حِينَمَا يَنْتَهِي ٱلْقَانُونُ ٱنْتِهَاءً بِـ«ٱلْبَيَانْ»، تَبْدَأُ ٱلْجَوْحَ، لَا شَكَّ، ٱبْتِدَاءً دَيَاجِيرُ ٱلْطُّغْيَانْ! - جون لوك
لَسْتُ مُدَلِّلا سياسيًّا بالمَعْنَى الرَّسْمِيِّ، ولا أنا حتى بِمُحَلِّلٍ سياسيٍّ بالمَبْنَى الاِسْمِيِّ، ولم يُسَاوِرْني أيُّ تَوْقٍ أو تشوُّفٍ إلى أن أتحلَّى بأيٍّ من هٰتَيْن الصفتَيْن، حسبما تقتضيهِ الحاجةُ أو حتى الرَّغبةُ. ولكنِّي أكتبُ، في هذه المناسبةِ الفريدةِ بالحينِ، أكتبُ إتباعًا عن مسألةٍ تكادُ أن تمسَّ كلَّ فردٍ من أفرادِ الشعبِ السوري في محنتِهِ الجحيميةِ والأسطوريةِ في آنٍ معًا، هذا الشعبِ العظيمِ الذي اختارَ، بمحضِ إرادتِهِ، أن يقفَ شامخًا في وجهِ نظامٍ طُغْيَانِيٍّ فاشيٍّ ظالمٍ دامَ أكثرَ من خمسينَ عامًا لزامًا. وكان هذا الوقوفُ الشعبيُّ المقدامُ والمُشَرِّفُ قد بدأَ، بالفعلِ، وفي بدايةِ مَا كانَ يُسَمَّى تَسْمِيَةً نجيعَةً، آنَئذٍ، بـ«ثورة الربيعِ الدمشقيِّ» Damascene Spring Revolution قبل أَحَدَ عَشَرَ عامًا، أو يزيدُ، من بَدْءِ اندلاعِ الثوَرَانِ الشعبيِّ العَارِمِ في طُولِ البلادِ وعَرْضِهَا. وقدْ طرحتْ تلك الثورةُ الدمشقيَّةُ، في أسماعِ الوطنِ العربيِّ وما وراءَهُ أيضًا، أغلبيةَ الشعاراتِ والأهدافِ التي طرحتْهَا «ثوراتُ الربيعِ العربيِّ» في كلٍّ من تونس وليبيا ومصر (وبالإضافةِ إلى اليمنِ، ومن ثَمَّ البحرينِ، إلى حَدٍّ مَا). حتى أنَّ مَا كانَ يُعْرَفُ، بعدئذٍ، بـ«ثورةِ البرتقالِ الأوكرانيِّ» Помаранчева Pеволюція، تلك الثورةِ التي اندلعتْ من خلالِ سلسلةٍ من الاحتجاجاتِ، في أواخرِ العامِ 2004 وأوائلِ العامِ 2005، قد عَكَسَتْ كذلكَ مَشْهَدَهَا التاريخيَّ، أوْ مشاهدَهَا التاريخيةَ، بشكلٍ أوْ بآخَرَ. وعلى الرَّغمِ من أنَّ هذا الوقوفَ الشعبيَّ العارمَ كانَ يتَّسِمُ بطابع سلميٍّ على أكثرَ من صعيدٍ، إلاَّ أنَّ «ثورةَ الربيعِ الدمشقيِّ» هذِهِ لم يَكُنِ الحظُّ حَلِيفَهَا، بأيِّمَا هيئةٍ كانتْ، وبالأخصِّ قدَّامَ مَا كانَ، ومَا زالَ، يحتازُهُ النظامُ الطغيانيُّ الفاشيُّ الحاكمُ من مَالٍ سياسيٍّ مُهَرَّبٍ ومن آلاتِ قتلٍ مستورَدةٍ. فجَاءَ اندلاعُ الثوَرَانِ الشعبيِّ العَارِمِ ذاك مُتَجَسِّدًا في اندلاعِ «الثورةِ الشعبيةِ السوريةِ» عَيْنِهَا في مطلعِ العامِ 2011 بمثابةِ «حتميةٍ تاريخيةٍ» لا بدَّ مِنْهَا، لا بمثابةِ استمرارٍ لِنُشُوبِ «ثوراتِ الربيعِ العربيِّ» في كلٍّ من تونسَ وليبيا ومصرَ، فحسْب، كما يظنُّ عددٌ لا بأسَ بِهِ من المحلِّلينَ السياسِيِّينَ والمعلِّقين الصِّحَافِيِّينَ. فكمَا أنَّ «الانتفاضةَ الشعبيةَ الأوكرانيةَ» (الأخيرةَ) قد تبدَّتْ تَبَدِّيًا بوصفِهَا اسْتِتْمَامًا موضوعيًّا لـ«ثورةِ البرتقال الأوكرانيِّ» تلكَ التي واجهت ثورةً مضادَّةً و«بَلْطَجِيَّةً» فُلُولِيَّتَيْنِ وفَاشِيَّتَيْنِ بغطاءٍ روسيٍّ مباشرٍ، فإنَّ «الثورةَ الشعبيةَ السوريةَ» (الراهنةَ، آنئذٍ) قد تجلَّتْ تَجَلِّيًا، بدورِهَا هي الأُخرى، باعتبارِهَا اسْتِكْمَالاً موضوعيًّا لـ«ثورةِ الربيعِ الدمشقيِّ» التي واجهتْ قمعًا مضادًّا و«تَشْبِيحًا» مَافْيَوِيَّيْنِ وحتى طائفيَّيْنِ أشدَّ فاشيَّةً بغطاءٍ روسيٍّ (وإيرانيٍّ) مباشرٍ كذلك.
وكلُّنَا يعلمُ، في هذِهِ القرينةِ ذاتًا، كم كانَ الطَّاغيةُ الإجراميُّ الابنُ يميلُ مُتَعَشِّقًا ومُتَحَمِّسًا إلى استخدامِ ذلك «المجازِ الفُقَاعِيِّ» في عددٍ من المناسباتِ العِجَافِ، كمثلِ عبارتِهِ «التاريخيةِ» التي تَفَوَّهَ بِهَا تَفَوُّهَ العُنْجُهِيِّ السَّقِيمِ في خطابِهِ الشهيرِ، في دارِ الأوبرا بدمشقَ العَرِيقَةِ، «ثورةُ الربيعِ، كمَا هو فصلُ الربيعِ، عبارةٌ عن فقاعةِ صابونٍ سوفَ تختفي [سَرِيعًا]»، أو حتى كمثلِ عبارتِهِ «التاريخيةِ» الأُخرى التي نطقَ بِهَا بِنَبْرَةٍ أكثرَ عُنْجُهِيَّةً وأكثرَ سُقْمًا في حوارِهِ الشهيرِ كذاكَ، هو الآخَرُ، مع قناةِ «روسيا اليوم» باللغةِ العربيةِ الأُمِّ، «الأكاذيبُ بشأني فقاعاتُ صابونٍ قصيرةُ العمرِ، [تمامًا كحَالِ ثورةِ الربيعِ العربيِّ]»، إلى آخرِهِ من تلك العبارات «الفُقَاعِيَّةِ» السَّقيمةِ بالمعنى السَّرِيريِّ، ولا ريبَ في هذا بَتًّا. ثَمَّةَ، إذن، عداءٌ نفسانيٌّ اصطلاحيٌّ من نوعٍ جِدِّ خاصٍّ بينَ فصلِ الربيعِ ذاكَ وبينَ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الابنِ هذا، عداءٌ نفسانيٌّ اصطلاحيٌّ مردُّهُ، في الأصلِ، إلى بداياتِ اندلاعِ «ثورةِ الربيعِ الدمشقيِّ» بالذاتِ الآنفةِ الذكرِ قبلَ قليلٍ. وقد عَمَدَ إعلامُ هذا الطَّاغيةِ الإجراميِّ الابنِ عَمْدًا إلى إلصاقِ أقذعِ الشتائمِ وأقبحِهَا وأشنعِهَا بهذا «المجازِ الربيعيِّ»، وإلى حدِّ أنَّ فصلَ الربيعِ ذاتَهُ، على اعتبارِهِ فصلاً سريعَ الزَّوالِ كـ«الفُقَاعَةِ» بالإسهابِ المجازيِّ ذاتِهَا، أصبحَ شتيمةً قبيحةً شنيعةً في حدِّ ذاتِهِ. وهكذا، فقد ظلَّ خطابُ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الابنِ يعيدُ مرارًا على الأسماعِ فحواءَ خطابِ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الأبِ في المسائلِ الجوهريةِ كافَّةً، ولكنْ بتغييرٍ أسلوبيٍّ متعمَّدٍ ومقصودٍ ولافتٍ للنظرِ والاِنتباهِ، تغييرٍ من لغةِ افتعالِ كلٍّ من «الاستعلاءِ» و«الاستكبارِ» لدى الكاتبِ المأجُورِ المأمُورِ بكتابةِ خُطَبِ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الأخيرِ إلى لغةِ اصطناعِ كلٍّ من «الحذلقة» و«الفذلكة» لدى الكاتبِ المأجُورِ المأمُورِ، بدورِهِ هو الآخَرُ، بكتابةِ خُطَبِ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الأوَّلِ. غيرَ أنَّ «الثورةَ الشعبيةَ السوريةَ» التي انفجرتْ باندلاعِ لهيبِهَا الشعبيِّ العَارِمِ ذاكَ، حِينَمَا «أَتَاكِ الرَّبِيعُ الطَّلْقُ يَخْتَالُ ضَاحِكًا» أيَّمَا خُيَلاءٍ واختيالٍ، كانتْ قدْ وضعتِ الطَّاغيةَ الإجراميَّ الابنَ، هٰهنا بالمكانِ وهٰهناكَ بالزمانِ، أمامَ محكِّ مصيرٍ حَاسِمٍ مُقَرَّرٍ تقريرًا كانَ، وما زالَ، أبعدَ وقعًا وتأثيرًا وعاقبةً بكثيرٍ من لغةِ الشتائمِ القبيحةِ والشنيعةِ التي ألصقَهَا كلَّ الإلصَاقِ باللسَانِ الذَّريبِ هو وإعلامُهُ العتيدُ بفصلِ الربيع في حَدِّ ذاتِهِ. وفي التَّجَلِّي الأَخِيرِ والتَّجَلِّي مَا بعدَ الأَخِيرِ، إذن، وليستْ فصولُ «فقاعاتِ الصابونِ» بالذاتِ والذوَاتِ تلكَ، في واقعِ الأمرِ، سوى أبكرِ الفصولِ التي اجترَّهَا هذا الطَّاغيةُ الإجراميُّ الابنُ (المَصْنُوعُ) اجترَارًا – ولا شكَّ، لا شكَّ، في هذا البتَّةَ، للتأكيدِ مرَّةً أُخرى.
في هذِهِ البلادِ العربيةِ الحزينةِ والرَّثِيمَةِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، لمْ يتوقَّفْ أزلامُ النظامِ الطُّغْيَانيِّ الفاشيِّ الحاكمِ، أيًّا كانَ من الماءِ إلى الماءِ، عن الخِدَاعِ البَخْسِ لِسَائِرِ الشعوبِ المغلوبةِ على أمرِهَا، وذلكَ من أجلِ استمرَارِهِمْ في البقاءِ مَدًى ومَدًى في أكنافِ سُلْطَتِهِم مُطْلَقَةً بالذاتِ، ولمْ يتوقَّفْ هؤلاءِ الأزلامُ أيضًا عن التَّضْلِيلِ السَّافرِ والصَّارِخِ بأنَّهم ليسُوا من نوعِ «العَمَالَةِ» للأجنبيِّ، ولا حتى من أيِّ شكلٍ من أشكالِ «التَّبَعِيَّةِ» لهُ، في شيءٍ. وما الغايةُ المَرْجُوَّةُ من هذا الخِدَاعِ البَخْسِ ومن هذا التَّضْلِيلِ السَّافرِ والصَّارخِ، في حقيقةِ الشأنِ، سوى تكبيلِ الشعوبِ المغلوبةِ على أمرِها تلكَ، وإكراهِها من ثَمَّ على التخلِّي حتى عن التطلُّع إلى حريَّاتِها المُسْتَحَقَّةِ، بذريعةٍ فظيعةٍ أو بأُخرى. فليسَ مُسْتَبْعَدًا ولا مُسْتَغْرَبًا، إذن، أن تكونَ تلك الأنظمةُ الطُّغْيَانِيَّةُ الفاشيَّةُ الحاكمةُ، بأسرِها من الماءِ إلى الماءِ – لكي نعيدَ الإرْدَافَ مَرَّةً أُخرى، قد توصَّلتْ إلى هذِهِ الغايةِ المَرْجُوَّةِ، بأُحْبُولةٍ ذَلُولَةٍ أو بأُخرى، وذلكَ استئناسًا سَنِيًّا بِمَا أدْلَتْ بِهِ الكاتبةُ البريطانيةُ آني بيزَنْتْ، ذاتَ مَرَّةٍ: «إِنَّ الشُّعُوبَ [كَافَّةً، حَقِيقَةً] لَا تَتَخَلَّى عَنْ حُرِّيَّاتِهَا المُسْتَحَقَّةِ اسْتِحْقَاقًا إلاَّ تَحْتَ وَطْأَةِ الخِدَاعِ وَالتَّضْلِيل». ولٰكِنْ، ويا لَلْعَجَبِ العُجَابِ، هٰهنا، مَا إنْ يبدأُ التدخُّلُ الأجنبيُّ المباشرُ، أو غيرُ المباشرِ، في شؤونِ هذِهِ الدولةِ «الجُمْهُورِيَّةِ»، أو تلكَ الدولةِ «الجُمْلُوكِيَّةِ» بالتَّوَازِي، وعلى الأخَصِّ في أزمنةِ اندلاعِ «الثوراتِ الشعبيةِ»، أو نُشُوبِ «الحُروبِ الأهليةِ»، حتى يُفْتَضَحَ أمرُ هذا الخِدَاعِ البَخْسِ وهذا التَّضْلِيلِ السَّافرِ والصَّارخِ، قبلَ أن يُفْتَضَحَ أمرُ أيِّ شيءٍ آخَر – وكانَ التدخُّلُ الإيرانيُّ والروسيُّ في شؤونِ سوريا على المَلَأِ المَلِيءِ يَسِيرُ جَهْرًا، وكانَ التدخُّلُ الأمريكيُّ و/أو البريطانيُّ، كذلكَ، من وراءِ الكواليسِ يَسِيرُ سِرًّا. من هنا، يتجلَّى نفاقُ الغربِ «الديمقراطيِّ»، أكثرَ مَا يتجلَّى، في سَعيِهِ وراءَ «إنقاذِ» طُغَاةٍ إجرَامِيِّينَ لمْ يَحِنْ لَهُمْ، بعدُ، أن يتعلَّمُوا من ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ الذي تَعَامَى بِهِ أسلافُهم من الطُّغاةِ الإجرَامِيِّينَ «الأَمَاثِلِ»، وقد تلقَّوْا نهايتَهُمُ الوخيمةَ، لا مَحَالَ لا مَحَالَ، وسَوَاءً كانتْ هذِهِ النهايةُ اِقصاءً أمْ اعتقالاً أمْ حتى إعدامًا أوْ قتلاً. ومن هنا، أيضًا، يتجلَّى نفاقُ الغربِ «الديمقراطيِّ» هذا بالذاتِ، أكثرَ ما يتجلَّى، في ذلك التناقضِ الكبيرِ بينَ التصريحَيْنِ الأمريكيِّ والبريطانيِّ إذَّاكَ حولَ التعاملِ «الإنسانيِّ الحَمِيمِ» مع الموضوعِ السوريِّ، تحديدًا، ذينكَ التصريحَيْنِ اللذينِ خَلَصَا إلى نتيجةٍ مفادُها ليسَ الحفاظَ على النظامِ الطُّغْيَانيِّ الفاشيِّ الحاكمِ في سوريا (لمآربَ إمبرياليةٍ معروفةٍ) فحسْب، بل كذلكَ – والأنْكَى من ذلكَ كلِّهِ، تَمْوِيهَ فحوى العلاقةِ العضويَّةِ المعقَّدةِ الشَّائِكَةِ بينَ تلكَ «الديمقراطياتِ» الليبراليةِ الغربيةِ وبينَ هذِهِ الديكتاتورياتِ الأوتوقراطيةِ «العربيةِ»، أَيْنَمَا حَلَّتْ.
ومَعَ الإقرارِ الرَّسْمِيِّ الذي أقرَّتْ بِهِ بضعةٌ من هذِهِ الديكتاتورياتِ الأوتوقراطيةِ «العربيةِ» بأنَّ منظَّمةَ مَا يُسَمَّى بـ«حزبِ الله»، على سبيلِ المثالِ، إنَّمَا هي منظَّمةٌ مأجورةٌ إرهابيةٌ بامتيازٍ، صَارَ واضحًا وجليًّا أكثرَ من أيِّ زمَانٍ مَضَى بأنَّ المشروعَ الأمريكيَّ بالعَيْنِ لم يفشلْ في تعاملِهِ « الإنسانيِّ الحَمِيمِ» مَعَ الموضوعِ السوريِّ، على الإطلاقِ. لكنَّهُ تظاهرَ مُذَّاك بالفَشَلِ الذَّريعِ عن عَمْدٍ وعن دِرَايَةٍ، وبالأخصِّ أمامَ تمدُّدِ وتَمَادِي المشروعِ الإيرانيِّ برعايةٍ «أشدَّ حَمِيمِيَّةً» من المشروعِ الروسيِّ بالذاتِ، بحيثُ إنَّ هٰذينِ المشروعَيْنِ الأخيرَيْنِ – والأهمُّ من ذلكَ كلِّهِ، كانَا قدْ أدَّيَا مَا أدَّيَاهُ بمَا يتواءَمُ ومصَالحَ المشروعِ الصُّهْيُوني بالذاتِ، هو الآخَرُ. عِلاوَةً على ذلكَ، وفيمَا يتعلَّقُ بالثورةِ الشعبيةِ السوريةِ منذُ بواكيرِ اندلاعِهَا، على وجهِ التحديدِ، فإنَّ ما يُعْرَفُ الآنَ بـ«نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ كانتْ، ولَمَّا تَزَلْ، أسْوَأَ، لا بَلْ أشدَّ سُوءًا وأشدَّ وَطْأَةً، بكثيرٍ من «الڤيتو» الروسيِّ الذي تكرَّرَ أكثرَ من ثلاثِ مراتٍ حتى، ولا شكَّ في هذا بتاتًا. ففي حينِ أنَّ كارثةَ «رَافِضِيَّاتِ الڤيتوهاتِ» الروسيةِ الأكثرِ من ثلاثٍ قدْ أسفرتْ إسْفَارًا – هذا صَحِيحٌ، عن قتلِ وعن تشريدِ المواطناتِ والمواطنينَ السوريِّينَ العُزَّلِ والأبرياءِ بمئاتِ الألوفِ عَدًّا أمَامَ آلاتِ الموتِ العشوائيِّ، فإنَّ طامَّةَ «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ بالحَافِ قد أفضتْ إفْضَاءً، بدورِهَا هي الأُخرى، إلى قتلِهِمْ وإلى تشريدِهِمْ بالملايينِ بالعَدِّ أمامَ آلاتِ الموتِ العشوائيِّ نفسِهَا، إن لمْ تَكُنْ أشدَّ شرَاسَةً وأشدَّ فَتْكًا منهَا حتى. ذلك لأنَّ أولى «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ هذِهِ كانتْ قدْ حالتْ حُؤُولاً يقينيًّا دونَ إنشاءِ منطقةِ «حظرٍ جويٍّ» من أجلِ حمايةِ الشعبِ السوريِّ الأعزلِ من القصفِ الوحشيِّ المتواصلِ من طرفِ النظامِ الطُّغْيَانيِّ الفاشيِّ الحاكمِ، وبمشاركةِ كلٍّ من أسيادِهِ وأحلافِهِ وميليشياتِهِ المعروفةِ بالأدنى التخمينِيِّ على الصَّعِدَيْنِ الإقليميِّ والدُّوَلِيِّ، قبلَ كلِّ شيءٍ. وذلكَ لأنَّ ثانيةَ «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ هذِهِ كانتْ كذاكَ قدْ منعتْ من تشكيلِ «جيشٍ سُوريٍّ وطنيٍّ» حقيقيٍّ قوامُهُ من الضُّباطِ والجُنودِ الذين انشقُّوا بدئيًّا عن جيشِ النظامِ الطُّغْيَانيِّ الفاشيِّ الحاكمِ بأعدادٍ هائلةٍ في واقعِ الحَالِ، مِمًّا أدَّى إلى شَلِّ حركةِ هؤلاءِ المنشقِّين شَلاًّ تامَّا، بعدَ كلِّ شيءٍ. وذلكَ لأنَّ ثالثةَ «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ هذِهِ كانتْ كذلكَ قدْ حظَّرتْ كلَّ التحظيرِ على مَنْ تبقَّوْا مِمَّا سُمِّيَ بـ«الجيشِ السُّورِيِّ الحُرِّ» احتيازَ أيٍّ من الصَّوَارِيخِ المضادَّةِ للطيرانِ، مثلاً لا حَصْرًا، بغيةَ التَّصَدِّي الفعَّالِ للقصفِ الوحشيِّ المتواصلِ، الآنفِ الذكرِ. وقدْ رَدَّدَتْ تحليلاتٌ سياسيةٌ كثيرةٌ أصداءَ «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ المَعْنِيَّةِ هذِهِ، بنَحْوٍ أو بآخَرَ، حينذاكَ، بيدَ أنَّهَا لمْ تَسْتَرْعِ أيًّا من ذينكَ الانتباهِ والاهتمامِ الكافِيَيْنِ والوَافِيَيْنِ، حقيقةً، إلاَّ بعدَ أنْ سَبَقَ السَّيْفُ العَذَلَ، وَيَا لَلْأَسَفِ الشَّدِيدِ!
وهٰكذا، وبسببٍ من هٰذا القَتْلِ البَهِيمِيِّ ومن هٰذا الدَّمَارِ الجَحِيمِيِّ، دونَ غيرِهِمَا، بَاتَ الكثيرُ من بناتِ وأبناءِ هٰذا الشعبِ السُّورِيِّ الأبِيِّ العَظِيمِ، سَوَاءً تواجَدُوا في الدَّاخِلِ أمْ حتى تَشَرَّدُوا في الخَارِجِ، بَاتُوا يعتقدونَ الآنَ اعتقادَ المُتَيَقِّنِينَ كُلِّيًّا، أو بالكَادِ، بأنَّ الثورةَ الشعبيةَ السوريةَ هٰذِهِ لَمْ تُحَقِّقْ لَهُمْ أيَّ شيءٍ، في حقيقةِ الخَطْبِ بَتَّةً، مِمَّا كانوا يتوقونَ أشدَّ التَّوْقِ إليهِ من حريةٍ ومن كرامةٍ ومن عدالةٍ اجتماعيةٍ – وإن كانتْ، مَعَ ذلكَ، في الحُدُودِ الدُّنْيَا، بادئَ ذِي بَدْءٍ. ولٰكنَّ الواقعَ الفعليَّ، حتى بكلِّ كآبتِهِ وبكلِّ مرارتِهِ وبكلِّ قماءَتِهِ فِيمَا يَنْجَلِي، إنَّمَا يقولُ لَهُمْ قَوْلاً دونمَا تردُّدٍ أو حتى تلكُّؤٍ: «فعلى الرَّغْمِ من أَنَّ هٰذِهِ الثورةَ الشعبيةَ السوريةَ تبدُو، في ظاهِرِ الأمرِ، أنَّهَا تسيرُ من «آلٍ سَيِّءٍ إلى مَآلٍ أَسْوَأَ»، إلاَّ أنَّهَا قدْ حَقَّقَتْ، على أقلِّ تقديرٍ، هدفَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ لَمْ تحقِّقْهُمَا أَيَّةُ ثورةٍ، أو حتى أَيَّةُ انتفاضةٍ، شعبيةٍ فعليَّةٍ على هٰكذا نظامٍ طُغْيَانيِّ فاشيٍّ ظالمٍ منذُ أكثرَ من خَمْسِينَ حَوْلاً «مُحْتَلاًّ» – حتى لَوْ تظاهَرَ طاغيةُ هٰذا النظامِ ومَنْ وَالَاهُ باسْتِتْبَابِ القانونِ بالبَيَانِ (على النقيضِ مِنِ اجْتِيَاحِ دَيْجُورِ الطُّغْيَانِ)، وحتى لَوْ أصْدَرَ، مِمَّا أصْدَرَهُ في الآونةِ الأُولى والأخيرةِ، مَرْسُومًا تشريعيًّا يَقْضِي، من جُمْلَةِ مَا يَقْضِي، بمنحِ عفوٍ شاملٍ لكلِّ مواطنٍ قدْ حملَ السلاحَ، أو قدْ حَازَهُ لِأيِّمَا سببٍ من الأسبابِ، ولكلِّ مواطنٍ كانَ أصْلاً فَارًّا من وَجْهِ العدالةِ، أو كانَ متواريًا عن الأنظارِ كلَّ التَّوَارِي، ثمَّ بادرَ «مُهْتَدِيًا مِنْ لَدُنْ هَادٍ في السَّمَاءِ اهْتِدَاءً» إلى تسليمِ نفسِهِ لهٰكذا نظامٍ بأسرعِ وقتٍ ممكنٍ، مع ذٰلكَ». ويمكنُ، هٰهنا بعدَ كلِّ ذاكَ، إيجَازُ هٰذينِ الهدفَيْنِ الأَسَاسِيَّيْن، على النَّحْوِ التَّالِي: أولاً، تقليصُ الفَوَارِقِ المَادِّيَّةِ و/أو المعنويَّةِ بينَ «الحَاكِمِ» و«المَحْكُومِ» تقليصًا مَلْحُوظًا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَثِيلٌ: إذْ لمْ تبقَ إذَّاكَ صُورةٌ أو جداريةٌ للطاغيةِ الإجْرَاميِّ الابنِ، أو حتى للطاغيةِ الإجْرَاميِّ الأبِ، إلاَّ وتمزَّقتْ ثمَّ تهشَّمتْ، ولم يبقَ تمثالٌ أو صَنَمٌ لأيٍّ منهُمَا إلاَّ وتصدَّعَ ثمَّ تحطَّمَ، في غُضُونِ السنتَيْنِ الأولَيَيْنِ من اندلاعِ الثورةِ الشعبيةِ السُّورِيَّةِ، وبغضِّ الطَّرْفِ كُلِّهِ عن أولئكَ المؤيِّدينَ، أو «المُنَاصِرِينَ»، الجَلِيِّينَ أو الخَفِيِّينَ، أولئكَ الذينَ لا يَعْدُونَ أنْ يكونوا أَقْنَانًا عِتَافًا بِغِرَارِ طُفَيْلِيَّاتٍ مرئيةٍ أو لامرئيةٍ، ليسَ غيرَ. وثانيًا، تقليصُ الفَوَارِقِ المَادِّيَّةِ و/أو المعنويَّةِ أيضًا بينَ «الغنيِّ» و«الفقيرِ» تقليصًا مَلْحُوظًا لَمْ يَأْنِفْ لَهُ نَظِيرٌ كذٰلكَ: إذْ أَنَّ الأغلبَ السَّاحِقَ من أولئكَ الذينَ كانوا يعتبرونَ أنفسَهُمْ كلَّ الاعتبارِ مِنْ «طبقةِ الأغنياءِ» أصْلاً، بِمَنْ فيهِمْ أولئكَ الذينَ كانوا يسْعَوْنَ أيَّمَا سَعْيٍ (وإلى حَدِّ اللُّهَاثِ) وَرَاءَ الاِنْتِمَاءِ إلى هٰكذا طبقةٍ بنحوٍ أو بآخَرَ، لم يكونوا في سَرَائِرِ أنفسِهِمْ يَتَمَنَّوْنَ اندلاعَ ثورةٍ شعبيةٍ عَارِمَةٍ كهٰذِهِ، في وَاقِعِ الحَالِ، وذٰلك لأنَّهَا «ثورةٌ» قدْ أفقدتْهُمُ الكثيرَ الجَمَّ حَقًّا مِمَّا كَانَ يُمَيِّزُهُمْ، أو كَانَ يُفَرِّدُهُمْ حتى، عن «طبقةِ الفقراءِ والمُعْدَمِينَ» بالذاتِ، كالمَالِ والنفائسِ والعقاراتِ، وغيرِهَا.
فأمَّا الذين لا يملكون، هٰهنا، حتى شَرْوَى نَقِيرٍ، فالإشرَاقَاتُ البَيِّنَاتُ من كَلامِ الحَقِّ تقولُ لَهُمْ كذاكَ، بطبيعةِ الحَالِ: «لا تَخَافُوا وَلا تَجْزَعُوا وَلا تَقْنُطُوا، وَقُولُوا إنَّ اللهَ مَعَنَا». ولا أعني هُنَا أيضًا، بِأَيَّتِمَا عِبَارَةٍ كانتْ، ذلكَ «اللهَ» الذي لَمْ تَفْتَأْ كلُّ طَائِفَةٍ من تِيكَ الطَّوَائِفِ «المُثْلَى» تنظرُ إليهِ نظرتَها الأُحاديةَ والنهائيةَ دونَ سِوَاهَا قَاطِبَةً، والذي لم تَنْفَكَّ تَقْتَتِلُ جُلاًّ باسْمِهِ أعنفَ الاِقْتِتَالِ حتى هذِهِ اللحظةِ من هٰكذا زَمَانٍ «كُورُونِيٍّ» عَصِيبٍ. وأمَّا الذين آثَرُوا أيَّمَا إِيثَارٍ أنْ يكونوا عبيدًا مَاهِنِينَ عِتَافًا أَذِلاَّءَ كلَّ الذُّلِّ لِأَيٍّ من أولئكَ الطُّغَاةِ الإجرامِيِّينَ وأَمْثَالِهِمْ، ومَا بَرِحُوا ينافِحُون بكلِّ مَا أوتُوا من قُوَّةٍ ومن عَزْمٍ وتحمُّسٍ عن عبوديَّتِهِمْ وعن مَاهِنِيَّتِهِمْ هٰتينِ، فأقولُ لهم كذاكَ، على الأَقَلِّ كَمَا قالَ بنجامين فرانكلين في هٰكذا سِيَاقٍ عن يقينٍ مُطْلَقٍ أو ختى شِبْهِهِ، ذاتَ مرَّةٍ: «مَنْ يُضَحِّي بِحُرِّيَّتِهِ المُسْتَحَقَّةِ [كُلاًّ أوْ جُلاًّ] مِنْ أَجْلِ أَمْنِهِ، لا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّةً وَلا يَسْتَحِقُّ حتى أَمْنًا». وأما الطُّغَاةُ الأغبياءُ أنفسُهُمْ، فأقولُ لهُمْ هُمُ الآخَرُونَ كَمَا قالَ أَزْدَشِيرُ بنُ بابك، ذاتَ يومٍ: «وَلَئِنْ رَغِبَ الحَاكِمُ عَنِ العَدْلِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، رَغِبَتِ الرَّعِيَّةُ عَنِ الطَّاعَةِ، لا مَحَالَ». فَمَا الذي تَرْتَقِبُونَهُ، أيُّهَا الطُّغَاةُ الأغبياءُ، حِينَمَا تَرْغَبُ الشعوبُ عَنِ هٰذِهِ الطَّاعَةِ؟ – وللكَلَامِ بَقِيَّةٌ!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق