حول الكتاب
نقدم من خلال هذه الورقة كتاب
"لأن الإنسان فان، الطب وما له قيمة في نهاية المطاف"، لصاحبه أتول
غواندي Atul Gawande، وهو طبيب جراح، وأستاذ بكلية الطب بهارفرد، من مؤلفاته المنشورة
نذكر: "المضاعفات"؛ "أفضل"؛ و"بيان قائمة
المراجعة"، وقد تُرجم الكتاب موضوع ورقتنا من قبل الباحث عبد اللطيف الخياط،
وصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، ضمن سلسلة عالم المعرفة،
خلال شهر فبراير سنة 2019
يتكون الكتاب من ثمانية فصول، مسبوقة
بفصل تعريفي، وتلحقها خاتمة، يقع في حوالي 300 صفحة من القطع المتوسط. اختار
المؤلف لكل فصل عنوانا بلاغيا يعبّر عن مضمونه. أما بخصوص لغته، فهي بسيطة، لأنه
أشبه بسيرة مهنية للمؤلف، حيث يستخلص، بوصفه طبيبا، عبرا متعلقة بأسئلة شبه
فلسفية، من قبيل: الموت، الشيخوخة، المرض، العلاقات الأسرية...إلخ.
الفصل
التعريفي: الموت آت لا مفر
بدأ أتول كتابه بفصل تعريفي أكد فيه
أن الطب فشل في إنقاذ المرضى؛ فالحياة ما هي إلا سير محتم نحو الموت، وعن ذلك
يقول: "إن للحياة وجها مأساويا لا فكاك منه، وهو أننا نتقدم في العمر منذ
ولادتنا". إننا باختصار مخلوقات تشيخ وتموت، والطب يقف مكتوف الأيدي أمام هذه
الحقيقة المطلقة. ونلاحظ هنا أن الكاتب يحاور القراء المحتملين، مؤكدا أنه لا يقدم
نظرة تشاؤمية للواقع، بقدر ما يتحدث عن واقع موجود بالفعل، لكننا نتغافل طلبا
للراحة النفسية، ولكن هيهات!
الفصل الأول: الذات المستقلة
حاول أتول في هذا الفصل أن يُبكت
فكرة استقلالية الذات، فنحن كائنات تحتاج، ويظهر هذا الاحتياج بشكل ملفت للانتباه
خلال مرحلة الشيخوخة، حيث يصير المرء في حاجة إلى من يساعده على تناول الأكل،
وارتداء الثياب والاغتسال...إلخ. هكذا يظهر أن التغني بالفردانية في المجتمعات
الغربية ينعكس سلبا على كبار السن، عكس ما كان عليه الأمر قديما، حيث يحظى الشيوخ
بمكانة اعتبارية مميزة. أما اليوم، فالناس ينكرون أعمارهم مخافة أن يُبتعد عنهم.
لقد كانت العائلة الممتدة قديما مؤنسا للشيخ، بل إنه مدبر شؤونها إلى آخر يوم في
حياته. أما اليوم، فالطب يحاول أن يلعب دور العائلة، دون أن يكون هو الآخر قادرا
على نفي حقيقة الشيخوخة ومن ثمة الموت.
الفصل الثاني: الأشياء تتداعى
يعترف أتول في بداية هذا الفصل أنه
بفضل الطب تم القضاء على مجموعة من الأمراض التي كانت تهدّد حياة الإنسان، وصار
الناس يموتون في أغلب الحالات بفعل الشيخوخة، وليس بفعل أمراض مزمنة، وهكذا لا
تكون الحاجة إلى المساعدة علامة ضعف، بل هي واقع ينبغي الإقرار به؛ غير أن
الشيخوخة تقدم نفسها كواقعة كلية، فهي تشمل العظام، والأسنان، والسمع
والبصر...إلخ، وقد يكون بإمكان الإنسان مستقبلا أن يقاومها في كليتها، حيث إن
العناية الطبية المتتالية بالأسنان منذ الطفولة، تجعل الشيخ بأسنان شاب، ولو شمل
هذا الأمر جميع مكونات الجسم، قد نصل في نهاية المطاف إلى القضاء على الشيخوخة
وإطالة العمر. ولكن هل نستطيع إيقاف الشيخوخة، وهل سننجو من الموت!؟
الفصل الثالث: الاعتماد على الغير
يكشف أتول من خلال تجربته في ميدان
الطب ومن خلال يومياته الحياتية، أن ما يرعب الشيوخ ليس هو الموت نفسه، وإنما هو
ما يحدث قبل الموت، أو لنقل حلول فكرة الموت في ذهن المحيطين بالشيخ قبل موته؛
فالواقع الغربي يحكمه منطق التخلي عن المسن، وإيداعه دور المسنين، وهذا ما يثير
الرعب في نفس كل من تقدم به العمر، ولم يعد قادرا على مباشرة حاجاته بنفسه. الأخطر
من ذلك، هو أن دور المسنين وأقسام المستشفيات التي تتكلف بهذه المهمة لم توجد من
أجل المسنين أنفسهم، بل وجدت من أجل أبنائهم، كما أن الربح لديهم يتحقق بموت
المسن، وربح سرير إضافي.
إن التفكك الأسري الذي قاد إلى ظهور
هذه الدور، لا يجعلها تعوض الدفء الأسري؛ فمن الثابت أن وجود الشيوخ داخلها لا
يزيدهم إلا إحساسا بالاقتراب من النهاية، وهكذا فذهنية الشيوخ يطغى عليها نوع من
التشابه بين هذه الدور والسجون، كما أن القائمين بها يهتمون بالنزيل من حيث هو
جسد، لا من حيث هو روح وإنسان، مهمتهم أن يأكل ويشرب، ويلبس، لكن أين دفء الأسرة!؟
الفصل الرابع: بذل المساعدة
يظهر أن المساعدة التي تقدمها دور
المسنين حسب أتول مساعدة مبتذلة، المهم فيها هو الابن قبل الشيخ (الأب)، والهدف
منها ليس إنسانيا بالدرجة الأولى، وإنما هو هدف ربحي، فالنزيل هنا ليس غاية وإنما
هو مجرد وسيلة من أجل جني المال، والدليل على طابعها اللاإنساني هو أن المسن ليس
هو من يقرر الذهاب إليها. إنها قائمة أساسا على الجبر والاستقطاب القهري من خلال
إغراء الأبناء في ظل مجتمع فرداني متفكك أسريا.
إن العائلة الممتدة هي المنقذ الوحيد
من هذا الوضع، ولكن للأسف قضينا عليها، ومما يدل على دور العائلة المحوري، هو أن
الشيوخ الذين لا يقذف بهم في دور المسنين هم أولئك الذين لهم أكبر عدد من الأبناء،
خصوصا الإناث، ومعنى ذلك أنه كلما كانت الأسرة نووية، كلما كانت نهاية الشيخ أتعس.
إن السمة الغالبة على العصر هي أن
الأجيال باتت تعيش مستقلة عن بعضها، كما أن الإنسان يدرك متأخرا أن القيمة
الحقيقية للحياة تكمن في الصحة، لكن هذه حقيقة يتم إدراكها بعد فوات الأوان، فكلما
انهارت الصحة تلاشى الطموح.
الفصل الخامس: حياة أفضل
سيخصص أتول هذا الفصل، ليؤكد أن
القوانين الصارمة والرتيبة المعمول بها في دور المسنين، غايتها تسهيل مهام
القائمين على هذه الدور وفق نمط اعتيادي. لكن ماذا عن العجوز؟ إنه أشبه بالمسجون.
من الضروري أن يقدم الطب بديلا لدفء
العائلة المتفككة، بأن يركز على الروح أكثر من الجسد. علينا أن نجعل حياة نزلاء
دور المسنين أفضل، بأن نترك لهم حرية التخطيط ليومهم، وبإدخال بعض العناصر
الحياتية على نمط عيشهم، كالحيوانات الأليفة والنباتات، لكي تكسر الحاجز الواقع
بين المصحة والبيت. وهنا تحضرني التجربة الفريدة في دمج دور الأطفال المتخلى عنهم
بدور المسنين، حيث يقدم الحل نفسه كدمج لما كان يعتبر مشكلتين مختلفتين، يرعى
المسنون الأطفال، وفي نفس الوقت ندخل البهجة والسرور إلى نفوسهم.
إن الطب يتحرك في حدود ضيقة جدا،
بإهماله لحياة الروح، والتركيز على حياة أعضاء الجسد حسب التخصصات الطبية. إن
الموت حاصل لا مفر، وما يمكن تقديمه حقيقة ينبغي أن يتوجه صوب الروح لا صوب الجسد.
الفصل السادس: التخلي
إن الاهتمام الطبي الزائد بالمسن
يشعره حسب أتول بأنه يقترب من النهاية، وربما يكون العلاج في التخلي؛ فالمرء يعيش
حياة أطول عندما يقل اهتمامه بأن يعيش حياة أطول. الأكثر من ذلك، أن تكاليف العلاج
والمتابعة الطبية الباهظة تسبب أزمة أخرى للمريض تسرع شيخوخته.
إن القيود الطبية الكثيرة لا تحدد
متى يكون الموت تحديدا دقيقا؛ فالأطباء دائما يجدون ما ينبغي فعله للمريض، إذ ليس
لهم جواب محدد عن سؤال متى تأتي الموت؟ وهكذا فاستسلام المسن للطبيب يجعله يؤجل ما
كان من الممكن أن يفعله من أجل حياة أفضل، فيموت وفي نفسه حاجات.
الفصل السابع: محاورات صعبة
يبدأ أتول هذا الفصل بحديثه عن حوار
دار بينه وبين أطباء أفارقة، حيث قدموا له تصورا مخالفا لما عهده عن المرضى؛
فالمسنون الأفارقة لا يأتون أصلا إلى المستشفى، إذ نجد لديهم إقرارا بأن الموت
واقع لا محال، والتعايش مع هذه الحقيقة قد يكون مصدرا للسعادة، فهؤلاء لهم خيارات
بديلة أفضل من المكوث في مصحة أو دور المسنين.
لابد إذن من أن تترك للمريض الفرصة
لتطوير فكرة حول ما تعنيه الحياة وما يعنيه الموت، دون أن نضعه ضمن قالب جاهز
لتصور معناهما. إن تجربة التحاور مع المريض والإصغاء إليه غالبا ما تضع الطبيب في
حرج، إذ نجد لديه ما هو أفضل مما نسعى إلى تقديمه له. إن حفظ الإنسانية للمريض
رهين بحرية اختيار ما يكون حتى لو كان أمام الطبيب، وعلى مقربة من الموت.
الفصل الثامن: امتلاك الشجاعة
بدأ أتول هذا الفصل الأخير باستحضار
السؤال المحوري لمحاورة لاخيس Laches، لصاحبها أفلاطون Platon؛ أي سؤال ما الشجاعة؟ لكن هذه المرة ليس بالانطلاق من واقع
الجنود، بل بالانطلاق من واقع المرضى والمسنين، وانتهى أتول إلى القول إنها الجرأة
على مواجهة حقيقة الموت، ثم الجرأة على التصرف والفعل، رغم هذه الحقيقة المكتشفة،
إنها صبر وتكيف.
هنا قد تكون تجربة الموت الرحيم أو
الموت بكرامة؛ أي الموت الذي يتم برعاية الأطباء وبمساعدة منهم، شكلا من أشكال
الجبن وليست الشجاعة مثلما يُعتقد؛ فالشجاعة هي فن الفعل الحكيم المفعم بالأمل،
والطب بذلك قد يقتل الأمل.
الخاتمة
لا يسعني إلا أن أختم بشذرة اختار
أتول أن تتخلل خاتمة كتابه الجميل، وفيها: لقد أخطأنا في تحديد طبيعة عملنا بوصفنا
أطباء، فقد اعتقدنا أن عملنا هو أن نضمن صحة الناس وبقاء حياتهم. غير أن مهمتنا في
الواقع أكبر من ذلك بكثير. إنها تمكين الناس من الحياة السعيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق