1
تقتضي الصراحة بأن يوجد شخص قوي يرتكب أخطاء يترتب عليها
ظلم للضعيف؛ الذي لا يستطيع أن يعترض على الظلم إلا بالكلام، وإذا تصورنا السياسة
على أنها ممارسة على مستوى خاص من مستويات الحياة الاجتماعية، أو على أنها ممارسة
على مستوى المجتمع برمته؛ ففي كلتا الحالتين لا يمكن أن تكون حكمة الحاكم إلا
عنصرًا أساسيًا من عناصر العمل السياسي[1]،
ولن تكون حكمة الحاكم عملًا سياسيًا حكيمًا إلا حين تستند سياسته إلى المنطق
والعقل، بحيث يعزز حكمه العادل العقل والمنطق ويؤسسانه. ومع ذلك، وحيث يكون خطاب
السلطة الحكيم، لابد من خطاب آخر هو خطاب الضعيف المتمثل في خطاب الصراحة؛ إذا ما
حادت السلطة عن حكمتها، وتصرفت بما يلحق الضرر بآخرين.
سأحلل في هذا المقال حكاية رجل عرض لهارون الرشيد وهو
يطوف بالكعبة. سأحللها تحت مفهوم الصراحة، وضمن ما يعنيه قول الحق، ودلالته
السياسية، من جهة، ومن جهة أخرى في ضوء العلاقة بين الحرية والحقيقة، وضمن أي ظروف
يكون الالتزام بقول الحقيقة، وسيكون التحليل.
يروي ابن عساكر في كتابه
«تاريخ بغداد»
أن «هارون الرشيد، وهو يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال:
يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة فاحتمله لي، فقال لا، ولا
نعمة عين ولا كرامة، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمر أن يقول له
قولًا لينًا»[2].
يشير هارون الرشيد إلى قصة موسى وهارون مع فرعون. تاريخيًا
فالله لم يبعث رجلًا واحدًا كما تشير عبارة هارون الرشيد: «قال قد بعث الله من هو،
ولم يقل قد بعث من هما». وكما هو معروف فقد بعث الله إلى فرعون اثنين هما
موسى وهارون. وهذان هما اللذان أرسلهما الله إلى فرعون الأشر من الرشيد. وبالرغم
من أن موسى وهارون خير من هذا الرجل، وأن فرعون أشر من هارون الرشيد، إلا أن الله
أمرهما بأن يقولا له قولًا لينًا. وكما نلاحظ فقد أوّل هارون الرشيد القصة تأويلًا
أراد منه أن يمنع الرجل من القول؛ لذلك فقد استخدم الرشيد جزءًا من القصة
مبررًا دينيًا ليمنع الرجل من أن يقول له كلامًا شديدًا وقاسيًا وفظًا، إما لأنه
لا يريد أن يسمع كلامًا كهذا، أو أنه يتوخى ردة فعل لا يريد أن تصدر منه.
وردت قصة موسى وهارون وفرعون في القرآن الكريم، يهم
موضوعي منها هذا الجزء الذي استشهد به الرشيد؛ فقد طلب الله من موسى وأخيه قائلًا:
«اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى»[3].
والمعنى في تفسير الطبري لهاتين الآيتين أن اذهبا إلى
فرعون فقد تمرد في ضلاله وغيّه. ومعنى القول اللين «كنّياه» أي أدعواه بكنتيته (من
الكنية)، وفي تفسير السعدي للآيتين قولا له قولًا سهلًا لطيفًا، برفق ولين وأدب في
اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال. وفي تفسير البغوي، اللطافة في
القول لما لفرعون من حق تربية موسى حين عاش في كنفه، وفي تفسير ابن كثير أن المعنى
هو الكلام الرقيق اللين السهل القريب، وفي تفسير القرطبي القول الذي لا خشونة فيه[4].
لقد أوجزت معنى «القول اللين» عند بعض المفسرين لأنه ذو
دلالة لأبين طرق بناء القول اللين عند هؤلاء المفسرين. وكما نعرف من فوكو فنحن
نحلل طريقة قول الحق، إما من خلال البنية الذاتية للقول، أو من خلال غايات القول،
أو من خلال آثار غاية القول على بنية القول؛ أي أننا نحلل القول وفقًا
لاستراتيجيته. إذن «يمكن للأشكال المختلفة لقول الحق أن تظهر إما في شكل
استراتيجية الإثبات والبرهان، أو في شكل استراتيجية في الإقناع، أو في شكل استراتيجية
في التعليم، أو في شكل استراتيجية المحادثة[5]».
إن نظرة على كلام المفسرين عن القول اللين لا يخرج عن
الطرق التي ذكرها فوكو. فيمكن للقول اللين أن يستند إلى البرهان؛ وفي هذه الحالة
فالمطلوب من موسى وأخيه أن يبرهنا لفرعون على الحق الذي يدعوان إليه، ويمكن للقول
اللين من جهة ثانية أن يستخدم الخطبة، وفي مثل هذه الحالة فالمطلوب من موسى وأخيه
أن يستخدما الخطبة ليقنعا فرعون؛ أي أن يعرضا على فرعون ما يريدان منه بشكل مقنع.
ويمكن للقول اللين من جهة ثالثة أن يكون طريقة في التعليم؛ وفي هذه الحالة
فالتعليم يحتاج إلى الابتعاد عن القسوة في الكلام، والغلظة فيه، وعن كل ما هو فظ
ومنفر. وأخيرًا يمكن للقول اللين أن يكون شكلًا من أشكال الحوار، وفي هذه الحالة
الأخيرة؛ فالحوار لا يجعل من الصراع هدفه الأساسي، إنما الهدف التعاون.
لكن لماذا يقولان له القول اللين؟ يستخرج القرطبي في
تفسيره للآيتين حكمين فقهيين؛ أولهما جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والثاني أن تكنية الكافر جائزة (نداؤه بالكنية وقد قيل إن كنية فرعون أبو العباس،
وقيل أبو الوليد، وقيل أبو مرة) إذا كان وجيهًا ذا شرف وطمع في إسلامه. وكما هو
واضح فهذين الحكمين لهما علاقة بالدعوة، والوعظ، واستمالة القلب. وتبعًا
لهذا يمكن أن نستنتج إن هارون الرشيد أراد من الرجل أن يتحدث معه مستخدمًا البرهان
أو الإقناع أو الحوار والمحادثة، وأن الرجل إذا ما أراد أن يقول شيئًا فليقله
بحكمة وتعقّل، وفي سياق أدب الكلام، من دون تجريح؛ أي أن يقول له كلامًا حسنًا.
2
هناك وجه آخر للمسألة يظهره الحديث النبوي، فقد روي أن
النبي سئل عن أي الجهاد أفضل فقال كلمة حق عند سلطان جائر أو «أفضل الجهاد كلمة
عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر »[6]ولكي يتضح وجها المسألة سنعود إلى قصة
موسى وهارون وفرعون. فمن الواضح أن الله أمر موسى وهارون أن ينصحا فرعون؛ لكن
النصيحة يجب أن تكون غير مباشرة. أي ألا يكونا صريحين مع فرعون. وبالتذكير بطرق
بناء القول اللين التي تحدثنا عنها أعلاه كالإثبات، والبرهان، والحجج، والإقناع،
والحوار، وطريقة التعليم، فإنّ موسى وهارون سينصحان فرعون نصيحة غير مباشرة.
يوجد في مقابل النصيحة غير المباشرة، النصيحة المباشرة.
ومن أجل بلورة التحليل وترابطه سنسمي القول اللين «النصيحة»، وسنسمي القول القاسي
«الصراحة»، وبهذا تكون الصراحة هي الوجه الآخر الذي يظهره الحديثان النبويان،
مقابل النصيحة التي تظهرها آيتا موسى وهارون. ولو أعدنا النظر في قصة موسى وهارون
مع فرعون في ضوء مفهوم الصراحة، فالمشهد نموذجي لقول كلمة الحق، وغالبًا ما يتكرر
ذلك في مشاهد قول كلمة العدل في وجه السلطان الظالم أو الطاغية؛ فمن جانب، هناك
الطاغية وهو في قصتنا فرعون، وفي الجانب الآخر هناك شخص يقف أمام الطاغية، وهما
موسى وهارون.
يقترح هذا المشهد طرقًا في بناء قول الصراحة، وهو بطبيعة
الحال يختلف عن بناء القول اللين في النصيحة. فالصراحة لا تستخدم البرهان في
قولها. صحيح أنها قد تضم برهانًا أو حجة، لكن البرهان والحجة ليسا مكونين أساسيين
من مكونات بناء القول في الصراحة. فضلًا عن ذلك فالنصيحة لا تستخدم الخطبة في بناء
قولها؛ لأنها لا تهدف إلى الإقناع، وبالتالي فهي لا تستخدم الصور البلاغية، ولا
المحسنات البديعية. الصراحة صورة فكرية، لكنها كما يقول كوانيليان (الذي يستشهد به
فوكو في الدرجة الصفر من الخطابة) أكثر من هذين؛ أعني من عدم استخدام الصراحة
للبرهان والبلاغة، فهي لا تستخدم طرق بناء القول التربوي؛ ففي الصراحة جانب من
القسوة والجلافة غير متوفر في القول التربوي، علاوة على ذلك فالصراحة لا تستخدم
الحوار، ولا المناظرة، ولا السجال؛ لأنها ليست طريقة في مواجهة الخصم.
يمكن لنا أن نتعرف طرق بناء الصراحة بعد أن نعرف الصراحة
ذاتها. فالصراحة طريقة لقول الحقيقة، وهي المخاطرة بقول الحق[7]. وهو تعريف يقدمه الحديثان النبويان في كون
الصراحة كلمة حق، أو كلمة عدل عند سلطان جائر. يتابع فوكو قائلًا إن الصراحة خطرة،
وشجاعة حرة[8]. وهي فكرة مضمنة في الحديثين النبويين؛
فالصراحة جهاد، بل هي أفضل جهاد. وبالأخذ في البال معنى الجذر اللغوي الذي يتضمن
المشقة، والمعنى الاصطلاحي للجهاد يتضح فعلًا أن الصراحة خطرة، وفي الوقت ذاته
شجاعة.
بطبيعة الحال أنا لا أقصد المقارنة بين رأيين، أي بين
الحديثين ورأي فوكو، وتأثر أحدهما بالآخر، إنما أقصد إلى أن هناك تجربة مشتركة بين
الثقافات هي تجربة الاستبداد والطغيان، وأن هذه التجربة كونت سلسلة من الإجراءات
لنقد الاستبداد، ومواجهة الطغيان، ولا يوجد غرابة في أن تتشابه بعض هذه الإجراءات،
وأحد هذه الإجراءات هو الصراحة؛ أي قول الحقيقة في وجه الطغيان.
يدفعنا الخطر المترتب على الصراحة أن نفكر في طلب الله
من موسى وهارون أن يكون قولهما قولًا لينًا. فالقول اللين له علاقة بخطورة الطاغية
فرعون، أكثر من علاقته باستمالة قلب فرعون كما تكاد تجمع كتب التفسير. لذلك
فالصراحة لا يمكن فهمها من جهة القول، ولا من جهة غاية القول؛ بل يمكن فهم الصراحة
في علاقتها مع المتكلم الصريح، من الأثر الذي قد يترتب على الناصح. وكما يقول فوكو
«يجب البحث عن الصراحة في جهة الأثر الذي ينتجه قول الحقيقة على المتحدث والمتكلم
انطلاقًا من الأثر الذي يحدثه على المُستَقْبِل أو المخاطب»[9].
إنّ قول كلمة الحق في حضرة فرعون الطاغية، يعني أن هناك
خطورة تحيط بموسى وهارون، فقد تؤدي صراحتهما إلى نوع من العنف ضدهما، أو قد
يهلكان، وبالتالي فوجودهما في حضرة طاغية كفرعون يصارحانه بكلمة الحق وجود مرهون
بخطر مفتوح على كافة الاحتمالات. ونظير ذلك في حكاية هارون الرشيد أن الرجل
كموسى وهارون، وإنْ كان أقل خير منهما، وأن هارون الرشيد كفرعون، وإنْ كان أقل
شرًا منه. لكن «أقل» هذه لا تشكل فرقًا في النوع بين المشهدين، بل تشكل فرقًا في
الدرجة. وهنا تكمن أهمية عبارة الرشيد وهو يخاطب الرجل: «لا، لا نعمة ولا كرامة».
توجد خلفية عبارة الرشيد في رد الرسول الكريم على رجل
يدعى عمرو بن قرة. «قال يا رسول الله، إن الله قد كتب علي الشّقوة (الشقاء) فما
أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء في غير فاحشة، فقال الرسول لا آذن
لك، ولا كرامة، ولا نُعمة عين، كذبت، أي عدو الله». وبعد أن تحدث الرسول عن رزق
الله الحلال، انتهى الحديث بقوله مخاطبًا الرجل «قم عني، وتب إلى الله. أما إنك إن
فعلت بعد التّقدمة (بيان الحكم الشرعي) إليك، ضربتك ضربًا وجيعًا، وحلقت رأسك
مُثلة، ونفيتك من أهلك، وأحللت سلبك نُهبة لفتيان المدينة[10]. تضيء هذه الخلفية معنى عبارة هارون
الرشيد: فلا نُعمة (بضم العين) تعني لا أطيعك، ولا أتبع أمرك، ولا أسمعك. فنُعمة
العين عند العرب تعني قرة عين؛ يعني أقر عينك بطاعتك، واتباع أمرك. والمعنى أن
الرشيد لا يريد أن يسمع كلام الرجل، وحتى لو سمع فإنه لن يقر له بذلك، ولن يطيعه.
اتخذ الرشيد هذا الموقف حتى قبل أن يسمع كلام الرجل. لقد أراد الرجل أن يكون
صريحًا، لكن هارون الرشيد بيّن له ما يمكن أن يترتب على صراحته؛ فهي مفتوحة على
الخطر الذي يمكن أن يحيق به، وما استحضار قصة موسى وهارون مع فرعون إلا تحذيرًا
للرجل من أن يتكلم.
3
يرتب فوكو على الصراحة ما يسميه مأساوية الخطاب[11]. يعني بهذا نوع من الخطاب تعاهد الذات
نفسها على أن تقول الحقيقة، ويضم تحت هذا النوع من الخطاب أشكالًا مختلفة من
الخطابات الحقيقية، كخطاب النبي والرسول، والعراف والفيلسوف. فهؤلاء، بوصفهم
ذواتًا، مرتبطون بقول الحقيقة. ويضيف إلى هؤلاء مستشار الملك، ووزير الملك في
قولهما كلمة الحق أمام الملك. فضلًا عن هذين هناك صورة الناقد، وهناك أيضًا صورة
الثوري. نحن إذن أمام وجوه مأساوية، ينتجون أشكالًا من الخطابات المأساوية
المختلفة باختلاف هذه الوجوه. والسؤال هو ما الذي يشكل أساس المأساة في خطاب
الصراحة؟ هو صعوبة قول الحق. وقد عبر موسى وهارون عن ذلك بقولهما بعد آيتي الأمر بالذهاب
والقول اللين «قالا ربنا إنا نخاف أن يفرُط علينا أو أن يطغى»[12].
والمعنى أن الخطر مفتوح، ولا يمكن لنا أن نتوقعه.
ويبرران خوفهما بالفعلين (يفرُط) و (يطغى)، وهما فعلان يشيران إلى سمتين من سمات
الطاغية، وهما التعجّل والتكبّر، وما قد يترتب عليهما من تهور؛ فالفرْط مثلًا عند
ابن عاشور في تفسيره الآية يشمل كل أنواع العقوبات، ويدقق طنطاوي في تفسير الآية
في التفسير الوسيط؛ فالطغيان أشمل من الإفراط؛ فالإفراط تعجيل بالأذى في الحال،
بينما الطغيان في الحال أو المستقبل، وهناك تدقيق آخر في تفسير الطبري؛ فالآية
تتضمن الإفراط وليس التفريط؛ فالإفراط هو الإسراف والتعدي، بينما التفريط فهو
التواني في الأمر.
لقد لاحظ فوكو وهو يحلل مسرحية
«إيون»
ليوربيدس أن صراحة البشر نتجت من صمت الإله، وعدم تدخله
في قول كلمة الحق. ويطور هذه الملاحظة إلى أن الإله في المأساويات اليونانية لا
يتدخل في الأحداث، ولا يتدخل بقول الحقيقة؛ بل يكتفي بلعبة العلامات الطبيعية[13]. لكن ماذا عن إله موسى وهارون؟ بعد أن صارح
موسى وهارون الله بخوفهما من طيْش فرعون قال لهما الله «لا تخافا إنني معكما أسمع
وأرى[14]». يورد عبدالرحمن السعدي في تفسيره الآية أن
المعنى أنتما بحفظي ورعايتي، وفي تفسير البغوي أرى ما يراد بكما فأمنعه، وفي
التفسير الوسيط لمحمد سعيد طنطاوي إنني معكما بقوتي وقدرتي ورعايتي، وفي تفسير ابن
كثير أنا معكما بنصري وتأييدي، أما في تفسير الطبري فمعنى الآية لا تخافا فرعون
فسأعينكما عليه.
لكي نفهم وعد الله لموسى وهارون بالعوْن هناك ملاحظتان:
الأولى أن من يصرح بالحقيقة للبشر هم البشر، وليس الآلهة، وهذا يعني أن البشر غير
قادرين على أن يمتلكوا الحقيقة، وأن الآلهة هي التي تملكها. الثانية هي أن الآلهة
تملك الحقيقة لكنها لا تصرح بها للبشر، بل تدفع من البشر من يصرح بها، وهذا ما
يحدث في قصة موسى على التحقيق؛ فالحقيقة يملكها الله، لكنه لا يصارح بها فرعون،
إنما دفع موسى وهارون ليقولا الحقيقة لفرعون. لذلك فالإله في مسرحية
«إيون»
ليوربيدس صامت على ما يفسر فوكو المسرحية. لذلك يُجبر
البشر على قول كلمة الحق. هناك شخص قوي هو الطاغية، وهناك شخص ضعيف يقف أمامه
ليقول كلمة الحق في وجهه، وهناك إله لا يتدخل بشكل مباشر إنما يتدخل بعلامات معينة
تشير إلى تدخله كالطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم في قصة موسى[15].
يرى فوكو أن أفعالًا كهذه لا يمكن أن نصنفها تحت
فعل الصراحة في قول كلمة الحق[16]. لكن فوكو لا يفسر لماذا تصمت الآلهة. ومن
جهتي أفترض أن الصراحة في قول كلمة الحق تتعلق بحكم البشر للبشر، وعلاوة على ذلك
فالآلهة تختلف عن البشر من الناحية الوجودية. لا تختار الآلهة السيطرة على القوة
التي يملكها الطاغية، لكنها أقوى حين يتجاوز الطاغية حدوده، حين تظهر علامتها التي
عادة ما تكون على شكل علامات طبيعية. يحدث هذا في حالات نادرة، فالغالب هو أن
الحكم يطغى، ولا تبدي الإلهة أي علامة على قول الحق في وجه الطاغية، لذلك لا يوجد
حل أمام الإنسان إلا أن يحتل محل الإلهة ليقول للطاغية كلمة الحق. وهكذا يمكن أن
نعرف الصراحة بأنها خطاب الضعيف، بل الأكثر ضعفًا، في وجه القوي، بل الأكثر قوة[17].
4
يخبرنا فوكو بأن اللاتين ترجموا كلمة «صراحة» اليونانية
بكلمة «الحرية» اللاتينية[18]،
وبهذه الترجمة يتضح الحق السياسي بالصراحة؛ أي بقول كلمة الحق في وجه الطاغية.
يمارس الشعب بالصراحة السلطة ضمن شروط غير شروط الطغيان[19]،
وهي تسمح للشعب بحرية التعبير، وتعطي الحق لكل مواطن في أن يبدي رأيه بصراحة. لا
بد من أن يكون هناك حق التعبير لكي توجد الصراحة. تعني الصراحة بشكل عام نوعًا من
الديموقراطية الحقيقية، وحين تتحدد فمن خلال مفهومين هما المساواة والصراحة[20].
إنني أختصر فيما لو سألني القارئ عن هذه العجلة في تفسير
العلاقة بين الصراحة والديموقراطية؛ لأن العلاقة بينهما قد تصبح خطرة، وإشكالية
وصعبة. فالصراحة لا تعني حرية الكلمة بالمعنى السياسي فحسب، بل تعني بيان الحقيقة
والإفصاح عنها وهذا هو الأهم[21]. هل تعني الصراحة حرية الكلمة لكل مواطن؟
لا يرى فوكو ذلك، ويرى هذا المنظور ضيقًا، ويعتبره محددًا وغير كاف. يرى فوكو
الصراحة في الممارسة الفعلية للسياسة، ولا تعني عنده التوزيع المتساوي للكلمة بين
المواطنين.
لكن ما لم يثر انتباه فوكو أن الغالب على الناس أنهم لا
يمارسون السياسة، فهم مدفونون في حياتهم اليومية. هناك قلة تمارس السياسة؛ لكن
الممارسة العملية هذه تعني اتخاذ القرارات السياسية. أما السياسة بمعنى الاهتمام
بالشأن العام، فمن حق كل مواطن أن يشارك برأيه في نقاش الشأن العام، والصالح
للجميع، وهو حق غير محصور في فئة معينة. لقد بدا لي فوكو مرتبكًا بين أن تكون
الصراحة حق لكل مواطن، أو حق للمواطن السياسي، لاسيما حين يضغط الجمهور الذي يستمع
إلى دروسه تجاه أن تكون حقًا لكل مواطن. وقد بدا لي غير مقنع في هذه الفكرة. ومع
ذلك فبصيرته نافذة وذكية حين يشرح لكي نفهم متى تصبح العلاقة بين الصراحة
والديموقراطية علاقة سوية، ومتى تصبح العلاقة بينهما علاقة مرضية.
هنا من المناسب أن نتصور الصراحة مثلما تصورها فوكو على
شكل هندسي هو المستطيل[22]. سنضع على ضلع المستطيل الأول شرطًا
صوريًا، ونسميه الضلع الدستوري، وهذا يعني المساواة بين المواطنين في الصراحة بقول
كلمة الحق. ونضع على الضلع الثاني الشرط الواقعي، ونسميه ضلع اللعبة السياسية،
وهذا يعني تفوق الصرحاء وصعودهم في التراتب الاجتماعي؛ فقد سمعوا وأسمعوا الناس،
وأقنعوهم، ونضع على الضلع الثالث الخطاب المنطقي والمعقول، ويمكن أن نسميه ضلع
الحقيقة، وهذا يعني أن قول الصراحة يجب أن يكون قول الحق والعدل، ونضع على الضلع
الرابع الصراع، ويمكن أن نسميه بضلع الشجاعة، وهذا يعني شكلًا من أشكال التنافس
والمجابهة بين المتفوقين الذين وضعناهم فوق الضلع الثاني، وفي ضوء الديموقراطية
التي وضعناها فوق الضلع الأول، ويجب أن يكون التنافس شريفًا يستند إلى الحق الذي
وضعناه فوق الضلع الثالث. إن أي خرق لأي ضلع من أضلاع مستطيل الصراحة يحول العلاقة
بين الصراحة وبين الديموقراطية إلى علاقة خطرة. فالصراحة إذا اشتملت على ادعاء ما
ليس حقيقة على أنه الحقيقة، أو اتصفت بالجلافة، والفظاظة، والبذاءة، وقل مثل ذلك
عن بقية أضلاع الصراحة، فستتحول إلى صراحة سيئة تجتاح الديموقراطية، والنموذج لهذه
الصراحة السيئة هي الديماغوجية.
5
تتضمن مسرحية الفينيقيات ليوربيدس حوارًا بين شخصيتين
هما بوكاستي وابنها بولينيس المنفي من مدينة طيبة. يهم موضوعي منه الحوار الذي دار
بينهما بعد أن التقيا. سألته أمه: ماذا يعني أن يكون المرء لاجئًا؟ ماذا يعني أن
يكون المرء محرومًا من وطنه؟ هل اللجوء شر كبير؟ أي شيء هو النفي؟ يجيبها بأن
اللجوء والنفي أسوأ مما تصور، وأسوأ ما فيهما هو ألا يكون اللاجئ أو المنفي
صريحًا. والترجمة الحرفية كما يرى فوكو «تُنتزع منه الصراحة[23]». ثم تعلق الأم على إجابة ابنها «هذا ما
يكون عليه العبد، أن يصمت، ولا يعبر عن فكرة». وفق بولينيس فحالتا اللجوء والنفي
لا علاقة لهما بالإبعاد الجسدي من الوطن، ولا يصح تعريفهما بالحرمان من العيش فيه،
بل لهما علاقة بالإبعاد المعنوي من الوطن إن صح التعبير؛ لهما علاقة بالصراحة التي
تجعل المواطن حرًا، وهو ما أكدته بوكاستي فالعبودية هي ألا تكون صريحًا في وطنك.
الهوامش:
[1] – انظر، ميشيل فوكو، حكم الذات وحكم
الآخرين، دروس ألقيت في الكوليج دو فرانس (1982-1983) ترجمة الزواوي بغورة، مراجعة
محمد المعزوز (الرباط، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، 2019) ص 182. وفي جميع
الأحوال لا أستطيع أن أفي بالاقتباس ما يدين به هذا المقال لميشيل فوكو.
[2] – ابن منظور، محمد بن مكرم، مختصر تاريخ
دمشق لابن عساكر، تحقيق روحية النحاس ومحمد مطيع الحافظ (دمشق، دار الفكر، الجزء
27) ص 19.
[3] – طه، 43، 44.
[4] – لم أرد إثقال الهامش بالإحالات. لذلك يمكن
أن يجد القارئ تجميعا لتفسير الآيات، كل تفسير على حدة في الرابط التالي https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura112-aya1.html .
[5] – فوكو، مرجع سابق، ص 83.
[6] – سنن أبو داؤود، 4344، سنن الترمذي، 2174،
سنن ابن ماجه، 4011.
[7] – فوكو، مرجع سابق، ص 82 وما بعدها.
[8] – نفسه، ص 99.
[9] – فوكو، ص 88.
[10] – سنن ابن ماجه، 188.
[11] – فوكو، ص 102 وما بعدها.
[12] – طه، 45آية
.
[13] فوكو، مرجع سابق، ص 188.
[14] – طه، آية 46
[15] الأعراق، آية 133.
[16] – انظر فوكو، مرجع سابق، ص 2001.
[17] – فوكو، ص 181.
[18] – نفسه، ص 179.
[19] – نفسه، ص 145.
[20] – نفسه، ص 196.
[21] – نفسه، ص 238.
[22] – نفسه، ص 226.
[23] – نفسه، ص 209.
عن منصة معنى الثقافية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق