خيوط الذاكرة تتدلى من معجم الكلمات كحبال شبكة الصيد : كل واحد منها لا يكاد ينبت حتى تشبكه الخيوط الأخرى كالمتاهة لا يعرف إليها مدخلا ولا منها مخرجا، وكل ما يعرفه منها الإقامة فيها تنقلا يفضي من اللفظة إلى اللفظة، وينساب بين المفردات كالمغناطيس. الذاكرة هي تلك الشبكة الشابكة: تكاد كل كلمة تحمل ذكرى أول نطق بها، وذكرى ماصاحبها من الأشياء والألوان والروائح، بل حتى من حالات النفس المتراوحة بين الرضى والحبور، بين الكآبة والسعادة .. وما أكثر الأمثلة التي يمكن أن أضربها .. بل هل ثمة من الكلمات ما لا أحفظ لها سر دخولها معجمي وانخراطها في شبكة مفرداتي انخراطا تنتقل به من حال الإفراد التي دخلت بها إلى ضرب من "حال الجماعة" وحتى من "حال الجماع" الذي تعاضل فيه الكلمة صاحبتها ضمن معاشرة لا نهاية لها. ما أعجب خيوط الذاكرة ! هذه "الرمانة" قد نطت ذات يوم من ثمرة الخريف ذات الخدين الموردين، ومن حلاوة حباتها الشهية وريحها العطر، إلى رمانات الفدائي الفلسطيني في ستينات القرن الماضي وهو يقاوم فتتشظى كما تتشظى الحبات من الرمان فراكا تنفرز به حبة عن حبة. قال سيدي أحمد الشابي متحدثا عنهم : إنهم يعبرون زحفا مراوغين الأسلاك الشائكة تحت جنح الظلام .. ثم ماذا ؟ "يرمون العدو الجبان بالرّمان". "ثم ماذا" : ما أعجب تلك اللازمة التي كان أستاذي يوقع بها جولاته بين الجمل وبين الفقرات التي ينطقها: كأنما كان يهيؤنا بها لاستقبال ما لم نكن نعرف، أو كأنما كان يريدنا بها أن نصادق من قبل أن ينطق على ما سيقول. يومها، وعلى إيقاع قصيدة من قصائد نزار نشرتها جريدة الصباح التونسية وقطعنا بقراءتها نصا من بخلاء الجاحظ، تسللت الرمانة إلى حقل التعدد الدلالي في معجمي : غادرت مربض الكلمات المفردة التي ليس فيها إلا المشار والمشار إليه، ودخلت مختصم الدلالات العديدة: فكانت رمانة المقاومة أول حامل لذلك التعدد:
"من قصب الغابات
نخرج كالجن لكم.. من قصب الغابات
من رزم البريد، من مقاعد الباصات
من علب الدخان، من صفائح البنزين، من شواهد الأموات
من الطباشير، من الألواح، من ضفائر البنات
من خشب الصلبان، ومن أوعية البخور، من أغطية الصلاة
من ورق المصحف نأتيكم
من السطور والآيات…
فنحن مبثوثون في الريح، وفي الماء، وفي النبات
ونحن معجونون بالألوان والأصوات..
لن تفلتوا.. لن تفلتوا..
فكل بيتٍ فيه بندقيه
من ضفة النيل إلى الفرات
***************************
ما بيننا.. وبينكم.. لا ينتهي بعام
لا ينتهي بخمسةٍ.. أو عشرةٍ.. ولا بألف عام
طويلةٌ معارك التحرير كالصيام
ونحن باقون على صدوركم..
كالنقش في الرخام..
باقون في صوت المزاريب.. وفي أجنحة الحمام
باقون في ذاكرة الشمس، وفي دفاتر الأيام
باقون في شيطنة الأولاد.. في خربشة الأقلام
باقون في الخرائط الملونه
باقون في شعر امرئ القيس..
وفي شعر أبي تمام..
باقون في شفاه من نحبهم
باقون في مخارج الكلام..
ما زلت أذكر كيف تفلجت تفاحة الصبى يوم أن تمنى بشار أن
يغيب هنيهة عن جسميته اليومية الباردة العمياء، وأن يغادر كلال بصره الذي حبب إليه
ذات الدل من ريحها ومن صوتها، ليتسلل من فغرة التفاحة المفلّجة فيخرج من
"ثمرية" التفاح الذي نقضم كل يوم إلى آدمية قاضمة لم أكن أعرف ولا حتى
كنت أتخيل .. عاشقا محبا نشوان .. حتى صارت التفاحة حامل شوق الجسد وشبق الولهان المغامر،
وحتى ذكّرت حدّ المثول الماثل بآدم الآدمي الذي يهوى ويهوي:
يا لَيتَني كُنتُ تُفّاحاً مُفَلَّجَةً
أَو كُنتُ مِن قُضَبِ الرَيحانِ رَيحانا
حَتّى إِذا وَجَدَت ريحي فَأَعجَبَها
وَنَحنُ في خَلوَةٍ مُثِّلتُ إِنسانا
فَحَرَّكَت عودَها ثُمَّ اِنثَنَت طَرَباً
تَشدو بِهِ ثُمَّ لا تُخفيهِ كِتمانا
أَصبحتُ أَطوَعَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ
لأَكثَرِ الخَلقِ لي في الحُبِّ عِصيانا
فَقُلتُ أَطرَبتِنا يا زَينَ مِجلِسِنا
فَهاتِ إِنَّكِ بِالإِحسانِ أَولانا
لَو كُنتُ أَعلَمُ أَنَّ الحُبَّ يَقتُلُني
أَعدَدتُ لي قَبلَ أَن أَلقاكِ أَكفانا
فَغَنَّتِ الشَربَ صَوتاً مُؤنِقاً رَمَلاً
يُذكي السُرورَ وَيُبكي العَينَ أَلوانا
لا يَقتُلُ اللَهُ مَن دامَت مَوَدَّتُهُ
وَاللَهُ يَقتُلُ أَهلَ الغَدرِ أَحيانا
لا تَعذِلوني فَإِنّي مِن تَذَكُّرِها
نَشوانُ هَل يَعذِلُ الصاحونَ نَشوانا
لَم أَدرِ ما وَصفُها يَقظانَ قَد عَلِمَت
وَقَد لَهَوتُ بِها في النَومِ أَحيانا
باتَتَ تُناوِلُني فاهاً فَأَلثُمُهُ
جِنِّيَّةٌ زُوِّجَت في النَومِ إِنسانا
مدارات ثقافية : مُجلةة فكريّة ثقافيّة ألكترونية تهدف
لخلق هامش للتّفكير الحرّ المستقلّ والمعرفة النّقديّة و
لربط الصلة بين الطاقات الفكرية والأدبية والفنية في العالم العربي بتوفير فضاء التقاء وتبادل وحوار و
العمل على نشر وتطوير المعرفة حول مبادئ حقوق الإنسان، وحول القيم السّياسيّة والأخلاقيّة الحديثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق