لن تستطِع معي صبرا - عادل المعموري - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 13 يناير 2022

لن تستطِع معي صبرا - عادل المعموري

شراييني يغمرها دم أسود، أرفع رايتي الشاحبة دوماً كلّما هاجمتها أسراب الغربان، أحملُ غيمة معبأة بالمطر أدفع بها بعيدا نحو المنافي البعيدة، فوق صحراء الروح، تلسعني حرارة الرمل وقدمي ينبجس منها دم لزج، يصبغ حباتها الساخنة ويترك فيها خيط من هزائم تلوح في وجه الزوابع القادمة، يؤذّن صوت متعَب في مسجد المدينة، وكنيسة تقبع في جانبها الشرقي تدق نواقيسها بلا أجراس، من يعيد رسم خارطة الوطن، من يختصر المسافات ؟.الريح تدفع بالسحب المثقلة نحو البحر ..وصحراء وطني يهشمها الضمأ والجوع، قالوا أن الوقت من ذهب والذي ذهب لا يعود، تلك الذبابة الكبيرة رأيتها بعيني تمسك بعقرب ساعة أبي العتيقة، لمحتها تجاهد بصلف وهي توقف حركة أنفاسي، ضربتها حتى تهشمت الساعة كلها وتساقطت الأرقام، ولم تمت الذبابة، ياقوم ذلك الرجل يحمل حزاماً ناسفا يلف في الشوارع والميادين، اوقفوه أرجوكم ..انه يتجه صوب أراجيح الأطفال الملونة؟ أيها البدائيون من يوقف زحف الغزاة الواقفون على أسوار المدينة؟

_اطمئِن لن يدخلها غازِ أبداً ..

أجابني ذو البدلة الخاكية والنجمات اللؤلؤية التي تتربع على كتفيه وهو يلوك علكة حمراء بين أسنانه الصفراء، قال : إن بوابات المدينة كلها مغلقة، وأن الزائر و الوافد إليها ممنوع من الدخول حتى ساعة هذا الفرمان .

حنجرتي المثقوبة تعبت من الصراخ. عيني المغروسة في ثقب الجدار تختلج .كلّما مسحت عليها _تختلج _قالت لي جدتي وهي تبتسم لي بفم أدرد:

_ياولدي إذا اختلجت عينك ضع على جفنها كسرة عود صغيرة وهي تهمد..

العدو على الأبواب والنبيذ تعتّق والخل قي قارورة جدتي نضج، لا أدري لمَ كان صانع التوابيت يبتسم!، لم أره قبل اليوم يبتسم، كلما طرقَ على لوح تابوت بمطرقته ينظر نحو الأسوار البعيدة فتتوهج عينيه. صوت عربة الحوذي تصك مسامعي أسمعُ الرجل العجوز صانع التوابيت يقول للحوذي :

_إلى الآن انجزت مائة تابوت ما رأيك ؟ يضحك الحوذي ويزم على شفتيه الغليظتين مجيباُ :

_قل للفقر وداعاً ..هنيئا لك ياصاحبي !

من جوف الصحراء انبثق فارس يحمل سيفاُ وبيده الأخرى راية خضراء .. شاهده كل الناس، لم يحفل به أحد، دار بجواده الأصهب في نواحي المدينة وأزقتها وتوقف قرب صانع التوابيت، توقف الرجل العجوز عن الطرق على الخشب ورفع رأسه يحملق فيه بدهشة، تركَ المطرقة وتراجع خطوتين إلى الوراء، نظر إليه الفارس وهو يقطّب حاجبيه قائلا له :

_لمن تصنع تلك النعوش يا رجل ؟!

_سؤال غريب ..طبعاً أصنعها للموتى !

_لا تسخر عندما أتحدث معك ..

قالها الفارس ودار بجواده مرتين ثم توقف ليقول له :

_اصنع لنفسك واحدا منها ولا تفرح..

_من أنت أيها الفارس ؟

الفارس لم يجبه وارتحل صوب مسقط الشمس الآيلة للغروب، تبعته أجري خلفه،استوقفته مُقسِماً ًعليه بالرب الذي يعبده أن يستمع لي ..قال لي وهو يشير لي بسبابته :

_أنا أعرف ماذا تريد أن تقول ..ولا أرغب بحملك معي على جوادي ..ابق حيث أنت ..فلو سرتَ معي في المدن والأمصار ..لن تتحمل ما ستشاهده بعينك وتسمعه بأذنك ..لن تصبر مثلي ..ربما ستكفر وترتّد عن عقيدتك ..وداعاً ..شغلني عن متابعة هيئته وهو يبتعد بشموخ صوت تلك المرأة العجوز

، الممددة على الرصيف وهي تستعطفني مادةً يدها إلي،أطفال ثلاثة يرقدون بجانبها تطلب مني كسرة خبز،من يستطع الانسحاب من طوق الجوع من يكسر حدة الصمت المطبق ..من يعيرني حنجرته كي اصرخ ؟الجنون يحيط بالمدينة فتتهشّم مرايا الدماغ، يسيح سائل أبيض هلامي يشبه أمعاء بقرة مبقورة البطن، يملأ السائل شوارع المدينة ..الناس تهرب من الأزقة والشوارع، تتحلّق حول التلفاز، يظهر المذيع ذو البذلة السوداء وربطة العنق الرصاصية يبتسم وهو يلوك الكلمات :

_اجتمعَ مجلس النواب لمناقشة قانون حضر تدخين السجائر في الأماكن العامة والدوائر الحكومية .. وقد وافق أعضاء المجلس بالإجماع على ورقة القانون المطروحة .. ضحكت عجوز الرصيف المتسولة وأطفأت سيجارتها وهي تشير للأطفال الراقدين قربها :

_ممنوع التدخين ..أسمعتم ذلك ؟

يهّز الأطفال رؤوسهم بالايجاب .. الشرطي صاحب الكرش الضخم يصرخ بصانع التوابيت عندما رآه جالسا يدفن رأسه بين ذراعيه

_لمَ توقفتَ عن صنع التوابيت أيها العجوز الخرف ؟..إن لم تقم بعملك على أكمل وجه ساوجه لك تهمة  إرهاب حالاً ؟

سار الشرطي متجهاً صوب عجوز الرصيف ..وقف عند رأسها، يحدّق فيها وهي تدخّن سراً تحت طرف عباءتها ..لمّا رأته، جفلت، أطفات السيجارة وتضرعت للشرطي باكية :

_لن أدخّن بعد اليوم ..سامحني .

_لا أحاسبكِ على تدخين السيجارة أيتها العجوز ..ولكن أريدك ان تغادري المكان حالاً .

_لماذا ..إنه مكان رزقي ..حرام عليك ؟

_سيمرُ المسؤول من هنا بموكبه الفخم ..سيحاسبني إن رآى أحدا يتسوّل .

كيف أمحو سطور قصائدي وأوراقي لم تكتمل بعد ..من يبري لي قلمي المكسور؟ العاصفة آتية،إلى أين المهرب والريح تزمجر والناس لاهية، والجيش في انذار (ج) ليس غير هذا الفارس الذي يمتطي جوادا أصهب .. طفقتُ أبحث عن الفارس الذي كان يجوب المدينة، خطواتي في الفراغ لا تساعدانني على الركض ..ركضتُ بكل قوتي خلف الفارس الذي أراه من بعيد وهو يغادر المدينة ..شاهدته يلتفت نحوي ويشير لي بيده بعلامة نفي .كنتُ أصيح خلفه لعله يغّير رأيه ويأخذني معه ..تذكرتُ أني بلا حنجرة وأن صراخي المفترض ...كان محض هُراء !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق