برنار فيلتز[1] أستاذ فلسفة علوم الأحياء في جامعة لوفان لانوف
الكاثوليكية في بلجيكا، درس علوم الأحياء ثم حصل على دكتوراه في الفلسفة. تتعلق
أبحاثه بقضايا فلسفة العلم وعلم الأحياء على الخصوص (النظرية الاختزالية،
الانبثاقية، نظرية التطور، العلوم العصبية المعرفية) وعلى فلسفة البيئة
(الايكولوجية)، التنمية المستدامة، علاقة الإنسان بالطبيعة الخ. كما يهتم بعلاقة
المجتمع بالعلم وبالأبعاد الأخلاقية للممارسة العلمية. وهو حاليا رئيس المعهد
العالي للفلسفة بالجامعة الكاثوليكية بمدينة لوفان.
من مؤلفاته: «العلم والأحياء: مقدمة في فلسفة
علوم الحياة»، «الداروينية والخصوصية الإنسانية»، «تشظي
الطبيعة»، «بين الجسد والعقل: مقاربة متعددة الأبعاد لمشكل الجسد والعقل».
جمعتني به لقاءات ومحاضرات عن علاقة العلم بالدين، وتعامل مختلف
الثقافات مع العلم ومشتقاته، فجذبني إليه اختلافه عن أقرانه من العلماء والفلاسفة
في تحليلاته الرصينة المبتعدة كل البعد عن الوثوقيات العلموية كما عن التبسيطية
المخلة، وهو ينطلق من نزعة إنسانية متصالحة مع البعد الغيبي، لكنه، شأنه شأن كثير
من العلماء الكاثوليك، يحرص على التمييز بين “المعبد” و”المختبر”، فالمجتمع العلمي
والأكاديمي في الغرب لم يتخلص بعد من الخوف من الشنآن بين الدين والعلم الذي ميز
ماضي العلاقة بين الكنيسة والدين.
– س: أصبحت العلوم العصبية والمعرفية[2] “موضة” في عصرنا، فأينما وليت وجهك تسمع عنها، بل
إن كل العلوم بدأت تدخل عليها اللاحقة نورو فسمعنا عن: النورو اقتصاد، والنورو
أخلاق، والنورو تسويق، والنورو علم النفس، بل والنورو فلسفة، الخ حتى أن البعض لا
يتردد عن الحديث عن إمبريالية النموذج العصبي المعرفي. لا ننكر أنها عرفت تطورا
هائلا مكّنها من تحقيق تقدم يتعلق بفهم عمليات الإدراك والذاكرة واشتغال المخ، كما
أصبحت ضرورية في معالجة بعض الأمراض العصبية الخ، لكن في الآن نفسه إنها أكبر من
يجرُّنا إلى الإغراق في نوع من الحتمانية، أي الاعتقاد أننا منتوج مجموع إمكاناتنا
البيولوجية والعصبونية، وثمرة ميكانيكية لحمضنا النووي، هل توافق على هذا الحكم؟
– ج: فعلا إن اسهامات العلوم العصبية فائقة الأهمية في الثلاثين سنة
الأخيرة، فكما أن علم الجينات يشتغل على أرضية صلبة، أو على الأقل هذا ما كنا
نعتقد، فقد تبين للبعض أن الأمر ليس كذلك، وهذا أمر آخر.. وبالمثل إن تحليلا عميقا
للعلوم العصبية المعرفية يجلي لنا أنها قد أصبحت تقريبا أنموذجا (برادايم)، وأنها
رغم نزوع كثير من ممثليها إلى تفسير كل شيء عبر العصبونات كما تفضلت إلا أنها
أخيرا توصلت إلى أن اللدونة العصبية[3] هي بعد أساس في
الإنسان.
إن الدراسات الحديثة في هذه العلوم تبين لنا أن
الترابطات الدائمة والمتعددة القائمة بين الخلايا العصبية للمخ تتسم باللدونة
العصبية، وهي في تحول مستمر. فكل المسارات التعلمية على سبيل المثال تؤدي إلى
تعديلات عميقة للمحطات العصبية. على سبيل المثال بينت بعض الدراسات أن المنطقة
المسؤولة عن التحكم في اليد اليسرى داخل المخ عند عازفي الكمان يكون حجمها أحيانا
أكبر، أربع أو خمس مرات مما عليه الأمر عند غير العازفين لهذه الآلة. وهذا يعني
بصريح العبارة أن نشاط المخ يُعَدِّل من بنية المخ.
الخطاطة “الحتمانية” تقول: إن بنية
المخ هي التي تحدد السلوك الإنساني، وبنية المخ يحددها الحمض النووي.. هذه الخطاطة
لم تعد مقنعة، فعلاقة الحمض النووي بالمخ علاقة أكثر مرونة مما كنا نتصور، أما
علاقة المخ بالسلوك فهي، كما أسلفنا، ليس بالمرة كما يتصورها “الحتمانيون”:
فالسلوك له أثر ووقع على المخ. فنشاط الإنسان يُعَدِّلُ من بنية المخ.
إذا كان نشاط الإنسان يعدل من بنية المخ، فلم يعد
الحديث إذن عن الحتمانية الجذرية لسلوك المخ ثم سلوك الإنسان مستساغا. إن الشخص
الذي تعلم الفرنسية له في مخه ترابطات دقيقة مختلفة عن الشخص الذي تعلم
الإنجليزية. وفي هذا السياق، يمكننا القول، إن البنية الدقيقة للمخ هي ذاتها
“منتوج” ثقافي وبيولوجي بالقدر نفسه. وبالتالي إن أثر سلوك الفرد، أي ثقافته على
البنية البيولوجية للمخ ينقض القول بالحتمانية الجذرية. وعليه، فإن القول إن
السلوك الإنساني يتوقف فقط على البنية البيولوجية هو قول لا يمكن الدفاع عنه،
علميا، في يومنا هذا. كما أن التعلم، وليكن تعلم اللغة مثلا، هو تسجيل قواعد وإكراهات
نسق ما في البنية البيولوجية للمخ، أي إدماج جسدي للنحو ذاته، فالنحو يأتي من
الثقافة وليس من الحمض النووي.
لكن ذلك لا يؤسس بالضرورة لحرية الفعل الإنساني،
فهناك من يقول، بشكل جذري بالحتمانية الاجتماعية، التي تعمل، على حد قولهم، في
استقلال عن الحتمانية البيولوجية. لكن أرى أن هذا الموقف ليس له من القوة والضرورة
التي يدعيها أصحابه. وهناك تأويل آخر يمنح للغة دورا حاسما.
وكثير من التقاليد الفلسفية تصل بين الحرية
واللغة. وقد بينت اللسانيات وفلسفة اللغة أن اللغة تنفتح على إمكانات لانهائية من
الجمل والدلالات. إن الكائن الإنساني نسق من الاكراهات تتضمن هامشا من “المناورة”
(حرية الفعل) فبلغته، يربط الإنسان سلوكه بنسق من التمثلات عن الواقع. تلك
التمثلات تمكنه من تمديد فعله في الزمن، ومن استباق أفعال الآخرين، أو أفعال
الطبيعة، عبر مخياله، فيكون له صورة عن العالم الذي يمكن أن يبنيه. وبذلك فهو ليس
فقط يدلل على حريته، لكنه أيضا يجعل سلوكه الذي تحركه الثقافة في قلب دينامية
مشتركة تروم تطوير العالم في الاتجاه الذي يرضاه.
– س: أصبح من المسلم به في الأنموذج السائد، خاصة
في أروقة الأكاديميات، أن لا حاجة لافتراض مفهوم “الروح” حتى نفهم “الكائن”
الإنساني، بل إن بعضهم (باتريسيا شورشلاند وأتباعها مثلا) يقصي حتى ما نسميه
بالذهن والفكر، فيعتبرون أن أفكارنا ما هي إلا نتاج حفنة من العصبونات المترابطة
فيما بينها، وأن كل حديث عن “انبثاق” غير مادي هو حديث ميتافيزيقي، هل تشكل
الثنائية جسد/روح، فكر/مخ.. الخ فعلا “افتراضا” غير علمي وعائقا أمام تفسير اشتغال
الفكر والوعي؟
– ج: قضية الروح مسألة عويصة، وهي قضية فلسفية على كل حال، جاءنا مفهوم
الروح من اليونان، من أفلاطون وأرسطو على الخصوص، وقد انتشرت هذه الفكرة في كل
الثقافة الغربية، لكن يجب التنويه أن المسيحيين الأوائل كانوا ضد هذا المفهوم،
وكانوا يركزون على جسد المسيح، لكن سرعان ما عضد القديس أوغسطينوس من فكرة ثنائية
الجسد والروح، وتعزز ذلك بالتقليد الديكارتي، وديكارت كان رياضيا، وغالبا ما كان
الرياضيون ينحون هذا المنحى، وهو على كل حال تقليد أفلاطوني، أما بالنسبة لأرسطو
فالروح هي الحياة، وما هو مهم عند أرسطو وكذا القديس توما الاكويني أن الروح هي
الشكل الذي يبنين الجسد، فهي تنظيم للحياة فيه، وبالتالي فهما وحدة غير قابلة
للفصل، وإن كان الأمر لدى الأكويني أكثر تعقيدا، لكن المحرك الأساس لهؤلاء للاحتفاظ
بمفهوم الروح كان هو تأسيس الكرامة الإنسانية، والحداثة على ما يبدو عوضت مفهوم
الروح بمفهوم الحرية لتأسيس هذه الكرامة، وكذلك مفهوم الوعي، وأنا معك أن كثيرا من
المشتغلين بالعلوم العصبية يغيب عنهم هذا الأفق، نظرا لغلبة النزعة العلموية وكذلك
غياب التكوين الفلسفي المتين عند أغلبهم. ومن هنا أهمية الإنصات الدقيق لما يدور
في أروقة هذه العلوم واستثمار نتائجها فلسفيا لتأسيس الكرامة الإنسانية الغير
مرتبطة بالضرورة بمفهوم الروح بالمعنى الكلاسيكي، بل إن دفع النزعة الحتمانية
ونقدها من شأنه في رأيي أن ينقذ كرامة الإنسان، أولا لأن ما توصلت إليه هذه العلوم
نفسها، كما أسلفنا، لا يسمح بنفي الحرية ومن ثم الكرامة عن الإنسان، وثانيا إننا
إن توقفنا عن الدفاع عن حرية الإنسان فما فائدة التفلسف والفلسفة؟
– س: تشرح في أحد بحوثك أنه إزاء العلوم العصبية
المعرفية، تحافظ كل العلوم الإنسانية على شرعيتها على الأقل للتفكير في الأخلاق،
ما هي حدود هذه العلوم في رأيك؟
– ج: نعرف أنه كلما جاء علم جديد أو نظرية جديدة وحقق بعض النجاح سرعان
ما يسرع إلى ادعاء فهمه: ما هي الطبيعة الإنسانية؟ هذا ما ادعاه بعض المتحمسين عند
بداية علم الوراثة والجينات، وخصوصا عند اكتشاف الجينوم، وكل ذلك يتبدى لنا اليوم
غاية في السذاجة. وهذا الأمر حدث مع العلوم العصبية أيضا كما حدث مع التحليل
النفسي الفرويدي، ففرويد انطلق من فرضية انعدام الحرية عند الإنسان. لكن هذا لا
يعني أن فرويد لم يقل أشياء مهمة تؤخذ بعين الاعتبار. وأروع ما في الأمر أن العلم
يحدد هو نفسه حدود منظوره، وهذا واقع مع العلوم العصبية المعرفية، فهي تدرك، يوما
بعد يوم، التعقيد الذي عليه طبيعة الإنسان وبالتالي حدود النظريات التي تصاغ
لفهمها. وهذا ما يشكل غنى ما قدمه العلماء الذين أتناول ابستمولوجيا نظرياتهم بالنقد،
هو أنهم علماء في غاية الكفاءة لكنهم هم أنفسهم يحددون لك محدودية منظورهم أو وجهة
نظرهم. فكل واحد يساهم بطرف من المعرفة لكن لا أحد يأتي بكل المعرفة، وهذا ما كان
أساس أزمة الأسس في العلوم في القرن العشرين، أي أن كل علم يأتي بما لديه لكن يبقى
المنظور دائما جزئيا، فخذ على سبيل المثال نظرية التطور: إنها تفيدنا حول تطور
الجانب الحيوي في الطبيعة، لكنها لا تقول شيئا فيما يخص سؤال المعنى، فقضية المعنى
لا تعني كثيرا نظرية التطور، وهذا ما يدفع الفيلسوف إلى الدلو بنظره بطريقته
الخاصة.
– س: يروم كثير من المشتغلين في هذه العلوم وفي
العلوم الحيوية عموما النزعة الاختزالية التي تتغيا تفسير كل نظريات ومفاهيم حقل
معين بنظرية تكون أعم منها وأساسا لها، من هنا محاولة تفسير الوعي بالبيوكيمياء
الخ، هل فعلا استطاعت الاختزالية تفسير اشتغال الوعي والفكر على هذا النحو؟
– ج: من بين الطرق التي يمكن أن
نقارب بها موضوع الاختزالية في البيولوجيا، هناك مفهوم الوظيفة. إن هذا المفهوم هو
أحد المفاهيم المهمة في البيولوجيا: كل عضو له وظيفة في النسق المنظومي الحيوي،
وهذه الوظيفة هي ما يفسر وجود ذلك العضو. فالرئتان لهما وظيفة ضمان التقاط
الأوكسجين، والقلب وظيفته ضمان دوران الدم وجريانه، فالحديث عن الوظيفة غايته
مكانة عضو ما في الاشتغال العام للنسق الحيوي للجسم. فالتقويم بالوظيفة هو تقويم
غائي يجعل اشتغال الجزئي ثمرة لاشتغال الكل.
السؤال الذي يطرح: هل بالإمكان تحويل التفسير
الوظيفي إلى تفسير ميكانيكي؟ هذا أحد رهانات البرنامج الاختزالي.
روزنبرج[4]، في كتابه “بنية العلوم البيولوجية” يتناول هذا السؤال انطلاقا من
تحليل مفصل لبنية الصبغ الأحمر الحامل للأوكسيجين (الهيموجلوبين). فهو يصف أولا ما
يسميه منطق التفسير الاختزالي: فوظيفة البروتيين مثلا هي ثمرة بنية البروتيين،
وبنية البروتيين هي ثمرة سلسلة الأحماض الأمينية التي تكوِّن هذا البروتين، و
سلسلة الأحماض الأمينية هي ثمرة متوالية النوكليوتيدات[5] في الحمض النووي.
بناء على هذا الوصف يمكن القول إن وظيفة البروتيين قابلة للتفسير بشكل تام انطلاقا
من المستوى البيوكيميائي (الحيوي الكيميائي). ويمكن بالتالي الحديث عن تفسير
اختزالي يؤدي إلى حتمانية بيولوجية جذرية.
وهذا بالتحديد ما يمكن ملاحظته في حالة
الهيموغلوبين. فمتوالية الأحماض الأمينية تحدد شكل الجزيئة. وهذا الشكل يفسر خاصية
قبض الأوكسيجين الخاص بالجزيئة. فالوظيفة ههنا مفسرة بشكل تام بالبنية
البيوكيميائية. وههنا نكون أمام تفسير اختزالي. فخصائص الأجزاء تفسر تماما خصائص
الكل.
فماذا عن قضية الاختزال فيما يخص علاقة الجهاز
العصبي والوعي؟
ما تُعلِّمنا نظرية اصطفاء المجموعات العصبونية[6] لجيرالد إيدلمان،
هو أهمية التمييز بين وجهة نظر التزامنية (السانكرونية) ووجهة النظر التعاقبية
(الدياكروني). في لحظة معينة من المقبول القول إن الفكر هو نتاج المخ، فاشتغال
الكل يفسر باشتغال الأجزاء. وههنا يكون للتفسير الاختزالي وجاهته. لكن ما الذي
يحدث إذا طرحنا مسألة أصل بنية المخ.
في هذه النقطة، تلتقي نظرية اصطفاء المجموعات
العصبونية مع المنظور المرتبط بالذاكرة في سياق اللدونية العصبونية في التدليل على
أن اشتغال المخ له أثر على بنية المخ نفسها. فهناك إذن عكس للعلاقة بنية- وظيفة.
فإن جاز لنا، في حالة الهيموغلوبين، تفسير
الوظيفة بالبنية، فإن ظواهر التعلم عند الجنس البشري وعند الثدييات العليا تقودنا،
بالعكس، إلى القول بانعكاس العلاقة بين البنية والوظيفة: فاشتغال المخ هو الذي
يحدد بنيته النهائية. وهذه النتيجة في غاية الأهمية الفلسفية.
فكما أشرنا سابقا
إن تعلم اللغة الفرنسية مثلا يؤدي إلى بنية دقيقة مختلفة للمخ في حالة تعلم
الإنجليزية أو الصينية الخ.
وهذا يقودنا الى القول لا شك إن المخ هو منتوج
البيولوجيا لكنه أيضا منتوج الثقافة، فبنية مخ كل فرد مرتبطة بتاريخه الشخصي
المنخرط في ثقافة معينة. من هنا أهمية الحديث عن المخ كثمرة بيولوجية ثقافية.
– س: نلاحظ أن الأنثروبولوجيا الفلسفية كثيرا ما
تسترق السمع إلى ما يجري في بيولوجيا الوعي، أو العلوم العصبية المعرفية، بل إن
صدى نتائج كثير من التجارب والنظريات سرعان ما يحط رحاله في ساحة بعض الفلاسفة،
وغالبا ما يكون ذلك في إطار الاختزالية والحتمانية، فيتساءل المرء حينئذ هل لا زال
للفلسفة قول، وهل ما زال لها ما تضيفه أم أنها أصبحت كما كان يحلم بعض الوضعانيين
بسطا للعلم في لغة فلسفية؟ أو كما تقول شورشلاند يجب إعمال مبضع العلوم العصبية
حتى في الفلسفة ذاتها (وهذا ما سمته “النورو فلسفة”)؟
– ج: أولا ليس كل البيولوجيين اختزالين، على الأقل بالمعنى الجذري، وليس
كلهم حتمانيين، وليس كل الفلاسفة أتباع لطفاء للنظريات العلمية. صحيح أن العلاقة
بين العلوم العصبية المعرفية والأنثروبولوجيا الفلسفية تشكل أحد القطاعات الأكثر
نشاطا لفلسفة العلم المعاصرة، وتسمى أحيانا فلسفة العلوم المعرفية. إن مفهوم الوعي
يتخذ فيها دورا مهما، خاصة في البلدان الأنجلوساكسونية حيث هناك أدبيات وكتابات
هائلة لا تعد ولا تحصى حول مختلف الموضوعات المتعلقة بمشكل الوعي أو ما يسمى بمشكل
علاقة الذهن بالمخ أو الجسد.
إن المحاولات الأكثر جدية في المجال هي من قدمت
نظريات تتجاوز النزعة الاختزالية الراديكالية، والحتمانية الجذرية الميكانيكية.
– س: في بحوثك الأخيرة تقدم خطاطة تاريخية لعلاقة
الإنسان بالطبيعة في الفلسفة الغربية منذ ديكارت، ويتضح من ذلك أن تلك العلاقة لم
تكن دائما على المنوال نفسه، ما هي ملامح هذه العلاقة؟
– ج: إن احترام الطبيعة ظهر كاكتشاف للأيكولوجيا المعاصرة. في الواقع،
إنه بالنسبة للعلم الغربي، الطبيعة، حية أو جامدة، دائما كانت موضوعا يجب الهيمنة
عليه وإحكامه. فالعلم يروم إحكاما تاما للطبيعة خدمة للإنسان. في هذا المنظور، الإنسان
وحده يستحق الاحترام. فالإنسان ينتمي إلى عالم الأشخاص بينما الطبيعة تنتمي إلى
عالم الأشياء ولا تستدعي أي احترام. كنت في مؤتمر فيه جمع من الأطباء والفلاسفة
فتفوَّه أحدهم بهذا التعبير “ضرورة احترام الطبيعة”، وفي التو رد طبيب كان رئيس
نقابة الأطباء في بلجيكا: أنا أمضيت أربعين سنة من حياتي أجاهد ضد الطبيعة، ضد
الأمراض والأسقام التي تأتي بها الطبيعة، فلا أفهم كيف أحترم شيئا أناضل ضده
وأقاومه.
فقبل ديكارت، قبل انبثاق ما يخصص الحداثة، أي
الذاتية والفكر العلمي، كانت علاقة الإنسان بالطبيعة تصدر عن رؤية أرسطية لعالم
غائي، وفي العصور الوسطى كانت غائية إلهية تخاطب الإنسان عبر الطبيعة. كان ذلك
لطيفا لكنها رؤية تجعل الإنسان تبعا لسر ما، والإنسان ليس لديه الحق في الكلام في
هذه الرؤية. من هذه الزاوية، إن الفكر العلمي، رغم أنه أزال سحر القداسة عن
العالم، لكنه حرر الإنسان، إنه أكثر اطمئنانا أن يعرف أن الإعصار ظاهرة فيزيائية
وليس من صنع الآلهة، وأن الطاعون ليس عقابا من الله لكنه ثمرة بكتيريا معدية، طبعا
هذا لا ينفي الإيمان بالله فذلك أمر آخر.
فالعلم، منذ ديكارت، يرى أن الطبيعة –مثل جسد
الإنسان أيضا- موضوعا. فالطبيعة بالنسبة إليه ليست إلا مادة. ولم نخرج بعد من هذه
الرؤية للأشياء. انضاف إلى هذا التشيء للطبيعة ظهور الصناعة والعلاقة الاستهلاكية
بالطبيعة، حتى وصلنا في أواخر القرن العشرين لكبرى الضيعات لتربية المواشي بشكل
مكثف، إلى الزراعة المكثفة، والمواد المعدلة جينيا، وهذه المواد المعدلة جينيا هي
النموذج الأمثل لعلاقة الإنسان بالطبيعة المنزوعة السحر والقداسة. فانظر إلى علماء
الجينات وعلماء الأحياء، إنهم يلهون بالجينات كما يلهو الأطفال بلعبة الليغو.
– س: إذن كيف وصلنا؟ إلى مقولة احترام الطبيعة؟
إن الأيكولوجيا المعاصرة عدّلت العلاقة مع
الطبيعة في اتجاهين: من جهة باكتشاف مفهوم “الايكوسستام”[7] النظام البيئي، ومن جهة أخرى بالوعي بمحدودية المخزون. فمفهوم
“النظام البيئي” يبين علاقات التبعية القائمة بين الأجناس ومحيطها وبين الأجناس
بعضها ببعض. الأيكولوجية النظامية مكنت من ظهور رؤية للإنسان له علاقة ترابط
وتبعية متبادلة مع باقي الطبيعة، فالإنسان يعدل من الطبيعة لكنه تبع لها ومرتبط
بها أيضا.
من جهة أخرى، من أهم ما أتت به الأيكولوجية
العلمية إثبات محدودية مخزون الموارد وأيضا خطورة النشاط الإنساني على هذا
المخزون. فإمكانات كوكبنا ضخمة لكنها ليست لانهائية، سواء فيما يخص الطاقة، أو
الموارد الطبيعية أو الفضاء. علاوة على ذلك، إن الأرض لا يمكنها أن تتحمل إلى ما
لا نهاية عواقب النشاط الإنساني: القضاء على التعددية البيولوجية، جودة الماء،
التلوث، الاحتباس الحراري الخ.
الإيكولوجيا العلمية تستلزم علاقة جديدة للإنسان
ببيئته. فالطبيعة ينبغي أن تحترم، أي أن الإنسان يجب عليه أن ينتبه لأثر اختياراته
ونشاطه على البيئة، كما ينبغي عليه أن ينحو نموذجا حياتيا ملائما، فوفق هذه
الرؤية، يكون احترام الطبيعة منبثقا عن رؤية وظيفية للطبيعة.
فالوعي بهذين الأمرين: ترابطُنا وتبعيتُنا
للطبيعة أولا ومحدودية المخزون ثانيا، يحتم علينا بناء رؤية أكثر شمولية ونسقية من
الرؤية الوظيفية. فالمشاكل البيئية لم تقف عند حدود الدول (تشرنوبيل مثلا).
فالرهانات البيئية لم تعد قابلة أن تدار في إطار الحدود الإدارية التقليدية. يجب
أن نعمل على مستوى الكوكب. كما أن وعينا بالزمن يجب أن يتغير: فالأخذ بالاعتبار
الأجيال القادمة يجب أن يتجاوز الحسابات الانتخابية المحدودة زمنيا. فرجل السياسة
الذي يريد أن يدير بلدا اليوم، دون الأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي سنتدفأ بها
سنة 2050 هو سياسي غير واع وغير كفؤ.
– شكرا لك أستاذ برنار.
– شكرا لك على تلك الأسئلة المهمة التي طرحتها.
__________________________________
[1] Bernard
Feltz
[2] Neurocognitive science
[3] Neuronal plasticity
[4] A.Rosenberg, The structure of Biological Science, Cambridge
University Press, 1985.
[5] Nucléotide
[6] Neuronal group selection theory
[7] Ecosystème
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق