الحاكم
الطاغية لا يطغى من تلقاء نفسه؛ بل المجتمع المغيَّب هو الذي يصنع طاغيته، ثم
يُطْلِق يده للعبث بمقدَّراته، والاستخفاف بأبنائه، الذين ينقسمون إلى قسمين؛ قسم
لا يعرف إلا الخضوع والاستسلام ويبحث عنه حيثما كان، والقسم الآخر لا يعرف إلا
العزة والكرامة والحق والعدل؛ وفي تلك المجتمعات تكون الغلَبة في معظم الأحيان
للقسم الأول، الذي ينتمي إليه كثير من أبنائها، إن لم يجدوا طاغية يسومهم سوء
العذاب؛ صنعوه بأنفسهم، فمنهم يستمدُّ الطاغية وجوده، وبهم يستعين على بقائه، وفي
المقابل ينْعمون هم بنَيْل ما ليس لهم من سلطة ونفوذ وعيشٍ رغدٍ لا يستحقُّون
شيئًا منه ولا يملكون شيئًا من مقوِّماته؛ إنما يحصلون عليه بمباركة طاغيتهم، الذي
يشكِّل منهم حاشيته التي تخدمه وتجعل من نفسها نارًا موقدةً ضد من يعارضه.
والمتأمل في
تاريخ الإنسانية؛ يجد أن الحاكم الطاغية لا يستطيع أن يكون طاغية أو يستمر في
طغيانه إلا بدعمٍ من أمثال هؤلاء المشار إليهم في السطور السابقة؛ ومن الشواهد على
ذلك قول الله تعالى عن فرعون في قصَّته مع نبي الله موسى عليه السلام: (قَالَ
لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [الشعراء: 34-
35]؛ فإن فرعون -على جبروته وقوَّته- قال لهم: (ماذا تأمرون؟)؛ فهو ينتظر
رأيهم ويجعله أمرًا مطاعًا يقوم بتنفيذه، في حين أنه هو الحاكم؛ وقال الله تعالى: (وَقَالَ
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:
26]؛ يطلب منهم -وهو الحاكم- أن يتركوه ليقتل موسى -عليه السلام- فكأنه بحاجةٍ إلى
إذنهم في ذلك، كما أنه جعل علَّة رغبته في قتله؛ خوفه عليهم أن يبدِّل موسى -عليه
السلام- دينهم، وكأنه يريد أن يقتله من أجلهم، فقال لهم ذلك لكسبِ تأييدهم، وفي
هذا كله دليل على أنه لا يستطيع أن يُقْدم على أمرٍ دون مشورتهم وإذنهم.
كما تؤكد الشواهد
أيضًا أن أولئك الأتباع الذين يحعلون أنفسهم خدمًا للطاغية وعونًا له على طغيانه؛
هم الذين يزيِّنون له الفساد في مواقف كثيرة، ربما كان له فيها رأيٌ آخر أو لعلَّها
لم تخطر له ببالٍ أصلًا، وهم بذلك يعملون على زيادة أعدائه ومعارضيه؛ حتى يُظهِروا
دورهم في محاربتهم نيابةً عنه؛ لأن بقاء نفوذهم مرهون ببقاء طغيانه، فهم الذين
يسوِّلون له مِن الشَّرِّ ما يرون فيه مصالحهم؛ قال الله تعالى: (وَقَالَ
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف: 127]؛ فهم الذين
يزيِّنون لفرعون كراهة موسى -عليه السلام- وأغْرَوه به حين قالوا له: (وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ)؛ وإنما قالوا له ذلك حتى يضمنوا استجابته لمكرهم.
أما الحاكم القوي فشأنه يختلف عن ذلك تمامًا؛ لأنه يتعامل
بمنطق القوة وليس الطغيان، قال تعالى عن بلقيس في قصتها مع نبي الله سليمان عليه
السلام: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ
قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ
وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا
أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُون) [النمل: 23- 35]؛
فإن بلقيس طلبت من قومها الرأي، مؤكدة لهم أنه ليس من عادتها أن تقطع أمرًا
دونهم، فهي قوية في نفسها وفي رأيها، لكنها تحترم قومها وتحب أن تعرف موقفهم، أما
هم فأكدوا لها قوَّتهم وبأسهم ثم أسلموا لها الأمر وتركوا لها الرأي، فلما أرادت
أن تُبدي رأيها؛ بدأت بتقديم سبب ذلك الرأي، ثم أعقبت توضيح السبب بذِكرِ الرأي، فهي
مثال للحاكم القوي في حكمه، الأمين في شؤون رعيَّته.
والفارق واضح بين المثالَيْن؛ فإن الحاكم الطاغيىة
-المتمثل هنا في فرعون- قد أهلكه الله هو وجنوده؛ قال تعالى: (فَأَرَادَ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) [الإسراء:
103]، أما بلقيس -مثال الحاكم القوي- فقد هداها الله إلى الحق واتَّبعت نبيَّ الله
سليمان -عليه السلام- قال تعالى: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل: 44]
ومثال الحاكم
الطاغية وحاشية السوء، منتشر في هذا العصر في كثيرٍ من بلدان العالم، ولا سيما
بلداننا العربية، التي تناسَتْ أمجادها السابقة، وألقَتْ مقدَّراتها في أيدي أنظمةٍ
ليس لديها شيء من مقوِّمات القيادة، ومن يتأمل يجد أن حاشية السوء الذين يصنعون
أولئك الطغاة في هذا العصر هم أناس فشلوا في تحقيق طموحاتهم بطرق مشروعة، فسارعوا
بإلقاء أنفسهم بين أيدي طغاتهم، الذين رحبوا بهم كجنودٍ متطوعين لخدمتهم، ثم
أكسبوهم شرعية الدفاع عنهم ضد معارضيهم، فأغدقوا عليهم الجاه والمال، وأسَّسوا لهم
مؤسسات ثقافية واجتماعية واقتصادية يتكلمون من خلالها ويستقطبون بها المتطوعين
الجدد، وأطلقوا أيديهم في ارتكاب جرائم وإساءاتٍ في حق المعارضين الذين يَنشدون
الإصلاح.
وبعد ثورات الربيع العربي، التي باءت بالفشل بسبب
التخطيط العشوائي لها واختراق صفوفها من قِبَل الأنظمة التي اندلعت هذه الثورات ضدها؛
بعدها ازدادت في الدول ذات الأنظمة السياسية المستبدَّة، أعداد المؤسسات الثقافية
الخاصة وتنوعت أنشطتها، وادَّعت هذه المؤسسات في بدايتها أنها تسعى إلى النهوض
بالعملية الثقافية ونشرِ الوعي وتكريم المبدعين وغير ذلك من شعاراتها التي أطلقتها
آنذاك، وبعد وضوح فشل تلك الثورات العربية؛ أعلن كثير من هذه المؤسسات فخرها
واعتزازها بمساهمتها في القضاء عليها، ولا شك أن بعض هذه المؤسسات تلوِّن جلدها
وتغيِّر مواقفها بحسب ما تقتضيه الحال وما يتوافق مع مصالحها الخاصة، وبعضها تم
تأسيسها ابتداءً لخدمة الطغاة كيفما كانوا، لكن يبقى أنه في النهاية جرَف التيار
معظم هذه المؤسسات وأصبحت تتكلم باسم الأنظمة الحاكمة وتدافع عن جرائمها وتبحث لها
عن مخارج من أخطائها، وتغضب لها أكثر من غضب هذه الأنظمة لنفسها؛ وذلك كله يدفع
أولئك الطغاة إلى مزيد من الظلم والطغيان.
وأولئك الطغاة
يعلمون أيضًا جرائم أتباعهم، التي يرتكبونها باسمهم، لائذين بسلطانهم، لكن لن
يحاسب الطاغية جنوده الذين يمكِّنونه من البقاء، ولا سيَّما أنه أعظم جُرمًا منهم؛
فهم ربما اصطدموا بقوةٍ دحرتهم عن غايةٍ من غاياتهم؛ فجرأتهم على الفساد إنما هي
ناتجة عن تبعيَّتهم لظاغيتهم، فإذا عجزوا عن فسادهم لن يُعِينهم طاغيتهم أو ينصرهم؛
فهم ليسوا أكثر من أدواتٍ يستخدمها، فإن عجزت هذه الأدوات طرَحها جانبًا وبحث عن
غيرها ممن هم على شاكلتهم، أما هو فبالنسبة إليهم يعني حياتهم ودنياهم، وهذا هو
الذي يجعلهم يستميتون من أجل بقائه، ويتمادون في محاربة معارضيه، بل يتوهمون الناس
جميعًا خصومًا له، ثم يقنعون أنفسهم بضرورة محاربتهم من أجله، وهم في الواقع إنما
يحاربون من أجل أنفسهم؛ حتى يظلوا على نفوذهم العبثي الذي يستمدونه منه، وأيضًا من
أجل إشباع جانب الذل والخضوع الذي طُبِعت عليه نفوسهم المريضة.
أما الدولة القوية فيكون قوامها على حاكمٍ يقول لهم كما قال أبو بكر الصِّدِّيق [ت: 13هـ] -رضي الله عنه- يوم وَلِيَ الخلافة: «إنِّي قد وليتُ عليكم ولستُ بخيرِكم، فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوِّموني» [«السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 661)]، فليس هو بالظالم الذي يبحث عن بطانة سوء، ولا رعيَّته بالغوغاء الذين يبحثون عن طاغية يهَبُون له كرامتهم ويبيعون دينهم من أجل نفوذٍ لا يستحقونه، وتمكينٍ دنيويٍّ باطلٍ ضد كل ذي رأي سديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق