ذٰلِكَ ٱلْشَّرَكُ ٱلْاِرْتِدَادِيُّ: جَلِيَّاتُ ٱلْإِيْمَانِ أَمْ خَفِيَّاتُ ٱلْإِلْحَادِ؟ (2) - غياث المرزوق - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 27 مارس 2023

ذٰلِكَ ٱلْشَّرَكُ ٱلْاِرْتِدَادِيُّ: جَلِيَّاتُ ٱلْإِيْمَانِ أَمْ خَفِيَّاتُ ٱلْإِلْحَادِ؟ (2) - غياث المرزوق


كَيْفَ لِي أَنْ أُومِنَ بِإِلٰهٍ يَمْنَحُنِي عَقْلاً لِكَيْ أَدِلَّ بِظَاهِرِهِ دَلاًّ، وَفي ذَاتِ ٱلْآنِ يَمْنَعُنِي أَيَّمَا مَنْعٍ مِنْ أَنْ أَسْتَدِلَّ بِبَاطِنِهِ مُسْتَدِلاًّ؟ - غَالِيلِيُو غَالِيلِيهْ 
 

أقولُ إكمالاً بالإتباعِ لمَا جَاءَ في القسمِ الأوَّلِ من هذا المقال، وقد تأوَّجتْ لادِرايةُ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ المعنيِّ، هادي حسن حمودي، في منهجِهِ العلميِّ الخارقِ للطبعِ والتطبُّعِ والمُخالفِ لكلِّ ما هو مألوفٌ، أو حتى لامألوفٌ، علميًّا في «تَفْسِيلِهِ» الاشتقاقيِّ المُزَنَّمِ (عن حَقْوَيِ «التفسيرِ» و«التأويل» كليهما، في آنٍ واحدٍ) لحُدوثِ حالةِ الرَّفْعِ في كلمةِ «الصَّابِئُونَ» بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ «إِنَّ» بعينهِ، خالطًا كلَّ الخلطِ بين ما يُسَمَّيانِ بـ«المعنى النحويِّ» وبـ«المعنى اللغويِّ» في الأدبِ والنقدِ الأدبيِّ (على الأقلِّ، بمُقتضى مفهومِ المعنى الأولِ عندَ العلاَّمةِ الفذِّ عبد القاهر الجُرْجَاني)، ومُقْحِمًا كلَّ الإقحامِ في المعنى الثاني «كلَّ مَنْ صَبَؤوا عن عبادةِ الأصنامِ (بمنْ فيهم الصَّابِئونَ من معشرِ المسلمينَ أنفسِهِم)»، كما في المثالِ التالي: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى» (المائدة: 69) – على الخلافِ كلِّهِ، مبنًى ومعنًى، من حُدوثِ حالةِ النَّصْبِ في الكلمةِ ذاتِها بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ ذاتِهِ، كما في المثالَيْن التاليَيْنِ: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ» (البقرة: 62)، و«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى» (الحج: 17). أقولُ «لادِرايةً»، ها هنا، لأنهُ لو كانَ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ المعنيُّ «داريًا» بالفعلِ لَمَا راقَ لهُ، في الظاهرِ، استنفارُ كلٍّ من مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ وهُمْ بكاملِ قدراتِهِم العقليةِ «التلفيقيةِ» هذِهِ المرَّةَ، ولَمَا راقَ لهُ، في الباطنِ، من ثمَّ استعداءُ هؤلاءِ المُريدينَ كافَّتِهِم على مَنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، وذلك من أجلِ اتِّهَامِهِ بكافَّةِ التُّهَمِ الإقصائيةِ والنهائيةِ والمُسْتَحْضَرَةِ استحضارًا مُسبقًا في أفئدتِهِمْ قبلَ أدمغتِهِمْ، من جُرْمِ «الرِّدَّةِ» إلى جُرْمِ «التَّكْفيرِ» إلى جَريمةِ «التَّهْويدِ» حتى (أي القولُ التلفيقيُّ بـ«يهوديَّةِ» القرآنِ، حسبَ مصطلحاتِهِم الببَّغائيةِ)، لمجرَّدِ أنهُ نوَّهَ بالحقِّ تنويهًا إلى تلك «اللادِرايةِ»، من خلالِ ما أبداهُ من مُلاحظاتٍ نقديةٍ بَنَّاءَةٍ وجَادَّةٍ كلَّ الجدِّ على حُزْمَةِ «إشراقاتٍ» ممَّا يُسَمَّى بـ«ثقافةِ التعليبِ الجاهزِ»، على النقيض من أيَّةِ حُزْمَةٍ مقابلةٍ أُخرى منْ «إرْهَاصَاتِ» ما يُمْكنُ أنْ يُدْعَى بـ« ثقافةِ التَّشْكِيكِ الرَّائزِ». وقد تبدَّتْ حُزْمَةُ «الإشراقاتِ» تلك أيَّما تَبَدٍّ في حلقاتِ ما كانَ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ يُسَمِّيهِ بـ«شيءٌ مِنَ اللغةِ»، حلقاتٍ نُشِرَتْ تباعًا في صحيفةِ «القدس العربي» قبلَ حَوالي حَوْلٍ من الزمانِ من تاريخِ الإصدارِ البدئيِّ لهذا المقالِ، فكانتْ بالتالي مَدْعاةً حَمَاسِيَّةً، لا بلْ تَحَمُّسِيَّةً، في لجُوءِ المُتَشَايِخِينَ «الوَرِعينَ» و«الأتقياءِ» من أولئك المُريدينَ، دونَ سواهُم، إلى الاستشهادِ الجَهُولِ والحَرونِ على طريقةِ «انصُرْ أخاكَ ظالمًا، أو ظالمًا، لا مظلومًا» بأحاديثَ نبويَّةٍ، تقريظًا وتَلَهْوُقًا لـ«أهلِ العراقِ» باعتبارِ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ ذاتِهِ متحدِّرًا كلَّ التحدُّرِ منهم، على الرَّغمِ من أنَّ تلك الأحاديثَ النبويَّةَ ذواتِهَا لَأحاديثُ مُخْتَلَقَةٌ (أو موضوعةٌ، بالاصطلاحِ) قدْ ثَبُتَ بطلانُها وزيفُها ونكرانُها منذ العديدِ من القرونٍ، كالحديثِ الذي يزعمُ نقلاً عن دُعاءِ محمدٍ بأنَّ اللهَ قالَ مخاطبًا إبراهيمَ إنَّهُ (أي الله) «قدْ جعلَ خزائنَ علمِهِ في أهلِ العراقِ، دونَ غيرهِمْ»! – ولَكُمَا أنْ تتخيَّلا، أيَّتُها القارئةُ الكريمةُ وأيُّها القارئُ الكريمُ، في هذهِ القرينةِ بالذاتِ، مدى انتفاشِ أرياشِ المَعْنيِّينَ بالأمرِ من هكذا تقريظٍ منقُولٍ، ومدى انتفاخِ أرْؤُسِهِمْ من هكذا تَلَهْوُقٍ مصقُولٍ، وعلى رأسِهِم، بطبيعِةِ الحالِ، الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ المعنيُّ بـ«التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ «المعقُولِ». 

ليسَ المَرَامُ من هذا المقالِ البسيطِ أنْ يُماطَ اللثامُ عن قضايا «تَفْسِيلِيَّةٍ» قدْ عَفَّسَ فيها هذا الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ تَعْفيسًا إلى حدِّ الامتهانِ والابتذالِ، بحرفيَّتَيْهِمَا (وعلى فكرةٍ، فإنَّ معنَيَيِ «الامتهانِ» و«الابتذالِ» لَمَعْنَيَانِ أساسيَّانِ من معاني الفعلِ الثلاثيِّ المُجَرَّدِ «عَفَسَ»، في اللغةِ العربيةِ) – هذهِ القضايا «التَّفْسِيلِيَّةُ» بالذَّوَاتِ، إنْ جاءَ للحقِّ وللحقيقِ، إنَّما تحتاجُ إلى مقالاتٍ تفصيليَّةٍ معمَّقةٍ جِدِّ خاصَّةٍ، وإلى مجالاتٍ تأصيليَّةٍ موثَّقةٍ جِدِّ خاصَّةٍ كذلك. ليسَ المَرَامُ، إذنْ، في معرضِ الكلامِ عن هكذا لُغَةٍ نموذجيَّةٍ أن تُشْرَحَ بعضَ الشَّرْحِ من حيثُ استقصاءُ جانبِها اللسانيِّ، بَلْ المَرَامُ هنا أن تُشَرَّحَ هكذا لُغَةٌ نموذجيَّةٌ بعضَ التَّشْرِيحِ من حيثُ استكْنَاهُ جانبِها النفسانيِّ، في الحَيِّزِ الأوَّلِ. بصريحِ العبارَةِ، أوَّلاً وآخرًا، هكذا لُغَةٌ نموذجيَّةٌ يجيءُ بها جيئةً هكذا باحثٌ جامعيٌّ مُتَبَرْفِسٌ مُتَدَكْتِرٌ لا تعدو أن تكونَ، في أرقى وأسمى هيئاتِهَا، تمثيلاً «واقعيًّا» ملمُوسًا هو أدنى وأزرى ما يُمكنُ أنْ يكونَ تمثيلاُ، على أرضِ الواقع، لِمَا يُسَمِّيهِ المحلِّلُ النفسانيُّ الفرنسيُّ جاكْ لاكانُ اصطلاحًا بـ«الخطابِ الجامعيِّ» University Discourse، أو ما يدعوهُ كذلك في كثيرٍ من الأحايينِ تهكُّمًا واستهجانًا واستخفافًا بـ«الخطابِ الأكاديميِّ» Academic Discourse، وذلك في إطارِ نظريَّتِهِ «اللغويةِ-النفسيةِ» الشهيرةِ عن بِنَى «الخطاباتِ الأربعةِ» وعن تجلِّيها في الحَيَواتِ الذهنيةِ، أو حتى في الحَيَواتِ العاطفيةِ، جُلِّها. وبناءً على ذلك، تتميَّزُ هذهِ الخطاباتُ الأربعةُ عن بعضِها البعضِ تميُّزًا سُكُونِيًّا لاكشفيًّا، إنْ جازَ القولُ، ولكنَّها تتواشَجُ فيما بينَها تواشُجًا حَرَكِيًّا كَشْفِيًّا: إذْ يَبِينُ الخطابُ الجامعيُّ (أو الأكاديميُّ) هذا، فيما لهُ مِسَاسٌ بترتيبِهِ المبنيِّ على شدَّةِ تأثيرِهِ واشتدادِ هيمنتِهِ في تلك الحَيَواتِ الذهنيةِ (أو العاطفيةِ)، بيانًا لَحْقِيًّا بعدَ «الخطابِ السِّيادِيِّ» (الأوَّلِ) تحديدًا، من زاويةٍ، ويَبِينُ علاوةً عليهِ بيانًا سَبْقِيًّا قبلَ كلٍّ من «الخطابِ الهُرَاعِيِّ (أو الهستيريِّ)» (الثالثِ) و«الخطابِ العُصَابيِّ (أو التحليليِّ)» (الرابعِ)، من زاويةٍ أُخرى. وإنْ دلَّ هذا الترتيبُ التأثيريُّ الهَيْمَنِيُّ على شيءٍ فإنَّهُ يدُلُّ على استنادِ تداعياتِ الخطابِ الجامعيِّ (أو الأكاديميِّ) استنادًا ضمنيًّا مباشرًا، أو غيرَ مباشرٍ، إلى تداعياتِ الخطابِ السِّيادِيِّ تحديدًا، كذلك. وقد عَمَدَ لاكانُ نفسُهُ إلى اشتقاقِ مفهومِ هذا الخطابِ السِّيادِيِّ بدورهِ، في الأصلِ، من ذلك التعالقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ مَا بينَ السيِّدِ الآمِرِ والعَبْدِ المَأْمُورِ – أيْ أنَّ كلاًّ منهما يَسْعَى إلى ابتناءِ الآخَرِ وإلى انتقاضِهِ في آنٍ واحدٍ، حسبمَا كانَ يرتئيهِ الفيلسوفُ الألمانيُّ جورج فريدْريك هيغِل. ويقتضي هذا الارتئاءُ، بدورِهِ هو الآخَرُ، منطقًا جدليًّا تَنَافَوِيًّا بأنَّ كلاًّ من السيِّدِ الآمِرِ والعَبْدِ المَأْمُورِ لَمَسْلُوبُ الحُرِّيَّةِ، في آخِرِ المطافِ: العبدُ المَأْمُورُ مَسْلُوبَةٌ حُرِّيَّتُهُ بمقتضَى دَوَامِ سيطرةِ السيِّدِ الآمِرِ عليهِ، من ناحيةٍ أولى، والسيِّدُ الآمِرُ مَسْلُوبَةٌ حُرِّيَّتُهُ كذلك بمقتضَى سَعْيِهِ (الاسْتِرْقاقيِّ) الدَّؤوبِ إلى صَوْنِ دَوَامِ هذِهِ السيطرةِ على العبدِ المَأْمُورِ، من ناحيةٍ أُخرى – تمامًا مثلما أنَّ كلاًّ من السَّجَّانِ الناظِرِ والسَّجِينِ المنظُورِ لَمَسْلُوبُ الحريَّةِ بمُوجبِ المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ عينِهِ، وتمامًا مثلما أنَّ كلاًّ من الطاغيةِ العتيِّ والشعبِ المَعْتِيِّ (عليهِ) لَمَسْلُوبُ الحريَّةِ بمُوجبِ المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ عينِ عينِهِ، المنطقِ الذي لا يني يبرهنُ، في جوهرِهِ الاستدلاليِّ الكَنِينِ، على حتميَّةِ مسألةِ «انبثاقِ الشَّيْءِ من نقيضِ الشَّيْءِ» الآنفةِ الذكرِ في القسم الأولِ من هذا المقالِ، وذاك في سياقِ انبثاقِ جَرَاءَةِ وجَسَارةِ ذلك الإعلاميِّ اللاَّسِنِ المعنيِّ من صُلْبِ مجتمعٍ مقيَّدٍ ومكبَّلٍ، من قمَّةِ الرأسِ إلى أخمصِ القدمينِ، ولكنْ من منظارٍ فلسفيٍّ منطقيٍّ آخَرَ. 

وهكذا، وبمثابةٍ نفسيَّةٍ لا تختلفُ عن تلك المثابةِ الفلسفيةِ التي سبقَتْهَا للتوِّ، من حيثُ المبدأُ، تتبدَّى إرهاصاتُ «المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ» المُتَكَلَّمِ عنهُ، في هذا السياقِ، على النحوِ التالي: فمن جانبٍ أوَّلَ، ينبثقُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ من «آخَرِهِ» هَائجًا أيَّمَا اهتياجٍ، حينمَا يُعلنُ، أو يظنُّ أنَّهُ يُعلنُ، استنطاقَ واستجوابَ مَا بحوزتِهِ عنِ الحَقِّ من علمٍ ذاتيٍّ، أو من علمٍ موضوعيٍّ، من أجلِ الحَقِّ ذاتِهِ، وذلك التماسًا للوقوفِ بعقلانيَّةٍ لامَرَضِيَّةٍ وقوفًا «حَرُونًا» «متصلِّبًا» في وَجْهِ الطُّغيانِ بكلِّ أشكالِهِ قدَّامَ العراقِ وقدَّامَ العالَمِ، على حَدٍّ سَوَاءٍ؛ ومن جانبٍ آخَرَ، ينبثقُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ من «ذاتِهِ» حَائِجًا أيَّما احتياجٍ هذهِ المرةَ، حينمَا يُعلنُ ها هنا، دونَ أنْ يظنَّ أنَّهُ يُعلنُ، استغلاقَ واستطباقَ مَا بجعبتهِ عن «النَّحْوِ» من علمٍ ذاتيٍّ، أو من علمٍ موضوعيٍّ، من أجلِ «النَّحْوِ» ذاتِهِ، وذلك التماسًا للوقوفِ بلاعقلانيَّةٍ مَرَضِيَّةٍ وقوفًا «حَرُونًا» «متصلِّبًا» في وجهِ «تخطيءِ» القرآنِ و«تقويلِهِ»، رغمَ جهلِهِ الأتَمِّ بمَا ارتكبَهُ هو ذاتُهُ من تخطيءٍ وتقويلٍ، ورغمَ ذَوْدِهِ الأشَدِّ حِرَانًا والأشَدِّ تصلُّبًا عن هذا الجهلِ، وبلغةٍ أكثرَ طُغيانيَّةً حتى من لغةِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أنفسِهِمْ. أقولُ «حَائجًا أيَّمَا احتياجٍ هذهِ المرةَ»، من هذا الجانبِ الآخَرِ بالذاتِ، لماذا؟ – لأنَّ الباحثَ الجامعيَّ المُتَبَرْفِسَ والمُتَدَكْتِرَ ذاتَهُ، من خلالِ «خروجهِ» المزعومِ عن طاعةِ الطاغيةِ العراقيِّ المعيَّنِ، أيًّا كانَ، إنَّما هو في أمسِّ حاجةٍ إلى اختلاقِ طاغيةٍ عراقيٍّ، أو لاعراقي، آخَرَ من ذاتِهِ ولِذاتِهِ في التعنُّتِ في الرَّأْيِ النحويِّ والتشبُّثِ بهذا الرَّأْيِ، وذلك سَعْيًا وراءَ مَلْءِ فراغٍ أو سَدِّ نقصٍ في تكوينهِ النفسانيِّ إجمالاً، أو سَعْيًا وراءَ استجلابِ توازنٍ نفسانيٍّ من نوعٍ يترتَّبُ على نوعيةِ عيشِ الحياةِ اللامألوفةِ في «البُعادِ»، سواءً كانَ هذا «السَّعْيُ» الازدواجيُّ سَعْيًا واعيًا أم سَعْيًا لاواعيًا، وسواءً كانَ ذاك «الخروجُ عنِ الطاعةِ» المزعومُ خروجًا حقيقيًّا أم خروجًا مُزَيَّفًا. وهكذا، أيضًا، ينجلي ما يَخالُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ أنَّ «اجتهادَهُ» المَدِيدَ والسَّدِيدَ في التقويمِ العلميِّ (أو المعرفيِّ) في قضايا «التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ الآنفةِ الذكرِ إنَّما هو «اجتهادٌ بنائيٌّ تشييدِيٌّ» في صَالحِ كلٍّ من «اللغةِ العربيةِ التليدةِ» و«الأُمَّةِ الأرَبِيَّةِ العتيدةِ»، بوصفِهَا ناطقةً على مَرِّ الزمانِ وجَرِّ المكانِ بهذهِ اللغةِ المجيدةِ، ينجلي كلَّ الانجلاءِ أنَّهُ، من وراءِ هكذا «اجتهادٍ جَهيدٍ» مَدِيدٍ وسَديدٍ في التَّعْوِيجِ العلميِّ (أو المعرفيِّ) في قضايا «التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ ذاتِها، لا يعدو أن يكونَ، ها هنا في المقابلِ، «اجتهادًا هَدْمِيًّا تقويضيًّا» في طالحِ كلٍّ من هذه «اللغةِ التليدةِ» بذاتها وهذه «الأُمَّةِ العتيدةِ» في حَدِّ ذاتِها، في حقيقةِ الأمر. ذلك لأنَّ تداعياتِ الخطابِ الجامعيِّ (أو الأكاديميِّ) المُتَحَدَّثِ عنهُ، بوصْفِهِ خطابًا قائمًا، في الأساسِ، على تداعياتِ ما يُسَمَّى صَحًّا بـ«الخطابِ المُؤَسْأَسِ» Institutionalized Discourseتحديدًا، لا تقومُ أساسًا على نقلِ تَنْوِيرَاتِ العِلْمِ (أو المعرفةِ) من عقلٍ تفكُّرِيٍّ مُرْسِلٍ إلى عقلٍ تفكُّرِيٍّ مستقبِلٍ نقلاً إنتاجيًّا إيجابيًّا وإبداعيًّا، بلْ تقومُ أسَاسًا على نقلِ تَظْلِيمَاتِ القُوَّةِ (أو السُّلْطةِ) من آلةٍ تَفَوُّهِيَّةٍ فاعلةٍ إلى آلةٍ تَفَوُّهِيَّةٍ منفعلةٍ (أو، بالحَرِيِّ، مفعولٍ بها) نقلاً استهلاكيًّا سلبيًّا وإخفاقيًّا (أو حتى «إهْلاكِيًّا» و«إبَادِيًّا» و«إفْنائِيًّا»). بوجيزِ العبارةِ، بعدَ كلِّ هذا الاسترسالِ وكلِّ هذا الإسهابِ المقصُودَيْنِ، فإنَّ الباحثَ الجامعيَّ المُتَبَرْفِسَ والمُتَدَكْتِرَ ذاتَهُ إنْ هو إلاَّ تجسيدٌ لِذاتِ الآلةِ التَفَوُّهِيَّةِ الفاعلةِ ذاتِها، في أحسنِ أحوالِهِ، وإنَّ مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ كافَّتِهِمْ إنْ هُمْ إلاَّ تجسيماتٌ لِذواتِ الآلاتِ التَفَوُّهِيَّةِ المنفعلةِ (أو المفعولِ بها) ذواتِها، في أحسنِ أحوالهم.  

ناهيكُما، بالطبعِ، عن وقوعِ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ ذاتِهِ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في التناقضِ بينَ مَا ظَهَرَ من الإيمَانِ ومَا بَطَنَ من الكُفْرِ، من طرفٍ أوَّلَ، حينمَا يحمِّلُ القرآنَ مَا لا يحمِلُهُ بأيِّ نَحْوٍ كانَ بتاتًا من جرَّاءِ مَا انتهجَهُ من منهجٍ «تَفْسِيلِيٍّ» غرائبيٍّ وعجائبيٍّ. وناهيكُما، بطبيعةِ الحالِ، عن وقوعِ الإعلاميِّ اللاَّسِنِ المَعْنِيِّ ذاتِهِ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في التناقضِ بينَ مَا جَلِيَ من الإيمَانِ ومَا خَفِيَ من الإلحَادِ، من طرفٍ آخَرَ، عندما يقولُ، في سياقِ «نقدِهِ» الجَزْمِيِّ للتعصُّبِ الإيديولوجيِّ (الدينيِّ)، قولاً لاهوتيَّا جَازمًا بأنَّهُ «لا أحدَ يملكُ ناصيةَ الحقيقةِ كاملةً غيرُ اللهِ»، وعندما يستشهدُ استشهادًا، في الوقتِ نفسِهِ، برأيٍ فلسفيٍّ أكثرَ جَزْمًا من ارْتِئَاءِ الفيلسوفِ الألمانيِّ فريدْريك نيتشه عن فَشَلِ المرءِ في التخلِّي عن أوهَامٍ عاشَ عليهَا طوالَ عمرهِ، وذلك خوفًا من الانهيارِ كلِّهِ وخوفًا من التردِّي والسُّقُوطِ  في حَضيضِ الهَاويةِ.  

ومَنْ مِنَّا الآنَ، في هذا الزمَانِ الفُضُوليِّ الخَاطِفِ، لا يعلمُ أنَّ هذا الفيلسوفَ عينَهُ كانَ من أوائلِ الفلاسفةِ الملحدينَ بوُجُودِ اللهِ، لا بلْ كانَ من أوائلِ الفلاسفةِ المؤمنينَ بـ«مَوْتِ اللهِ»، بعبارةٍ فلسفيةٍ أقربَ إليهِ بالفَحْوَى – خُصُوصًا وأنَّهُ كانَ يشيرُ بتلك «الأوهامِ» التي حَيِيَ الإنسانُ عليها مَدَى حياتِهِ إلى «أوهَامِ الإيمَانِ بوُجُودِ اللهِ»، في حَدِّ ذاتِهَا؟ 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق