هدف هذه المحاولة هو بيان أن الإنسان لا يستطيع تجاوز
القياس على كيانه العضوي والروحي لكل ما عداهما من العالمين الطبيعي والتاريخي:
فالانثربومورفية هي "السجن" الذي لا يمكن الخروج منه أبدا.
ويمكن اعتبارها القصد بمعنى جعل الإنسان خليفة. فهو وحدة
قيس كل الموجود المادي والروحي. فهو ببدنه وحدة قيس المادي. وبفكره وحدة قيس
الروحي. وكل إدراك أو علم أو عمل في علاقة بالعالم الطبيعي والتاريخي ليس إلا
استعارات مستمدة منهما.
فعندما بنيت الفيزياء الكلاسيكية على مبدأ تصادم القوى
الميكانيكية القائل إن "كل فعل يقابله رد فعل مساو له في الاتجاه
المقابل" كان الزعم بأن الصدام يقع بين:
فعل فاعل
ورد فعل منفعل
متساويين في القوة ومتباينين في الاتجاه. كان الظن إذن
أن اللقاء بين فعل ورد فعل لكل منهما في الثاني. وهو تبسيط لا يطابق البنية
الحاصلة في كل لقاء بين الزوجين المتصادمين لحصره مفعول الصدام على سطح التلامس بينهما.
فلو صحت الرؤية الأولى لكان ذلك يعني أن اللقاء لا
يتجاوز حدي المتصادمين المتواجهين مباشرة فلا ينتج عن الصدام صدى يتجاوز الواجهة
فينفد في المصادم في الاتجاهين بل ولا تحصل حركة وتغير
فضلا عن كون الصدام نفسه لا يمكن تصوره حاصلا لأنه يقتضي
علاقة لم تكن ثم كانت ومن ثم فين العدم والكون صيرورة النقلة ليحصل الصدام. وإذن
فهذه الرؤية التبسيطية لا تصح حتى في تفاعلات الميكانيك المادية لاختلاف إثر أحد المتصادمين
في الثاني إذا كانا مختلفين كيفيا أو كميا وخاصة إذا اجتمع الفرقان.
وإذن فالصدام ليس بين فعل ورد فعل بل هو بين فعلين. وكلا
الفعلين يتجاوزان حد التلامس بينهم فينفذ صدى فعليهما في الاتجاهين المتقبلين
ليشمل بعض كيانهما أو كله متجاوزا الواجهة إلى ما يستطيع الوصول إليه نفاذا في
المقابل فيولد فيه رد فعل هو ممانعته لهذا النفاذ.
وحينئذ فينبغي أن نسأل عن المحدد لهذا النفاذ ورد الفعل
لمنعه وهو ما يمكن اعتباره من جنس المناعة في التصدي للجرثومة أو للفيروس المهاجم.
وحينئذ يكون المثال كيمياوي وبيولوجي وليس ميكانيكي مقصورا على حدي المتصادمين
المتلامسين في التصادم.
ويمكن حينئذ أن نعتبر المحدد في تلك الحالة مضاعف: فهو
كيفي ويتعلق بخصائص المتصادمين المحددة لقوتهما كيفا وكما. فكيف المتصادمين مختلف
وكمه مختلف أو هما ذوي كيف واحد و كم واحد أو متحدان كيفا ومختلفان كما أو العكس.
فيكون نفاذ مفعول أحدهما في الثاني محددا بهذه الحالات
الأربعة وحدة الكيفين ووحدة الكمين واختلافهما كليا أو كيفا دون الكمي أو الكمي
دون الكيفي. فتكون الحصيلة مخمسة حتما: اختلاف زوج الصدام ثم أنواع الثلاثة
المختلفة
لأن المتحدة هي بالذات التي تلغي الحصيلة وتكون ما كان
يتصور في المقابلة المبسطة التي تدعي أن الحصيلة هي فعل ورد فعل مساو له في
الاتجاه المقابل. حينها لا يحصل شيء إذ لن تحصل حركة أو تغير فيكون السكون بل لن
يحصل الصدام أصلا.
فلكأنك تصورت عدوين لهما نفس القوة فهما لا يتحاربان
ويبقى كل منهما ينتظر اختلال التوازن ليشرع في الهجوم فيكون الثاني هو بدوره في
نفس الحالة فلا يحصل الهجوم إلا في الاتجاهين
وكذلك رد الفعل في الاتجاهين بحسب المناعة التي يكون
كلاهما قد أعدها لهذا الغرض مثل البدن عندما يهجم عليه فيروس أو جرثومة. لذلك
فالحد الأدنى في التفاعل بين زوجين هو المخمس الذي وصفت ويكون النموذج كيمياوي وبيولوجي:
الحد الأدنى للتصور التام هو الوحدة البيولوجية الأدنى
وكل لقاء بين قوتين يكون محددا كيفا بخاصيات الزوجين
المختلفة وكميا بمقدار الحاضر منهما في الصدام التفاعلي سلما أو حربا. والمثال
الأوضح هو علاقة الحيوان المنوي بالبويضة في كيان الجنين. أو لقاء أي مادتين
كيمياويتين والتفاعل الحاصل بينهما.
وإذن فالمنطلق هو الزوجية والغاية من اللقاء هو المخمس.
وطبعا لا يتوقف الامر عند هذا الحد. لكن لقاء بعده يكون بين مخمسين ولعل الزوجين
نفسيهما كلاهما مخمس البنية لأنه لا يمكن النزول دون التفاعل في لقاء المتصادمين
المباشر ثم في مفعول كل مصادم في كيف الثاني وكمه
إذ لا يتوقف مفعول الصدام على تلامس الحدين المتلامسين
فيه بل كل منهما ينفذ في الثاني إلى الحد الذي يتوقف يوقفه فيه ما للثاني من مناعة
متمثلة فيه تميزه بكيفه وبكمه.
ولا يد إذن من وجود فرق كمي او كيفي أو كلاهما لتحصل
الحركة شرط حصول الصدام بين زوجين على الأقل يتصفان بأحد هذه الفروق. وهذه الفروق
هي علة التفاعل في الاتجاهين ويترتب عليهما رد الفعل في الاتجاهين المتقابلين.
تقابل المتصادمين.
وهذا هو الحد الأدنى للمفهوم المعبر عما يترجم عنه من
الظاهرة التي يحاول قولها تصوريا دون التأكد من المطابقة لأن أي تفاعل في أي وحدة
مخمسة لا يحصل بمعزل عن بقية نظام العالم الذي ينتسب إليه التفاعل: فمجال حصول
التفاعل شامل للعالم كله سواء اعتبرناه محايثا أو مفارقا له.
فلسنا واثقين من أن التفاعل الادنى يمكن أن يحدث من دون
التفاعل الأعلى في العالم الذي ينتسب إليه. وبمعيار النموذج العضوي فإن المدارك
الحسية لها حدود دنيا وعليا يحميانها مما يتجاوز قدراتها على تحمل تأثير ما في
العالم ما تتحمله.
فلا أستطيع أن اسمع ما دون مستوى محدد من الأصوات وما
فوقها. وذلك يصح على كل حواسي وحتى عندما امكانها من تجاوز الحدين الأدنى الأسمى
فإني لست واثقا
من أن الاجهزة ليست هي بدورها خاضعة لنفس المنطق بمعنى
أنها هي بدورها لا تستطيع تحمل ما دون ما تتحمله وما فوق ما تتحمله بمقتضى كيفها
وكمها.
وبهذا المعنى فغاية ما يمكن أن نسقطه على الوجود الطبيعي
مستمد من اضفاء معنى متجاوز لما ينطبق على جهاز الإنسان العضوي. ولعل رمز ذلك
نظرية الجاذبية. فهي قياس على التجاذب بين البشر والفرق الوحيد
يكمن في العبارة القائلة لتحديد الكمي للنسب بين
المتجاذبين وبمقياس الكتلتين ومقسوما على مربع المسافة الفاصلة بينهما والحصيلة
مضروبة ف في مقدار ثابت مع زعم ذلك صالحا في كل الكون.
وبهذا المعنى فإن المتكلمين على اكتشاف الجاذبية قبل
واضع قانونها لا يفهمون الفرق بين المعنى "العاطفي" المعتمد على القيس
على علاقات البشر والاستعارة منها على القانون.
وذلك هو جوهر تخريف كل المتكلمين على أن صاحب القانون
سرق نظرية الجاذبية من العلماء العرب. فأولا الكلام عليها بالمعنى الانثروبومورفيسم
سابق عند اليونان
وثانيا الانثروبومورفيسم العلمي ليس مقصورا على الاسماء
بل هو يحول الاستعارة إلى مفهوم علمي هو الصوغ الكمي الممكن من معرفة سلوك الاجرام
السماوية ولا يكتفي بالاستعارة من العلاقة العاطفية.
والاستعارة العلمية أداة اكتشاف القوانين رغم أنها لا
دليل على يتجاوزها ما جربناه مما وصلنا إليه من عالمنا الذي استمددنا منه هذا
القانون بما لدينا من أدوات قيس. والمعلوم أنه كلما تقدمنا في المعرفة ازدادت
ادوات القيس لطافة وقدرة على تجاوز ما قسناه سابقا بما هو دونها قدرة على الإدراك.
وبهذا المعنى فلا وجود لغاية معينة هي التي يمكن القول
فيها: الآن وصلنا إلى حقيقة الاشياء في ذاتها وتجاوزنا مجرد ردها إلى ما ندركه
منها. فما ندركه منها يبقى دائما إضافيا إلى الوحدات الدنيا التي هي وحدة المفهوم
المخمس.
وهي تمثل شبه وحدة جنيسة مثلا لوحدة حرارة البدن
الإنساني: إذا نزلت دون 37 بحد معلوم أو صعدت فوقها بحد معلوم ينهار البدن فيرد
إلى ما دون وحدته الشارطة لبقائه حيا. فيكون كيان الإنسان العضوي في تفاعله مع
ذاته ومع العالم الطبيعي والتاريخي
وحدة قيس كما أن الأرض وحدة قيس للعالم إذا اعتبرنا كلام
القرآن على يوم في عالم آخر هو العالم الذي يترك فيه الروح مقداره خمسين ألف سنة
مما نعد في الارض: وهو مثال إذ يمكن أن يوجد ما فوق ذلك من حيث المقدار
ما يعني ان الزمان والمكان يقاسان بزمان الأرض ومكانها
فتكون مقياسا للعالم الطبيعي ويكون كيان الإنسان البدني مقياسا للعالم الروحي
وكيانه البدني للعالم الطبيعي.
وإذن فيمكن القول إن مخمس المفهوم -وهو الوحدة الروحية
الادنى-هو عين مخمس الوحدات الكيفية التي تتبادل التأثير بكيفها وبكمها في كيمياء
العالم الطبيعي عامة ويكون المعنى البيولوجي غاية الطبيعي وهو وحدة مفهومية وعضوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق