ما يعنيني من ابن خلدون
المشكل مع ابن خلدون بخلاف ما يتوهم الكثير اعسر بكثير
من المشكل مع الغزالي وحتى مع ابن تيمية. فقد ظلمه ادعياء الحداثة أكثر من ادعياء
الاصالة. فموقف هؤلاء منه ليس إلا رد فعل من موقف أولئك منه.
وطبعا فالمشكل هو في بيان ذلك إذ قد ينسب إلى "خالف
تعرف" ينسبها كل من لا يعيد النظر في الاحكام المسبقة التي نتجت عن دعوى
الحداثة بالتقليد البليد ورد الفعل عليهم لظن ادعياء الأصالة أنهم يمثلونها.
لذلك وصفت كلا الصفين بكاريكاتور ما يدعيه نتيجة لما
يترتب على تقليد الاحكام المسبقة من الدعويين:
فكما أن حكم أرنست بلوخ قاد فكر اليساريين العرب إزاء
الغزالي
وكما ان حكم أرناست رنان قاد فكر "الرشديين
العرب" ازاء ابن رشد
فاكتشاف ابن خلدون الغربي اصاب المدرستين لما حال دونهم
وقراءته قراءة متحررة من التعيير الذي يحدد المنازل بالمقارنة بين فكره وما يظن
مضفيا عليه قيمته ومنزلته العلمية وذلك من خلال:
1 - الدور في نشأة علم الاجتماع
2 - الدور في الرؤية المادية الجدلية
3 - المقارنة في السياسة
الماكيافيلية
4 - التركيز على دور العصبية
5 - مادة للصراع بين الكاريكاتورين
من جنس الصراع حول الغزالي وابن تيمية وابن رشد في بداية سيطرة جعل الغرب معيار
تقييم لمنازل المفكرين دليلا على الحداثة وعلاقتها بالموقف من الدين.
فكانت كلها من جنس معركة محمد عبدو وفرح انطون حول اسلام
ابن رشد وعلمانيته: وإذن فكلها تعود إلى مفهومي السرد والطرد اللذين يسقطان الحاضر
على الماضي والمستقبل
ويهملان التغير الحي الذي هو من طبيعة لامتناهي الصغر في
التاريخ المديد وهو الوحيد الذي يعني الفكر الفلسفي والديني لأنه هو الذي يلامس
العيني التاريخي في علاقته بالسرمدي غاية الديني والفلسفي.
ويمكن أن أحيل على حكمين قاسيين من طه حسين في رسالته
وعبد الرحمن بدوي في احد بحوثه. فكلاهما يحط من منزلة ابن خلدون على أساس حكم مسبق
يجعل فرنسا (طه حسين) ويجعل مصر نموذجا كونيا (بدوي):
فأولهما حكم بالتخلف في تاريخه بالقياس إلى علم التاريخ
في الغرب في فحقر منه ومن ثم اعاده إلى حجم يقلل من منزلة ثورته.
والثاني حكم بالتخلف على نظريته السياسية بالقياس إلى
المقارنة بين المغرب والمشرق.
وكلاهما يتصور أن صاحب النظرية ملزم يحسن تطبيقها
وكلاهما يتصور المقدمة مستقرئة مما يسمونه واقعا وليست عملا ابداعيا ككل نظرية ما
يسمونه الواقع ليس مصدرها وإن كان من اعيان تطبيقاتها قدر الإمكان.
كلاهما لم يصل إلى ما وصل إليه الغزالي وابن تيمية وابن
خلدون من التمييز بين خصائص المقدرات الذهنية وعادات الأشياء التجريبية التي هي
دائما دونها كمالا في مستوى المفهومات والتصورات.
ومن لا يفهم ذلك لا يمكن أن يفهم الفرق بين الرياضيات
والطبيعيات وبين المنطق واللغويات وبين الرؤى المثالية والتاريخيات. فيتعذر عليه
فهم معنى الابداع أصلا لأن قلب العلاقة بين ما في الاعيان وما في الأذهان هو سر
انحطاط الحضارات والإنسان.
لن اتمادى في الكلام على سوء التأويل في قراءة نصوص
المدرسة النقدية لأني كتبت فيه الكثير وقدمت محاضرات مسموعة ومرئية يمكن العودة
إليها وسأمر مباشرة إلى نصه المتعلق بتصنيف الأنظمة السياسية
لكن لا بد من الرد على كل من يزعم أن فكرها لا يمكن أن
يكون مفيدا الآن حتى لو سلمنا بأنه كان مفيدا في عصره. وحجة هؤلاء هي توهمهم أني
اعود إلى الماضي فأكون ماضويا وليس معيدا تأويله
بما يبين ما فيه من تجاوز لعصره إذا تخلينا عن تصور زمان
الفكر مثل الزمان الطبيعي مقصورا على أحداثه في حين أن أحاديثه تعتبر أهم أبعاده.
وأغرب ما في اصحاب هذا الاعتراض
أنهم لا يرون من الماضوية من يعود بالتأويل إلى ما قبل
سقراط أي ألف وخمسمائة سنة ويعتبرون ماضويا من يعود إلى خمسمائة سنة (من الغزالي
إلى ابن خلدون إلى يومنا): ليس للحمق والغباء دواء.
لذلك فإني لا أبالي بآراء الحمقى وسأستخرج م نصوص ابن
خلدون كما فعلت مع الغزالي وابن تيمية ولكن بصورة أوضع إلى الحد الذي يغني عن
الاستدلال.
لأن ذلك هو سدى المقدمة ولحمتها ومنطلق التحرر من
القراءات التي تقيم ثورته بما تعتبره معيارا تقييما حال دون فهم ثوريتها: فليس
كلامي في فكر ابن خلدون متعلقا بمسألة من مسائل مشروع المقدمة بل بنسقها وبنيتها
العميقة لأفهم أبعاد ثورتها.
فلم يمكن من التفطن لتمثيلها الرؤية الكونية المستقبلية
للبشرية كلها كل من حاول حصر نظريته في أحد أبعادها قبل ابراز نسقها تماما كما
فعلت مع القرآن الذي حولوه إلى "صندوق" مفاتيح لحرفيين في التوظيف في كل
المهن حتى صار مهنة تمتهن بالمعنى الذي آل إليه امره عند الدجالين.
ما قد يعجب له الكثير ممن يعودون إلى المدرسة النقدية
عامة وابن خلدون خاصة لأنه زبدتها وآخر نبضاتها هو أن ثورته
تتجاوز في الفلسفة العملية كل محاولات القرنين السابع
عشر والثامن عشر التي تسيطر على نظرية الدولة والفلسفة السياسية
وتتجاوز كل محاولات القرنين التاسع عشر والعشرين في تأسيس
العلوم الإنسانية كلها. وسأقتصر هنا على:
نظرية الدولة المجردة وعناصرها الخمسة
نظرية القوامة وشروطها القيمية في الرعاية وفي الحماية
وقبل ايراد نص ابن خلدون في تصنيف الأنظمة السياسية
لتحليله فلأقابل بين أصل الرؤية اليونانية الوحيد رغم الاختلاف بين ما تتميز به الرؤية
الأفلاطونية والأرسطية والسوفسطائية.
فثلاثتها تشترك في اعتماد ثبات الرؤية الطبعانية للقوى
النفسية التي هي: العقل والغضب والشهوة ومن ثم التثليث الطبقي في الفلسفة السياسية
بمعنى التراتب الطبقي بين:
الفلاسفة: صاحب العقل يقود
الحامية: صاحب الغضب يحمي
العامة: صاحب شهوة يعمل
وبمعنى التمييز بين السادة والعبيد الذي يترتب على منزلة
العمل الذي يعتبر أدنى شيء وهو لا يليق إلا بالعبيد حتى إن أرسطو يقول إن ذلك لا
يزول إلا إذا صار المغزل يتحرك بذاته أي بتقدم التكنولوجيا فإذا هي لم تزل
العبودية بل عممتها.
ولا بد هنا أن نعود إلى ما قلته عن استراتيجية انهاء
العبودية في الإسلام: فك الرقاب كفارة والفتح لتحرير العباد من عبادة العباد
بعبادة رب العباد ليكون للجميع ما لهم وما عليهم سواسية.
ولهذا العلة كتب ابن خلدون بعكس ما قال أرسطو وما تابعه
فيه هيجل وماركس: بدلا من السيد والعبد الإنسان الرئيس وبدلا من عمل العبيد اعتبار
من لا يعمل بنفسه هو العبد الفاقد للحرية الكرامة لحاجته لغيره فيما عليه القيام
به بنفسه لأن العمل شرف رفيع وليس مذمة وضيع.
سأركز في الفصل الموالي على أهم نص يصنف الأنظمة
السياسية باعتماد علة الطاعة فيها: الفصل 51 بعنوان في أن العمران البشري لا بد له
من سياسة ينتظم بها من باب المقدمة الثالث (ص. 238-239 من النشرة الشعبية دار
الكتب العلمية بيروت غ.م.).
لكن نصوص ابن خلدون في نظرية الدولة والحكم كثيرة وأهمها
بالإضافة إلى هذا النص المركزي بثلاثة نصوص لها نفس الأهمية لأنها مخصصة لرؤية
الحك وتصنيفه على الجملة وتتعلق بأحكامه في الرؤية الإسلامية وهي:
1 الفصل الثالث والعشرون من باب المقدمة
الثالث في حقيقة الملك 2 واصنافه
3 الفصل الخامس والعشرون في معنى الخلافة
والإمامة
الفصل السادس والعشرون في اختلاف الأمة في حكم هذا
المنصب وشروطه
لكن الكلام على السلطة المشتركة بين التربية والحكم وارد
في الكثير من الفصول الأخرى وخاصة ما تعلق منها بأثر السلطة في شخصية الإنسان
ومعاني الإنسانية سواء كان السلطة سياسية أو مدنية عامة أو بهما معا كما في دور
السلطة المدنية والسياسية في التربية والحكم.
سأعود إذن إلى المسالة السياسية بهاذين المعنيين في
الفصل الموالي. واختم هذا الفصل بمسألة جوهرية تتعلق بالعصبية التي يظنها الكثير
أمرا آخر غير العنصر الثاني من مخمس الدولة المجردة وكيف تترجم المرجعية.
فهي أولا مخمسة المراحل بحسب أصناف انظمة ملء خانات
الدولة المجردة بالقيقين: طبيعة القيمية هي عين طبيعة تطور تمثيل المرجعية وذلك
عين ما يغيب عند الكلام على العصبية:
1 - فالعصبية الأولى هي المفضية
للهرج وهي الصورة البدائية لنظام الجماعة أو لتجلي الحاجة إلى بناء الشكل المستقر
للدولة ويمكن اعتباره وصفا أمينا لحال الجاهلية العربية قبل الإسلام.
2- العصبية الثانية هي عصبية الدم
وهي الشكل الاول لبداية الاستقرار في أي جماعة لظهور -بمعنى البروز والغلبة-لتأويل
أول تحديد القوامة وحصرها في الجماعة التي تتجاوز العصبية المفضية للهرج بالعصبية
التي تحقق فيها وحدة الجماعة المتساوية في بناء النظام.
3- عصبية الولاء لما يبعد قائد
الجماعة كل من يعتبرون أنفسهم مساوين له فيفسد المساواة فيها ويتحالف مع الموالي
الذين لا دالة لهم على الدولة فيكونوا خدما للمستبد.
4 - استبداد الموالي بعد فقدان
المستبد للحمة العصبية المؤسسة على الولاء الدموي فيحتاج إلى العودة إليه ولكن
بتوسيعه لأن المعركة تقصبح بين عصبيتين: الموالي وعصبية الحاكم التي تتجاوز
القبيلة إلى القوم: المثال هو العرب والفرس في الدولة العباسية
5- فيصبح من شروط تجاوز هذه
المقابلة بين قوميتين أي عصبية الموالي وعصبية اصحاب الدولة العصبية الأوسع وهي
عصبية المرجعية الواحدة وفي هذه الحالة فيكون السلطان الفعلي للموالي والسلطان
الرمزي لأصحاب الشرعية الرمزية.
وحينها يصبح المجال مفتوحا للكونية خاصة والإسلام يدعو
لذه الكونية إذ يعد الإنسانية كلها اسرة واحدة وهو مدلول الآيتين الأولى من النساء
والثالثة عشرة من الحجرات.
فيصبح تعدد الأقوام في نفس الدولة وهو معنى الامبراطورية
أيا كانت وهي نواة الكونية الإنسانية ولم تصبح واعية بذاتها مشروعا واجبا وليست
مجرد أمر واقع للتعبير عن مفهوم الدولة المجردة التي تتعين بطبيعة القوامة ومرجعية
الجماعة.
وحينها تصبح العصبية ثانوية لأن العادات في الامبراطورية
تغني عنها وتتولد القوى السياسية التي توحدها مرجعية مفتوحة على التعدد القابل
للتوحيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق