، تنظيرياً محضاً، كما هو السائد، وإنما اتَّصف أسلوبها بالتطبيق وفحص النصوص من الداخل؛ وهذا مَكّنها من الكتابة عن تجارب مختلفة، في الآن نفسه، فقد كتبت عن عن معظم شعراء مجلّة «شعر»: أدونيس، أنسي الحاج، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، وسواهم. وعلى الرغم من أنها كانت في معمعة معركة القصيدة الحديثة إلّا أنها رفضت إثارة الغبار بين المتخاصمين المختلفين حول كتابة الشعر: عموداً أو تفعيلة أو نثراً، كما لم تُدِخْل نفسها في خانة النقد النسوي أو الـ«feminism»، على خِلاف ناقدات كثيرات.

واليوم ترى صاحبة: «فيض المعنى، في البدء كان المثنى، حركيّة الإبداع، البحث عن الجذور…» أن سؤال الحداثة وقصيدة النثر قد انتهى عهده. وهي، الآن، بصدد اللمسات الأخيرة على الجزء الثاني من كتابها «يوتوبيا المدينة المثقَّفة». وفي هذا الحوار الشامل والمثير تقول خالدة سعيد إنها -إذا سمح العمر- ستضع جزءاً ثالثاً، كما ستكتب سيرتها الذاتية.

كنت الناقدة الوحيدة التي رافقت صدور مجلّة «شعر» منذ العام 1957، وكتبتِ عن شعرائها، وشاركتِ في ثورتها، وعشتِ في صميم حركتها، وكنتِ توقّعين دراساتك باسم خزامى صبري، وكأنك كنت تخشين إعلان هويّتك واسمك. كيف تستعيدين الناقدة التي كنتها، في تلك الفترة الذهبية؟ ماذا عن خزامى صبري المتحمِّسة لثورة الحداثة وقصيدة النثر؟

كنتُ الناقدة الوحيدة، لكنني لم أكن الناقد الوحيد. كان هناك نقّاد محترَمون وبعضهم اشتُهر من خلال مقالاته النقدية في مجلّة «شعر»، أقدر أن أذكر لك ناقداً كبيراً هو- في الوقت نفسه- شاعر كبير. وقد عرّفنا نحن- المشرقيين- بشعراء عرب أفارقة كبار، وكان بالغ الكرم، لا يغفِل اسماً محتَرَماً، ويمكنك أن تراجعي أعداد مجلّة «شعر». إنه الشاعر أنسي الحاج. وبالطبع، لن أنسى الناقد الكبير والروائي والمترجم والشاعر جبرا إبراهيم جبرا، الذي أفدتُ منه كثيراً. كما أقدر أن أذكر لك الدكتور أسعد رزوق، في دراسته الشهيرة حول الشعراء التمّوزيّين، وأذكر- بكثير من الاعتزاز- الدكتور عادل ضاهر في دراسة شهيرة عن أدونيس، تتجاوز ما كتبتُه عنه. ولا يمكن أن أستقصي الآن جميع الأسماء. ربما يُذكَر اسمي، في بعض الأحيان، لأنني امرأة، وهو ما كان قليلاً أو نادراً،كما أنّ حكايتي وتغيير اسمي إلى خزامى صبري أحدث بعض الغموض.

صحيح أنني كنت حاضرة ومتابعة، وكانت مقالاتي جديدة في مقارباتها، مقروءة وذات تأثير، إذ ينبغي ألاّ تنسي أننا كنّا في معركة القصيدة الحديثة، وكنت أعتزّ عندما يقول قارىء مثقّف إنه اقتنع، تماماً، برؤيتي لقصيدة النثر، ولم يعُد معادياً لها. أريد أن أقول إنّ لي تاريخاً خاصّاً مع القراءة، بمعنى التأمُّل في النصّ وإعادة قراءته مرّات، ومساءلته، وهذا جزء من مسيرة حياتي الخاصّة.

لكنني لم أكن- رسميّاً- من جماعة «شعر». كانوا خمسة، ولم يكن مناسباً أن يكون بين هذا العدد القليل زوجان، علاوة على أن اسمي لم يكن يعني شيئاً قبل أن أكتب في المجلّة، وتُحدِث مقالاتي تأثيرها. وفي الحقيقة، لم تكن لي يومها أيّة ألقاب علمية أو أدبية. كنت قد حصلت على البكالوريا منذ وقت قصير، وأنهيت السنة الجامعية الأولى في دمشق، ثم تزوّجت وجئت إلى بيروت. 

اسم خزامى صبري ساعدني على التنكُّر في البداية، ثمّ جاءت قراءة القارىء وحكمه لدعمي.

في سؤالك الأوّل هذا مجموعة أسئلة. بدأت كتابة النقد مباشرة وبلا سابق تجربة. سمعني يوسف الخال في مناقشات مجلّة «شعر»، واقترح عليّ الكتابة. 

أريد القول، هنا، إنني في تلك المرحلة كنت أقرأ للشيخ عبدالله العلايلي، وهو- بالمناسبة- أكبر محلّل للنصّ الأدبي والنصّ اللّغوي، وأعدّه أستاذي الأوّل، قبل رولان بارت وقبل دريدا وغيرهما. إذا قرأ أو شرح نصّاً أضاءه من جهات لا تُحصَر، واكتشف فيه أبعاداً وأعماقاً، بل أقول إنه حين يكتب عن شاعر، يعيد اكتشافه؛ وهذا ما حصل في قراءته للمعرّي، مثلاً. ويصحّ هذا على ما يُعَدّ معجمه، وهو ليس بمعجم، بل موسوعة دلالية أنثروبولوجية، تعود بالمفردة إلى جذورها القديمة، من سريانية أو غيرها، وتتقصّى ما تلقّته من مؤثِّرات وما ترسَّب فيها من دلالات التعبير. ولهذا سمّى المعجم «موسوعة لغوية علمية فَنّية». وقد  أعادت نشره- مشكورةً- «منشورات دار الجديد». كلّ ما قرأته في النقد الفرنسي، خاصّة، وفي النقد الأميركي وفي النقد الإنجليزي، جاء بعد ذلك.

أمّا سؤالك عن حماستي لثورة الحداثة وقصيدة النثر، فهو سؤال ذهب عهده. اليوم، يعرف الجميع أن الشعريّة لا تقوم في الوزن أو أيّ شكل محدّد آخر؛ إنها تقوم في سحرية حركة اللّغة والمجاز، دون انفصال عمّا يُسمّى المضمون أو المعنى، بل لا وجود للمضمون قبل التعبير أو بدون التعبير؛ المضمون هو التعبير، والتعبير هو المضمون.

مروحتك النقدية كانت واسعة حقّاً، فأنت كتبت عن معظم شعراء مجلّة «شعر» الذين بدوا مختلفين، بعضهم عن بعض: أدونيس، أنسي الحاج، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، وسواهم. ما سرّ هذه الرؤية النقدية المنفتحة والمتعدِّدة المقاربات؟ كيف يمكن- مثلاً- الكتابة، بحماسة ووعي، عن شاعرين يختلفان كل  الاختلاف: أدونيس، وأنسي الحاج، لا سيّما في ديوان الأخير «لن»، حتى لتبدو دراستك عنه بين أهمّ ما كُتِب حتى الآن؟

الآن، إذ أجيب عن أسئلتك، نتكلّم عن زمن مجلّة «شعر» وبدايات كتابتي للنقد. لم أكتب عمّا لا يعجبني أو يؤثّر فيّ. وما كان يؤثّر فيّ أو يدهشني لم يكن ينحصر في أسلوب. لا أعرف إن كانت مقالتي، أو مقالاتي، أهمّ ما كُتِب عن أنسي الحاج. لقد كُتِبَتْ حوله أطروحات لمثقَّفين، لهم قيمة أدبية كبيرة. 

نجاحي في النقد يعود إلى أنني كنت قارئة، أساساً، ومنذ صغري؛ ليس بمعنى أنني قرأت كتباً جميعها مهمّة أو تحليلية، فيمكنني أن أقول إنني قرأت المهمّ وغير المهمّ. عمليّة القراءة تمتلك- في حدّ ذاتها- سحراً. وأنا، بين الثامنة والحادية والعشرين، عشت، دائماً، في مدارس داخلية بعيدة عن بلدة الأسرة، فكانت القراءة نافذتي وطريقي للسفر والحياة.  

في مدرسة داخلية دمشقية قديمة جدّاً (مكتب عنبر)، مثلاً، جدرانها شديدة الارتفاع؛ بحيث لم نكن نرى من السماء إلّا رقعة محدودة، عشت بين عمر الثانية عشرة والسابعة عشرة (1944 ـ 1949). لم أكن أعبر الباب الموصل إلى الشارع والمدينة إلّا مرّتين في السنة، ولم يختلف الأمر كثيراً بين 1949 و 1952، في مدرسة لاحقة.

في ذلك الإطار، وذلك العمر، وماضيّ الغريب، كانت القراءة ملاذي، كانت وسيلتي لثقب الجدران. لكنّ الكتب التي حرص أبي على تزويدي بها بقيت، على تنوّعها وكثرتها وأهمّيّة عدد كبير منها- دون الكفاية. هكذا، كنت أقرأ الكتاب قراءة أولى سريعة للتنفّس وملء الوقت، ولا ألبث أن أواجه الفراغ، فأعود إلى كتاب مقروء، المرّة بعد المرّة. مع توالي القراءات، كان يتراجع بُعْد التشويق وجاذبية الموضوع، ويبدأ التأمّل واكتشاف النصّ اللّغوي وأسراره، حتى أصبحت هذه الإعادات والمساءلات نوعاً من اللعب، أو الإدمان. عام (1955 ـ 1956) جاءت مرحلة تالية صعبة، وكنت في الثالثة والعشرين. فاستعنت بذخيرتي من الكتب، واستأنفت دفاعاتي القديمة.

سحر القراءات المتكرّرة  وضعني أمام نصوص تضيئني، نصوص تتوالد، وتتفتّح، وتفتتح الآفاق، وتلتقي بخفايا المنابع الشخصية والمنابع الثّقافية للكاتب والقارئة. 

هكذا، وصلت إلى بيروت في أواخر ديسمبر/كانون الأول، 1956، جاهزةً لبدء مقالاتي في نقد الشعر. في محيط مجلّة «شعر» وجماعتها واجتماعاتها اكتشفت أضواء جديدة وآفاقاً للإبداع الشعريّ والتأمّل النقديّ، ثم جاءت دراساتي الجامعية بدءاً من عام 1963.

كتبت الكثير عن أدونيس، الشاعر، والزوج، والرفيق. هل تشعرين بإحراج في الكتابة عن شخص هو شديد القرب منك؟ هل يمكن التفرقة بين الشاعر والشخص الذي هو القرين، قرين الحياة والروح؟

حين أكتب لا أخاطب صاحب النصّ، ولا أتوجّه إليه؛ تدور العملية بيني وبين النّصّ. الكتابة عن نصّ نوعٌ من التملّك والتبنّي. ولا معنى لكتابتي النقدية إذا خنتُ نصّ المبدع؛ أي خنت نصّي النقديّ الخاصّ. نصّي هو خصوصيّتي وكلمة الشرف الموجّهة لنفسي وللقارىء في وقت واحد. نصّي هو كلمة الذّات الكاتبة وكلمة الشراكة بيني وبين الكاتب والقارىء. فأنا- أيضاً- قارئة مثله، والذي يقرأ النقد لا يفعل ذلك ليتسلّى أو يطرب؛ يقرأ من منطلق المعرفة والتجاوب والمساءلة والإضاءة، وحتى الهيام. 

ثم إننا (أنا وأيّ ناقد) لا نكتب لقارىء جاهل، بل لقارىء عارف، ما يحمِّل الناقد المسؤولية عن المعرفة التي يقدّمها. وهذا النوع من الغشّ، (أعني المُحاباة أو التَّحامُل) يخون الأطراف الثلاثة: القارئ، والكاتب، والشاعر، أو- على الأقلّ- الشعر. 

ثمّ، إذا كان أدونيس سيتدخّل أو يبدي أيّ ملاحظة على نقدي لفلان أو فلان، معنى ذلك أنني أفقد صدقيَّتي، بل أفقد صوتي ورؤيتي واستقلاليّتي ومبرّر كتابتي، ويكون الأفضل أن أكتب الدراسات النظرية حول الشعر، ولا محلّ، هنا، للكلام على أمر بديهيّ، هو عزّة نفس أدونيس وترفّعه. فنحن، هنا، في ميدان المعرفة والإبداع، واحترام هذا الإبداع وصاحبه، وصيانة صدقية العلاقة بين الناقد والمبدع، هما من الأولويّات. 

وبالمناسبة، أدونيس كتب عن شعراء، مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وجورج شحادة والسياب وغيرهم، ولم يسأله أحد إن كنت أتدخّل فيما يكتب. هذا السؤال الاتّهامي يتضمّن حكماً مسبقاً بخضوع المرأة (حتى على المستوى الأدبي) للزوج، كما أنه حكم مسبق على الزوج بأنه لا يحتمل حتى الحرّيّة الفكرية لزوجته. ولستِ أوّل من طرح عليّ هذا السؤال. إنه سؤال مرفوض قطعاً، ويمسّ روعة العلاقة الإبداعية وتبادل الإضاءة بين الناقد والنصّ، كما يمسّ شخصية النّاقد.

هل أخذت على شعر أدونيس الشاعر المكرّس عالمياً بضعة مآخذ نقدية؟ هل تناقشينه في هذه المآخذ؛ هو الذي يثق بك كلّ الثقة، ويعدّك سابقة إيّاه- كما أعرف- مراراً؟

إنه «يعدّني سابقة»؛ تهذيباً، فهو رفيع التهذيب واللباقة.

أمّا عن المآخذ النقدية، فربّما أبديت ملاحظة كما يبديها أيّ صديق مخلص. ولكنني لا أمارس دوري كناقدة إلا كتابةً، كما أمارسه مع أيّ نصّ آخر؛ فكتابتي تحليلية وليست انتقادية. أنا لا أعلّم أحداً.

عندما ألقى أدونيس محاضرته الشهيرة، بعنوان «بيروت… هل هي مدينة حقّاً، أم أنّها مجرّد اسم تاريخي؟» في ملتقى «أشكال ألوان»، وأثارت جدلاً إعلامياً وآخر ثقافياً، ما كان رأيك بذلك؟ وهل وافقتهِ الرأي حينها، خصوصاً أنك تبدين مولعة ببيروت؟

ـ أدونيس- أيضاً- عاشق لبيروت، ولن أزايد عليه. وكان كلّما زار بيروت حزن للأوضاع التي ظلّت تتراجع منذ الحرب الأهلية التي لم تنتهِ عمقيّاً. أمّا تلك العبارة فكانت سوء تعبير عن الألم الشديد، لا قلّة محبّة وتقديس، بل كانت فرط محبّة. مع ذلك، حذّرتُه من أنّها لن تُحمَل على المقصود منها حقّاً، ولا يمكن أن تُفهَم بحسب غايته منها. هو أرادها صدمةً؛ فصدَمَت؛ كأنّما كان يقول: ماذا فعلتم ببيروت؟ لكن، بحسب صيغتها تلك، فُِهمت هجاءً لبيروت. وكان هناك من استغلّها وزاد في التّهويل، وبدل العتاب والتصحيح أُعلِنَت الحرب. لم يكن الزمن، يومذاك، كما هو اليوم. ربّما لو كانت قيلت اليوم (لكن ليس للكتّاب، بل للسياسيّين) لَما صدَمَت.

يتميّز نقدك  بخصائص عدّة: علميّته، وطابعه الأكاديمي، وخلفيّته الثّقافية، و- أيضاً- لغته التي تبدو أقرب إلى اللّغة الإبداعية؛ وهذا ممّا يضفي على نصوصك النقدية متعة القراءة، التي نادراً ما نجدها لدى النقّاد العرب الأكاديميّين. ماذا عن سرّ الوجه الإبداعي لنقدك؟ هل تعتقدين أنك تخفين في ذاتك مبدعة شاعرة أم روائية لم تخرج إلى العلن؟

في عائلتي شعراء. في عائلتي حبّ للشعر وللشعراء: أختي سنيّة صالح كانت شاعرة مُجيدة، وتزوّجت شاعراً مجيداً، وخالي كان شاعراً تقليديّاً، وابنة خالي أمل الشريف شاعرة كلاسيكية. والشعراء- أيضاً- عديدون بين إخوة أدونيس وأبناء إخوته و- أيضاً- والده وأخواله. والآن، هناك شاعرة مجيدة صاعدة هي ابنة أخيه، واسمها فرات إسبر، لكنني لا أرث هذه العائلة، وإن أحببتها. 

حبّي للشعر معروف؛ قرأت الشعر بانتظام منذ طفولتي، بل حاولت كتابة الشعر في عمر مبكّر جدّاً. ثم وجدت رسائلي وموضوعاتي في الإنشاء أجمل بكثير من تلك المحاولات، فتوقّفت. لعلّ ذلك الشوق أطلّ عبر النقد الذي أكتب، ثمّ إنّ حبّي للشعر وامتداد قراءته، على مدى خمسة وسبعين عاماً، وقراءة الدراسات حوله، قد ترك أثره، بلا ريب. ولا تنسي أنني لا أكتب عن شعر لا أحبّه.

هل تفكِّرين في كتابة سيرتك الذاتية التي ستكون- إذا ما كتبتِها- سيرة شاملة لمرحلة ولمكان وزمن، لشخص ولجماعة؟ لماذا لا تكتبين هذه السيرة الذاتية؟

ربّما أكتبها، إذا سمح الزمن بذلك.

 في كتابك «يوتوبيا المدينة» بدوتِ كأنك تكتبين سيرة لبيروت، مدينة الحداثة والثّقافة، مدينة التحرُّر والحرّيّة، مدينة التحوّلات والانفتاح… وبدت بيروت هي مدينتك بامتياز، وكتبت عنها أفضل ممّا كَتب عنها لبنانيون كثر. ما سرّ علاقتك ببيروت؟ هل يزعجك أن أقول عنك إنك لبنانية اكثر ممّا أنت سوريّة؟

كيف يزعجني؟ بل هذا يشرّفني. أعرّف عن نفسي بأنني لبنانية من أصل سوري. ولا أنكر أصلي، بل أعتزّ به. وفي النهاية: مَن وضع هذه الحدود؟ ولأيّة اعتبارات وأهداف؟ وبمناسبة هذا السؤال أخبرك بأنني أضع، الآن، جزءاً ثانياً من كتاب «يوتوبيا المدينة المثقَّفة»، وإذا سمح العمر سأضع جزءاً ثالثاً.

حتى كتابك القيّم عن المسرح اللبناني يكاد يكون الوحيد في تأريخ المسرح اللبناني الحديث، ونقده، وتحليله، وبدوت فيه قريبة كلّ القرب من الحركة المسرحية. لماذا اخترت المسرح اللبناني؟ هل تعتقدين أنه كان في طليعة الحركة المسرحية العربية؟

كنت، منذ ستينيات القرن العشرين، أتابع المرحلة الحديثة في المسرح اللبناني. وفي السبعينيات بدأت أكتب عن أقطاب فيها، بل كنت أُعدّ كتاباً حول المسرح، عندما كلّفتني لجنة مهرجانات بعلبك الدوليّة، بشخص السيدة الراحلة سعاد نجار، كتابة بحث حول المسرح الذي رَعَتْه، وما كان يمكن أن أقصر البحث حول مسرح المهرجانات وحده. هكذا، شملت الدراسة كل ما عُرِف بالمسرح الحديث. وصدر الكتاب الآخر، بعد ذلك، عن دار الآداب، بعنوان «الاستعارة الكبرى»، ليتناول مراحل سابقة.

خالدة السعيد من النقّاد القلائل الذين رافقوا أجيال الشعر العربي الجديد والراهن، وكتبت عن شعراء شباب، غالباً ما يقصّر النقد الشعري عن مرافقتهم. كيف ترين، الآن، المشهد الشعري العربي الراهن في ابتعاده عن منابر الشعر الريادي وبنائه أفقاً متفرّداً بلغته وأدواته الشعرية؟

لا أحبّ أن أتكلّم حول موضوع بالغ الأهمّيّة، بينما أنا عاجزة عن متابعته. إنني، الآن، متفرِّغة، تماماً، لإصدار ما تجمّع من كتاباتي. لكن الشعر يبقى ما بقي الإنسان. ولا بدّ من أن نثق بالشبّان، ولا تنسي أفواج الشاعرات الشابّات اللواتي سيحملن إلى عالم الشعر أنفاساً جديدة وذروات جديدة، كما أرجو.

–فضلتِ- بوصفك ناقدة- ألّا تدخلي في سياق النقد النسوي أو الـ «feminism»،  على خلاف ناقدات كثيرات. كيف تنظرين إلى المدرسة النسوية في النقد؟ ولماذا لم تكتبي في هذا الميدان؟

اعذريني لأنني لا أعرف شيئاً اسمه (المدرسة النّسوية في النقد)، ولا أعرف كيف يكون النقد نسويّاً أو ذكوريّاً. كبيرات النّاقدات العربيات، و- الأحرى- كبيرات النقد العربي عالمات في النقد وقراءة النصّ، وهنّ حاضرات: من لبنان وسورية ومصر والعراق وفلسطين والأردن وبلدان المغرب العربي. 

 في كتابك «في البدء كان المثنّى» تقدِّمين مقاربة فريدة، عمادها فكرة «المثنّى» في الأدب والثّقافة. ما كان الحافز الذي دفعك إلى معالجة هذه القضية؟

«المثنّى» ليس فكرة، بل طبيعة وواقع. وبكلمة المثنّى قصدت التوحيد بين الرجال والنساء. إنه الإنسان الواحد، بجنسَيْه، كما خلقه الله: بلطفٍ واحد، وحكمة واحدة، في لحظة واحدة، كنوع واحد وتكوين متكامل، وليس كائناً بمستويَيْن أو رتبتَيْن أو درجتَيْن أو فصيلتَيْن.

لو سألتك لأي شاعر تقرئين باستمرار؟ فهل يكون أدونيس؟

قرأت لكثيرين، طبعاً: قرأت لأدونيس، وهناك مَن قرأت لهم ولم يُتِح لي الزمن أن أكتب عنهم، والبركة في الناقدات والنقّاد الحاليّين والقادمين. الآن، أتفرغ لإنهاء كتاباتي قبل أن يفاجئني الحَين.

عن مجلة الدوحة الكويتية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق