تجاعيد - محمد عطية محمود - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 25 مارس 2023

تجاعيد - محمد عطية محمود

التجاعيد التي تلتهمها النار، مع الانكماش السريع المباغت لنسيج الصورة فوق اللهب، لم تكن تلك التجاعيد التي تناثرت على خريطة الوجه كتضاريس تحمل الكثير مما مر.. توحي أو قد لا توحي، إلا أنها تحفر في ذهنك وشمًا لا يتغير ولا يتبدل عن تلك اللحظة الأولى التي استلهمت الشرارة التي أوقدت شعلة لن تنطفئ..

لم تكن لتجرؤ يومًا أن تخرج صورة - طالما اشتهيت وجودها في حوزتك - من مكمنها كَسِرٍّ مقدس، إلا لتراها على عجل ثم تدسها في خبيئة لا يعلمها سواك: ربما في جوف علبة لقارورة عطر معتقة، أو بين طبقات كتاب لا يجرؤ أحد على مجرد ملامسة صفحاته، لا محاولة استطلاع ما فيه من سطور، أو في جوف صندوق قديم يحمل تراثًا لا يدرك قيمته سواك.

ربما قفزت العينان من الصورة توجهان إليك شررًا صامتًا، عتابًا جالدًا، لا بد وأن تميِّزه عن ذاك الشرر لشظايا الصورة وهي تتلاشى منزعجة هاربة من أسرها، ربما تناثر محاولًا الصعود كي يشعرك باصطلائه، يلامس وجهك أو يدك التي لا تدري هل ارتعشت وهي تمسك بالصورة؟ أم فقط كنت منصتًا بوجل لقفزات خافقك في صدرك ضاغطا ومحذرا؟ بل لا تدري كيف طاوعتك أناملك كي تلتقطها وتمضي بها من المكان الذي تغير لعديد من المرات؟

وأنت تتحاشى النظر إلى ملامحها الساكنة اللائمة أو اللا مبالية المحبوسة في الصورة، تلك اللحظة التي ماتت فور التقاطها لها - منذ زمن - لتتوقف عندها التجاعيد عند ذاك الحد الذي يشعر الرائي لها أنها بلا تجاعيد، ولتصير بعد تلك الصورة كيانًا مختلفًا عما كانته من قبل، ربما نسيَتْ أو تناست تاريخًا من العناء أو الهناء.. لا فرق، فكل الأشياء ذهبت مع الصورة التي تحجرت عند هذه المرحلة.

ربما كانت النظرة: نظرة شك، أو نظرة ذهول، أـو نظرة مستشرفة للبعيد، أو نظرة حجبتها غشاوة، أو ضباب يواري ما مضى أو ما هو آت!!.. تجعلك كرائي - لا كمشاهد أو متلذذ في تفاصيل عشقك للوجه - تحتار معها؛ إلى أي الاتجاهات تمضي وتمضي بك، وهي قابعة تتكئ عيناها بنظراتها التي تختطف لب الصورة على كتفين أنيختا كمن حطت حملًا للتو، ولا يزال أثره يثقلهما ويدفعهما للأمام كالمضطر؛ فيؤثر في اتجاه النظرة ومداها وزاوية ارتفاعها أو انخفاضها؛ لتثير ربكة، لعلها ما شغلك في تلك اللحظة التي سبقت اشتباك نسيج الصورة مع عين اللهب، وأصابك أثرها بشعور مغاير لم تشعر به من قبل، حتى وأنت تواجه الوجه الحقيقي لا الصورة من قبلها أو من بعدها..

هل تبلدت مشاعرك؟.. هل توقفت قبل نقطة البدء التي كانت، وصارت تاريخًا معرضًا للنسيان أو تفلت تفاصيله؟. لكن تفاصيله الآن تتري على ذهنك.. تتوالى.. تشرع في إحكام ستار وحبل خانق من الندم حول رقبتك وقلبك، وربما اتهامك بالتهور والتسرع، وعدم الالتفات إلى أن الصورة ربما لم يكن لها داع أن تصل إلى خبيئتك، والملامح محفورة بداخلك.. فما الذي دفعك للتخلص منها؟.. هل صارت عبئا، أم تخلت عنها قوانين وجودك؟

لكنك وفي تلك اللحظة المشوبة بخليط من الإدراك أو عدم الإدراك على حد السواء، تخوض في جدل جديد، وإبحار فيما وراء الصورة بثبات انفعالي غريب، فلعلك لم تكن واقفًا خلف الكاميرا في ذاك الزمن المنصرم الذي لا يربطك به شيء سوى تلك الصورة التي عاجلها قرار المحو؛ كي ترصد اللويحظة التي سبقت اللقطة أو التي تلتها، أو كم اللقطات التي التقطها المصور كي يخرج بتلك الملامح الاستثنائية التي لا تبدو فيها التجاعيد، وأثر الزمن، وربما كانت التجاعيد موجودة، ولكن ربما كان للابتكار والإمكانيات دور كبير في استبعاد الندوب والتجاعيد والبروزات التي أحدثها الجفاف والجفاء، ليكون الوجه رائقا..

فماذا لو كذب الوجه المصنوع أو المعدل؟.. هل تكذب أيضًا تلك الروح التي تعلقت بسطح الصورة لتضع أثرًا لحظيًا وتجاعيد مغايرة قد تشعر بها ولا تراها، أو تخفي التجاعيد التي ربما استشعرتها قنوات استشعارها أو حدستها أو قراءتها في وضع آخر لكاميرا حواسك، أو تلك الملامح بتفاصيلها التي لا تبارح مخيلتك، لتسير مع تطور ربما كان طبيعيًا لمرور الزمن، وهو يمضي بعرباته فوق تلك التضاريس، لكنه لا يمنع عنك تلك الصورة التي لم تحترق بداخلك، بل واستنسخت منها روحك العديد من الصور التي لم يستطع أمهر مصور أن يلتقطها، واحتفظت بها، ربما صورة بكاميرا لا يملكها إلا أنت، ولا يستطيع أن يحدد زواياها سواك.

كي تتيقن أخيرًا أنك لم تضرم النار في ملامح حقيقية تعرفها، بل ربما كنت تبغي محو تلك اللحظة من اللا تحديد التي عاصرتها تلك اللقطة التي لا تعطي بقدر ما تسلب جذوة نار بداخلك لا تلتهم الصورة بقدر ما تولد فيها الصورة من جديد بلا تجاعيد، أو تصنع أنت لها تجاعيد تعطيك القدرة أكثر على القبض على لحظات الزمن البعيدة عن إدراكك، كي تحبسها داخل لقطات متوالية تشعرك بأثر الزمن المتواري خلف عينين لا تزالان تلوحان لك من وسط الرماد المتناثر لنسيج الصورة الذي كان براقًا، تراوغ فيك الأمل في استعادتها من جديد!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق