أدونيس التسعيني: لمعة العين التي لاتنطفئ، وهجُ العقل الذي يتعلّم - لطفية الدليمي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 29 مارس 2023

أدونيس التسعيني: لمعة العين التي لاتنطفئ، وهجُ العقل الذي يتعلّم - لطفية الدليمي


لو أردتَ أن تعرف بعضاً من خواص من تراه من البشر فدقّقْ كثيراً في هندسته البدنية. هذا بعضُ ما أنا مقتنعةٌ به بعد طول تجريب ونظر. أنظرْ في عينَي المرء. ماذا ترى فيهما؟

هل ثمة ألقٌ ولمعةٌ تشيان بحبّ الحياة والرغبة في الاستزادة من المعرفة على صعيد الفكر والتجربة الحيّة الخلاقة؟ هل ترى بَرَماً ونكوصاً يعكسان شعور مَنْ بات يرى الحياة ثقلاً على كتفيه وبخاصة عندما يتقدّمُ في سنواته؟

رأيتُ أدونيس وهو في الثالثة والتسعين من عمره. لم أره عياناً مرّة؛ لكني رأيتُ صوراً عديدة له مُذْ كان شاباً في مقتبل حياته في ستينات القرن الماضي. يبقى أدونيس كما هو: تلكما العينان اللتان تكشفان عن غواية مديدة لإقتناص المعرفة والتعلّم في كلّ فرصة متاحة. لم أره يوماً بعينين كسيرتين أو بترهّل جسدي يكشف عن خواء عقلي أو نفسي أو يأس أو الشعور بالضياع في متاهة الوجود.

من يظنُّ في أدونيس شاعراً فحسب مخطئ أيما خطأ. لو كان أدونيس شاعراً يتعامل مع شعريته كوقفية موكولة للمنصّات الاحتفائية لما كان أدونيس الذي نعرف. هو يُعلي مكانة الشعر، ويستأنسُ بفكرة كونه شاعراً وأنّ زمن الشعر لم ولن يأفل؛ لكنّ الشعر الذي يعنيه إنما هو موقف فكري يكاد يلامس معظم تضاريس الخرائط المعرفية في عصرنا هذا.

عرفتُ أدونيس بوساطة كتبه. عرفته بصورة مكثفة بعدما قرأتُ كتابه التأسيسي (الثابت والمتحوّل) بأجزائه الثلاثة التي أضاف لها لاحقاً جزءاً رابعاً. لن أدّعي أنني قرأتُ كلّ أو معظم ماكتبه أو ترجمه أدونيس؛ لكني تابعتُ معظم حواراته المنشورة فضلاً عن قراءة بعض كتبه وأهمّها – كما أرى – بعد الثوابت والمتحولات في مدوّنات الثقافة العربية هو كتاب عنوانه (ها أنت أيها الوقت: سيرة شعرية ثقافية). لم أقرأ إلا أقلّ القليل من شعر أدونيس؛ فترجماته وكتبه التأسيسية في موضوعات مفصلية في الثقافة العربية كانت لديّ دوماً أكثر أهمية من شعره.

الحوار الأخير الذي قرأته مع أدونيس منشوراً على صفحات (بوابة الاهرام) الثقافي* كان في غاية الفرادة والثراء وأعاد لذهن القارئ طروحات أدونيس التي صارت علامة شاخصة له. سأعمل في الفقرات التالية على تأطير وتحديد بعض الافكار التي أراها مهمّة في هذا الحوار المنشور حديثاً يوم 17 مارس (آذار) 2023:

- أدونيس شخصٌ لا يكفُّ عن التعلّم:

إحدى الشواخص المميزة لكلّ عقل مؤثر في مسار التجربة الانسانية هي أنّ صاحبه يُؤثِرُ التعلّم الذاتي على التعلّم الرسمي أو الشكلي في المدرسة أو الجامعة. التعلّم الذاتي لا ينقطع، وفضيلته العظمى تكمنُ في أنّ الاستزادة منه تستثيرُ حلقة إسترجاعية من الشغف الذي يعمل بدوره على تعزيز ممكنات التعلّم والرغبة في المعرفة. لنستمع لأدونيس يصف حالة التعلّم الذاتي لديه:

" أنا لا أحبُّ الطريقة العربية فى الحديث عن الذات، والحديث عما أنجزته، أنا شخص أتعلم، وكلما تقدمت فى العلم أشعر بأننى لا أعرف شيئاً؛ ولذا لا أحب أن أتحدث عما أنجزته; لأن ما أنجزته إذا قيس بالعظماء الذين أنجزوا ما أنجزوه، أرى أن ما قدمته متواضع جداً. "

- معضلة غياب الهوية الفردية الهشّة إزاء الهوية الجمعية الساحقة:

معضلة الفردانية Individuality تمثلُ إشكالية كبرى في العالم العربي والثقافة العربية. لازالت ملامح القَبَلية والتفكير الامتثالي طاغية في الثقافة العربية. ثمة عناصر كثيرة تدفع لتعزيز هذه الحالة، منها: التفكير اللاهوتي المعزّز لفكرة (الجماعة)، والاقتصاديات المتخلفة التي لم تعمل على تعزيز فكرة الفرد الخالق للثروة. عندما يعيش الفرد طفيلياً على مخلفات إقتصاد ريعي تتعاظم فكرة الجماعة الغالبة الممسكة بمخرجات الثروة والسلطة وتتراجع فكرة الفرد الخلّاق. يصف أدونيس هذه الحالة فيقول (أرجو أن ينتبه القارئ أنّ الفردانية هي الذاتية طبقاً لمفهوم أدونيس):

" أنت فى العالم العربي وفي الثقافة العربية السائدة لا ذاتية للإنسان بل مجرد مجموعة من التعاليم، إفعل هذا و لا تفعل ذاك؛ فالإنسان العربى لا ذاتية له، وكل ما فعلتُهُ فعلتُهُ مع أصدقاء من مشروعات لأقول "لا" لهذه الثقافة؛ لأن هذا أمر مرتبط بالثقافة العربية السائدة؛ فالأساس هو الجمع والأمة، الذاتية لا وجود لها، وهناك مقولة للفارابي: (كل موجود فى ذاته فذاته له، وكل موجود فى آلته فذاته لغيره)، ونحن العرب لا موجودون ذاتياً؛ بل موجودون فى آلة دينية أو آلة سياسية لا فى ذواتنا، أو هما معاً: آلة دينية وسياسية، وأنا مازلت أبحث عن ذاتي، وقد نجحت حيناً وفشلت حيناً آخر؛ غير أنه لا يمكن النجاح أبداً على فكرة تقوم جوهرياً على محو الذات. ثقافتنا قائمة على محو الذات، وقائمة على الجمع وعلى الأمة، وأنت كفرد فى أمة لا رأي لك. "

- الانسان هو الغاية العليا، والدين يجب أن يخدمه:

معضلة الدين في العالم العربي تكمن في التعامل معه كمنظومة علوية مغلقة قامعة لا تقبلُ القراءة التأويلية الخاضعة لمتطلبات تحسين نمط العيش البشري. التأويل يجري دوماً لصالح جماعات مذهبية مكتفية بقناعاتها الراسخة التي لا تعدو في غالب الاحيان أن تكون روايات أسطورية.

لا يمكن تجديد الخطاب الديني وتثويره معرفياً باتجاه أن يكون خطاباً داعماً لآليات التقدّم العلمي والتقني والاقتصادي إلّا بعدما يتمّ نقل الدين من فضاء اللاهوت الانغلاقي المكتفي بذاته إلى فضاء النسق الثقافي القابل للنقد والمساءلة وتقليب وجهات النظر في ضوء المستجدات المعرفية. ثمة موضوعة في غاية الاهمية كذلك: ضرورة فصل الاخلاقيات عن المنابع الدينية. الاخلاقيات ليست صناعة دينية بل هي صناعة بشرية خالصة.

يقول أدونيس في هذا الشأن:

" حاولت أن أعيد كتابة التاريخ الذى أنا وأنت جزء منه، أعيده بشكل صحيح؛ لأنه بالأخير وُجِدَ الدين من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين، هذه قاعدة، الإنسان هو الغاية العليا،... .. ودون الخطاب التجديدي للدين سيشوّهُ الدين نفسه ويتحول إلى مجرد أداة وآلة، لن ننتج أي عمل عظيم على الإطلاق، وأول ما يجب القيام به والخروج منه هو الوصاية: لا وسيط بين الإنسان وبين الله، لا شيخ ولا مؤسسة، كل هذا مختلق. "

- هناك فكر صوفي، ولاوجود لإسلام صوفي:

هذه واحدة من أهمّ كشوفات أدونيس الفكرية في حواره، وقد سبق له أن خاض مخاضتها الفكرية في كتاب سابق له عنوانه (الصوفية والسوريالية). ليس أفضل من أدونيس من يكشف عن هذه الفكرة المثيرة تاريخياً من حيث تأصيل مرجعية الانساق الفكرية الشائعة في ثقافتنا العربية:

" ليس هناك إسلام صوفي، هذه شائعة، لأن التصوف كدروشة فيه إساءة فهم، ويجب على كل عربي أن يقرأ تاريخه، العرب لا يقرأون تاريخهم و لا يعرفونه، يتحدثون عن التصوف و لا يعرفون ما هو التصوف. التصوف جوهرياً نظرة مخالفة بالأساس للنظرة الإسلامية، وأوّل شيء فإن الله فى الإسلام قوة مجردة من خارج العالم تدير العالم، وفى التصوف الله طاقة؟ عضوياً هو موجود فى كل شيء وفى العالم، وهذه غيّرت مفهوم الله فى الصوفية، وثانيا غيّرت مفهوم العلاقة بالآخر؛ فالآخر فى الإسلام التقليدي كافر مالم يصبح مسلماً، وفى التصوف لا يوجد كافر ومسلم، ولا يوجد كفر بالتصوف، هناك إنسان، وهناك ذات وهناك آخر. ثالثاً غيرت مفهوم الهوية؛ فالهوية ليست إرثاً، إذا كنت مسلماً تصير مسلماً، الهوية ابتكار يبتكرها الإنسان بعمله وأفكاره، فكلُّ إنسان له هويته الخاصة؛ فالهوية مسألةُ صلاحيةٍ سياسية، فهى بالمعنى العميق هوية إبداع، وجميع المفكرين يرون أن التصوف ثورة عظيمة فكرياً؛ لكن لاعلاقة لها بالإسلام، هى عاشت فى الإسلام."

- الاستعمار ليس سياسياً فحسب، هو ثقافي أيضاً:

الاستعمار الثقافي يكون في صيغ متعددة، منها – مثلاً – الاجتزاء والترجمة الكيفية لنصوص تعمل على تعزيز فكرة دون غيرها، وترسيخ فكرة الدونية الثقافية إزاء الآخر (الغرب مثلاً)، وطمس الجواهر الفكرية المضيئة في ثقافتنا العربية. لابدّ من عقل نقدي يقرأ بذهن منفتح و لا يقبلُ النتائج الجاهزة:

" ليس السياسيون وحدهم مستعمِرين فى السردية الغربية، المفكرون أيضاً مُستعمرون. لماذا المعرّي أهم من دانتي؟ لأنه كان إنساناً، بينما دانتي كان عنصرياً؛ لكننا نحن العرب ندافع عن دانتي لأن من قام بالترجمة له حذف كل شعر له علاقة بالعنصرية ووضعوا رقابة على أبياته كى يظهر بالصورة التى يتمنونها. دانتي كان عنصرياً ومتديناً بالمعنى الكنسي، ولم تكن له قيمة سوى أنه كتب باللغة الإيطالية الدارجة؛ فقيمته ثقافياً لا شعرياً ولاإنسانياً. "

- الشعر المدفوع بالايديولوجيا أسوأ أنواع الشعر:

يرى أدونيس أنّ الشعر المكتوب بمحفّزات آيديولوجية أو تراثية أو لاهوتية أو سياسية هو أسوأ أنواع الشعر لأنّه مكتوب بدافع فورة اللحظة بدلاً من أن يكون تحليقاً نحو الاقاصي الميتافيزيقية التي تلامس تطلعات الانسان الوجودية وكينونته المفارقة لمحددات الزمان والمكان و الفروضات القسرية للبيئة المحلية. الشعر الحقيقي يتعالى على الدوافع المحلية و النزوعات الآيديولوجية:

" الإيديولوجيا مثل الدين تشوه كل شيء، وتعطي الحق لمن لاحقَّ له. الشعر الأيديولوجي الذى كُتِبَ فى الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية وكل الثورات أين هو الآن؟ إنه لاقيمة له على الإطلاق. "

- المركزية الغربية عنيدة لا تقبلُ بالتعددية:

فكرة المركز / الهامش واحدة من الثنائيات المقترنة شرطياً والتي كان لها وزنٌ كبير في الدراسات الخاصة بالفكر الاستشراقي وعالم ما بعد الكولونيالية المباشرة عقب الحرب العالمية الثانية. قد نرى تحويرات محسوبة في فكرة المركزية الغربية؛ لكن هذه التحويرات لا يمكن أن تتجاوز نطاقات محدّدة. الاساس في المركزية الغربية أن تتواشج كلّ أشكال المركزية لكي تعلي شأن الهيمنة الغربية على الصعيدين الاقتصادي و الجيوسياسي. الهيمنة الثقافية الداعمة لفكرة المركزية الغربية تسعى لتحقيق مأرب السطوة المالية والتقنية وإن تقنّعت بأقنعة زائفة تعمل على خداع الآخرين. يقول أدونيس بشأن موضوعة المركزية الغربية:

" المركزية الغربية لا تريد أن تتزحزح أبداً؛ فهي المهيمنة على العالم، وكما استأصل البيض الأمريكان، السكان الأصليين فى أمريكا الشمالية، يريدون أن يفعلوا بطريقة أو بأخرى مع العالم، ولذا يجب الخلاص من المركزية الغربية... . لكن هذا لن يقبله الغرب، ومطلوب أن يقبله، وإلا ستستمر الحرب فى أوكرانيا. الغرب قام على هذه النزعة العنصرية الإمبريالية، ويجب أن يتوقف من أجل الغرب ذاته، يجب أن يعود إلى إنسانيته وأن يكون البشر متنوعين ومتعددين، وأساس العلاقة بين الدول الكبرى والعالم والشعوب هى هذه العلاقة العميقة بين الذات والآخر؛ فأنا ضد أن يكون هناك واحد يسيطر على العالم كله، لسنا مع الصين؛ لكن لايمكن أن نكون مع الأمريكان، يستحيل ذلك لأن العمل الأمريكي عمل عدواني وعنصري. "

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قد تحبُّ أدونيس أو لا تحبه. هذا ممكن؛ لكن ليس بوسعك سوى أن تحترم وتوقّر هذا العقل البشري الناشط وهو على مبعدة بضع سنوات ليكمل عيش مئوية على هذه الارض.

يكفي أنّ لمعة العين في رأس أدونيس لم تنطفئ، وأن عقله اليقظ لم يفارق شغف المعرفة وملاحقة الحركيات المؤثرة في تشكيل عالمنا، وتلكما علامتان تستوجبان دفعنا للتدقيق فيما يقول أدونيس ومايفكّرُ فيه بشجاعة.

* الرابط الالكتروني لمن يرغب في قراءة الحوار كاملاً هو: الرابط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق